شتان بين فكر إبن رشد وفكر أئمة الإسلام وعلمائه المعاصرين، أولئك الذين لا يرون في النص إلا غير أنه جامد، صالح لكل زمان ومكان ولا يجوز تأويله. ولعل هذا الإصرار على جمود الفكر الإسلامي هو الذي عطل مسيرة المسلمين بعد أن سقط نبراس حضارتهم. وواقع اليوم أفضل دليل على ذلك.
اللفظ الإفرنجي ?Civilization? مشتق من اللفظ اللاتيني ?Civils? إي الإنتماء إلى مجتمع. إذن الحضارة في أصلها اللغوي والإفرنجي على السواء. الحضارة لفظ يستخدم للإشارة، بصفة عامة إلى انتظام الحياة الاجتماعية في نسق عام وموحد. ويشترك لفظ الحضارة مع لفظ الثقافة في أن كلا منهما كان يستخدم في الأصل للإشارة إلى معنى واحد وهو "المسار" Process" وهو معنى يفيد التطور والتغير والتحول والصيرورة الدائمة. هذا المعنى المشترك بدوره يشير إلى وحدة الحضارة الإنسانية، حيث إن لفظ الحضارة سواء في معناه العربي أو الإفرنجي، يشير إلى نسق اجتماعي موحد ينطوي على تقدم فني وتكنولوجي وثقافة معقدة وتنظيم هرمي، كما أنه في اللغة الإفرنجية المضاد للبربرية، وفي اللغة العربية المضاد للبداوة. هذا المعنى المشترك بين اللغتين العربية والإفرنجية، يصلح أن يكون مقاسا نقيس به مدى تقدم المجتمع فيكون لدينا ما يمكن تسميته بمجتمع متحضر في مقابل مجتمع أقل تحضرا. والجدير بالتنويه في هذا التعريف أنه لا يكاد يفرق بين الحضارة والثقافة. بيد أن لفظ الحضارة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر اتخذ منحى أوسع، فقيل أن الحضارة هي قمة الإنجاز البشري، وهو معنى يتضمن أن الحضارة أشمل من الثقافة على المجتمع أيا كان، أما الحضارة فتخص مسار البشرية برمتها. هذا المسار، طبقا لعلم الأنثروبولوجيا (علم دراسة الإنسان)، بدأ بحكم الأسطورة ثم تطور إلى حكم العقل منذ نشأة الحضارة، وذلك أن الحضارة نشأت بابتداع الإنسان للتكنيكك الزراعي، وقد كان من شأن هذا التكنيك أن وعى الإنسان أنه قادر على التحكم في البيئة الطبيعية تحكما عقلانيا. وحيث إن هذا الوعي لم يكن مكتملا، فالتحكم أيضا لم يكن عقلانيا تماما، بل كان مخلوطا بالتفكير الأسطوري. ومن هنا نشأ الصراع بين العقل والأسطورة. وقد انعكس هذا الصراع على المجتمعات وعلى ثقافاتها، ومن ثم أصبحنا نقيس درجة التقدم الحضاري للبشرية بدرجة عقلانيتها، وبالتالي نقيس درجة التقدم الثقافي لمجتمع معين بدرجة عقلانية. تأسيسا على تحديدنا لمفهوم الحضارة والعلاقة بين الحضارة والثقافة يمكن تحديد مفهوم التحدي الحضاري وهو أن مجتمعا معينا تخلف عن مواكبة ?عقلانية? المسار الحضاري، في عصر معين. فإذا أراد مجابهته فعليه معرفة أسباب تخلفه ومعرفة كيفية مجاوزة هذا التخلف، وحيث إن المجتمعات بثقافاتها متباينة من حيث درجة تحضرها، فإنه لا بد لهذه الثقافات أن تدخل في حوار يسهم في الكشف عن أسباب التخلف وأسباب التقدم. ونضرب مثالا لما نقول بما حدث ويحدث للعالم الإسلامي، فإذا قلنا عن هذا العالم أنه قد تخلف فهو إذن يواجه تحديا حضاريا، أي يواجه مجتمعات ثقافاتها يغلب عليها الطابع العقلاني، وبالتالي فإنها ثقافات قادرة على التحكم في البيئة الطبيعية، ومن ثم التحكم في الآخرين. السؤال إذن: لماذا تخلف العالم الإسلامي? بيد أن هذا السؤال يعني أن العالم الإسلامي لم يكن متخلفا، وهو بالفعل لم يكن كذلك، إذ كان متقدما في العصر العباسي وهو الذي يسمى بالعصر الذهبي، إذ كان منفتحا على ثقافة الآخر وهي الثقافة اليونانية فترجمها إلى العربية، وتمثلها بعملية إبداعية فأنتج فلسفة وعلما وفنا. وتأثر الآخر الأوروبي بهذه الثقافة الإسلامية فترجمها وأنتج عصر النهضة وعصر التنوير اللذين يمثلان الأساس الثقافي الذي أفضى إلى بزوغ الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر والتي بدورها أفرزت الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن العشرين. بيد أن العالم الإسلامي قد تخلف عن المشاركة في هذه المسيرة، أي أنه لم يتمثل منتجات هذين العصرين، النهضة والتنوير، فأصبح محكوما بدلا من أن يكون متحكما، وعلينا الآن البحث عن أسباب عجز العالم الإسلامي عن هذا التمثل. وصلت الفلسفة الإسلامية إلى مداها في العقلانية عند ابن رشد عندما ربط بين مشروعية تأويل النص الديني وعدم مشروعية الإجماع عند التأويل، وبالتالي يمتنع التكفير، أي لا تكفير مع التأويل في مقولته الشهيرة ?