لقد مر ثلاثون عاماً مذ لحن رياض السنباطي الأعمال الثلاثة، وكان يمكن أن يستمر هذا التغافل زمناً آخر يضاف إلى الزمن الضائع المهدور تجاه هذه الألحان، لولا عودة أحمد السنباطي نجل رياض السنباطي لإثارة هذا الأمر في بعض الفضائيات التلفزيونية، ليثير الجدل من جديد طالباً حسم الموضوع كلياً.
ويبدو أن الأمر بات أكثر تعقيداً، فالسنباطي الأب لحن القصائد الثلاث وقام بتلقينها لفيروز في شهر أيار عام 1980، وهي: «آه لو تدري بحالي» نظم عبد الوهاب محمد، و«بيني وبينك خمرة وأغاني» و«أمشي إليك» للشاعر الكبير جوزيف حرب. وهذه القصائد غناها السنباطي وسجلها بمرافقة عوده وأرسلها لفيروز قبل أن يلقنها إياها، وهذه التسجيلات متداولة بين محبي فن السنباطي على الأقل، وهي في تقديري من الروائع التي لاتنسى لأن السنباطي استنبط أسلوباً جديداً لفيروز، وأضفى على تلك الألحان مساحات صوتية تتيح لفيروز مجالات رحبة لتنطلق خارج المألوف في غنائها الذي ظل على وتيرته مذ غنت في بداياتها «ماروشكا، وسمراء مها وإلى راعية». ويبين الحوار الذي أجراه الراحل جورج ابراهيم الخوري رئيس تحرير مجلة الشبكة مع السنباطي في أيار عام 1980، ماذهب إليه السنباطي في تلك الألحان، والثوب الجديد الذي أراد لفيروز أن تلبسه وكان سؤاله الأول هو:
قلت في المؤتمر الصحفي الآتي: عند فيروز مقامات في صوتها لم تطرق بعد سمع الجماهير.. فيها طبقة صوتية وأنا بالألحان التي وضعتها أظهرت هذه الطبقات.
فعلا، أنا أظهرت هذه الطبقات التي كانت لاتزال مخنوقة، سأتعبها.. وسأجعلها تغني وتتعب..
طبقات عالية جداً، وأنا مضطر أن أعطي في الألحان لبعض الأبيات طبقات عالية تناسب الكلام.. المعنى نفسه يدفعني لذلك.. وهي راضية كل الرضى.. في البدء كانت متخوفة، السنباطي حليحن لها.. الرجل الذي لحن لأم كلثوم..
والسنباطي مقتنع بصوت فيروز لتؤدي أغنية من نصف ساعة؟!
لو لم أكن مقتنعاً كل الاقتناع، لما وضعت لها تلك الألحان ولاسيما «بيني وبينك خمرة وأغاني» بالشكل ده.. فيروز قادرة.. وعندما ستستمع لفيروز ستدهش، ستلتقي لوناً غريباً، وأنا سعيد جداً.. إنها تغني بالطريقة التي أريدها.. عندما ستستمع إليها سترى أنها مختلفة اختلافاً كلياً، وربما وفقها الله، في أنها تنطق الشعر بشكل سليم، وأنا لدي قدرة توجيه المطربة.. تغيرت ملامحها تماما، وأنا سعيد وهي فرحانة من هذا التغير جداً.. وفي الأيام الخمسة التي أمضيتها في بيروت، كنا نجلس معاً يومياً جلستين، من العاشرة صباحاً حتى الثانية، ومن الخامسة حتى التاسعة مساء.. إنها فعلاً تهتم بعملها.
وسافر السنباطي ولم يعد إلى بيروت بسبب تفاقم الحرب اللبنانية، ليتوفاه الله بعد ذلك في أيلول عام 1981، دون أن يفي بوعده لفيروز في أن يكون إلى جانبها عند تقديم تلك القصائد.