لا يقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل?. ومع ذلك فقد كفر ابن رشد وحوكم وأحرقت مؤلفاته ونفى، ومن يومها والتفلسف في العالم الإسلامي في مأزق. بينما في أوروبا كان التفلسف مشروعا، فقد ترجمت مؤلفات ابن سينا والفارابي وابن رشد ودارت معارك فلسفية حول آراء ابن رشد، وانقسم الفلاسفة في أوروبا إلى فريقين: فريق مؤيد، وفريق معارض، وفي النهاية انتصر الفريق المؤيد لعقلانية ابن رشد وسار في الطريق العقلاني في تأسيس التنوير في أوروبا. أما في العالم الإسلامي فقد حدث العكس، بحيث كان الانتصار لأعداء التنوير، أي لأعداء العقلانية الذين يرفضون مبدأ نسبية الحقيقة وتعددها فيما يختص بالاجتهادات البشرية في فهم النص الديني، أي يرفضون إعمال العقل ويحصرون الإيمان في الفهم الحرفي للنص الديني. والآن ثمة سؤالان:
أين العالم الإسلامي في النظام العالمي الجديد الذي تتشكل ملامحه من خلال الإرهاصات التي تستند إلى منتجات العقلانية الغائبة في الثقافة العربية? - وكيف تستقيم ثقافة الإجماع مع ثقافة التعدد التي هي من أهم مظاهر الديمقراطية كأساس للمجتمع المعاصر? عن هذين السؤالين نجيب: أنه في نهاية القرن العشرين ثمة إرهاصات لنظام عالمي جديد تستند إلى ثلاثية هي: ثورة المعلومات، وانفجار المعرفة، وثورة الكمبيوتر. معنى ذلك أن صلب القضية لا يكمن في الثلاثية، وإنما يكمن في هذه الإرهاصات التي هي في حقيقة أمرها اجتهادات عقلانية في فهم وتأويل الثلاثية. وفي عبارة أخرى يمكن القول أن صلب القضية يكمن في إعمال العقل استنادا إلى التأويل، الذي هو بحكم طبيعته متعدد، الأمر الذي يستلزم تعدد الحقيقة فيما يختص بالاجتهادات البشرية، وحيث إن هذا التعدد مشروع بحكم مشروعية التأويل، فتعدد الحقيقة لا يعني الدخول في صراع، وإنما يعني الدخول في حوار يسمح ببلورة الإرهاصات المشار إليها من أجل تكوين نظام عالمي جديد يقوم على الحوار وليس على الصراع، والحوار هو أساس الديمقراطية، التي يقوم عليها المجتمع المعاصر أيا كانت هويته الثقافية.والسؤال الجوهري الآن: كيف يمكن للعالم الإسلامي أن يلحق بركب المسار الحضاري العقلاني وأن يسهم بندية كمشارك لا كمستهلك للمنتجات الحضارية للثقافة العقلانية في بلورة النظام العالمي المستقبلي الذي يستلزم الحوار وليس الصراع? تحقيق الندية المنشودة يستلزم وجود ظاهرة التعددية في الثقافة الإسلامية كشرط للتفاعل بين الثقافات من أجل الخروج من حالة التخلف والانغلاق الحالية. والقبول بالتعددية من شأنه أن يجعل دور العالم الاسلامي ككتلة حضارية، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، في بناء النظام العالمي الجديد، يقوم على المشاركة مع باقي الكتل العالمية التي تنتمي إلى ثقافات متعددة، في منظومة واحدة تستند إلى منتجات العقلانية والمتمثلة في ثلاثية ثورة المعلومات وانفجار المعرفة وثورة الكمبيوتر. يبقى بعد ذلك السؤال الأخير الذي أختتم به وهو: إذا فرضنا أن العالم الإسلامي اليوم محكوم بالأصولية، وإذا كانت الأصولية تكفر العقلانية التي تقوم على نسبية الحقيقة وتعددها، فكيف يمكن للعالم الإسلامي مجابهة التحدي الحضاري وهو مكبل بهذه الأصولية? أظن أن الجواب عن هذا السؤال مرهون بالنخبة العلمانية ورجال الدين المستنيرين. د. منى أبوسنة عن "روز اليوسف"