فيتو زياد
ومضت ست سنوات على وفاة السنباطي، وهدأت الأحوال في بيروت، ولكن فيروز لم تشدُ بتلك القصائد، وتساءل الناس وطال انتظارهم دون أن يعرف أحد لمَ لم تغن فيروز تلك القصائد لاسيما وإنها تحمل توقيع أكبر ملحن عرفه القرن العشرون، حتى ذهب الظن بالناس بأن ابنها زياد الرحباني قد وضع فيتو عليها لأنها لاتتحدث بلغة العصر، وبعيداً عن هذا الظن الذي لاوجود له أصلاً، فإن فيروز –كما يبدو- كانت متخوفة من الطبقات العالية التي تحدث عنها السنباطي، أو من الأداء الجيد الذي سيكون مختلفاً عن أدائها التقليدي، أو من اللون الغنائي الجديد الذي ألزمها به، وهو الغناء بصوتها الحقيقي بدلاً من الصوت المستعار الذي اعتادت الغناء به.
وكما هو معروف فإن صوت فيروز يستطيع أن يؤدي عن طريق الاستعارة الصوتية، ديواناً وربع الديوان –أي عشرة مقامات- في أبعد الاحتمالات، والسنباطي عندما تحدث عن الطبقات العالية في صوتها، كان يقصد المقامات المخنوقة في صوتها الحقيقي وليس المستعار، وهو كمعلم يعرف قيمة الأصوات التي يتعامل معها لأنه قال لمحدثه جورج الخوري «سأتعبها.. سأجعلها تغني وتتعب.. طبقات عالية جداً..»
وهذا يقودنا إلى مسألة عدم اعتياد فيروز الغناء بصوتها الحقيقي، فتملكها، بعد وفاة السنباطي الذي وعد أن يكون إلى جانبها، الخوف من الفشل فيما إذا غنت بصوتها الحقيقي، وهذا الخوف جعلها ترجئ غناء تلك الألحان دون أن تدري أن الإنسان عبد للزمن حتى مر ثلاثون عاماً، وهو يغير ويبدل والزمن لايغير مساره الأبدي.
شعراء وقصائد
العقبات القائمة اليوم تجاه هذه الألحان التي دفعت فيروز ثمنها للسنباطي لايستهان بها، ففيروز لو أرادت اليوم أن تشدو بها، فلن تستطيع ذلك بعد تراجع مساحات صوتها على مدى ثلاثين عاماً، لأنها لحنت لصوتها وهو في أوج نضوجه، اللهم إلا إذا غنتها بصوتها المستعار، وهو لايستقيم مع الطبقات العالية لصوتها الحقيقي كما أن نجل السنباطي صار حراً في إحياء ألحان أبيه بعد مضي المدة القانونية لاستثمارها، والشاعر جوزيف حرب أعلن بأنه لن يسمح لغير فيروز بغناء قصيدتيه، وتجاه هذا الإصرار، تجرأ أحمد السنباطي فصرح بأنه سيستعيض بشعر آخر لشاعر مرموق بدلاً من شعر جوزيف حرب ليحرر ألحان أبيه، وإن اختياره وقع على المغنية «سمر كموج» لتؤدي تلك الألحان، وهذا الاختيار فيه كثير من المجازفة، لأن صوت «سمر كموج» صوت ضعيف غير قادر على أداء هذه الأعمال، وقد حاولت في برنامج «طال السهر» الذي استضافها مع أحمد السنباطي غناء رائعة السنباطي الأب «ظلموك ياليل» ففشلت، وغنت في البرنامج الذي استضافها فيه غسان بن جدو مع السنباطي الابن أيضاً قصيدة «ياقدس» التي سبق لسعاد محمد وغنتها، فكان البون شاسعاً، ولاأدري كيف ستتنطع للألحان الثلاثة. ولا سيما «آه لو تدري بحالي» الذي في كل مواصفاته وقفلاته كلثومي الهوى.
السنباطي الابن
وفي رأيي، إذا أراد السنباطي الابن تقديم جميع ألحان أبيه التي لم تصافح أذن المستمع العربي بعد، أن يختار مطربة متمرسة تستطيع بأدائها أن ترتفع إلى مستوى ألحان أبيه، أو عدداً من المطربات القادرات حسب مواصفات الألحان، ولايوجد اليوم في الساحة الغنائية من المطربات أقدر من وردة الجزائرية ولطيفة التونسية وآمال ماهر المصرية ولبانة قنطار السورية، أما إذا اختار أصواتاً تقل قيمة عمن ذكرت فقل على تلك الألحان السلام.
وفي انتظار ماستسفر عنه محاولات السنباطي الابن، يظل الزمن الضائع هو البطل الحقيقي لتلك المحاولات التي طالت في انتظار جودو.