هذه طائفة من آراء ابن الريوندي الملحد (ت 298هـ) في كتابه (الدامغ للقرآن) -وما أسخفه من عنوان- وصلتنا عن طريق كتاب المنتظم لابن الجوزي، (المنشور على الوراق) ونجد فيها صدق ما قاله أبو العلاء في (رسالة الغفران) متهكما بكتب ابن الريوندي: (وأما تاجه -أي كتاب التاج- فلا يصلح أن يكون نعلا... وهل تاجه إلا كما قالت الكاهنة، أف وتف وجورب وخف، قيل: ما جورب وخف? قالت: واديان في جهنم ... وأمّا (الدامغ) فما إخاله دمغ إلاّ من ألفه... وأمّا (القضيب) فمَنْ عَمِلَهُ أخْسرُ صفقةً من قضيب... وأما (الفريد) فأفرَدَه من كلّ خليل، وألبسه في الأبد بُردَ الذليل... وأما (المرجان) فإذا قيل إنّه صغار اللؤلؤ، فمعاذ الله أن يكون مرجانه صغار حصى، بل أخس من أن يذكر فينتصى...) انظر تعريف الصفدي بمواضيع هذه الكتب في كتابه (الوافي: ص1102 على الوراق) ومع أن ما نقله ابن الجوزي من آراء ابن الريوندي ليس سوى حفنة من الترهات، إلا أنها مثار للعجب، كيف وصلتنا مثل هذه الآراء، مع ما شاع في التاريخ الإسلامي من تعقب الزنادقة وإعدام كتبهم، واجتثاث آثارهم ?. فقد ولد ابن الجوزي عام (508) بعد وفاة ابن الريوندي بمائتين وعشر سنوات. وهو يصرح أنه اطلع على كل كتب ابن الريوندي. قال: (وقد كنت أسمع عنه بالعظائم حتى رأيت ما لم يخطر مثله على قلب أن يقوله عاقل، ووقعت على كتبه فمنها: كتاب نعت الحكمة، وكتاب قضيب الذهب، وكتاب الزمرد وكتاب التاج، وكتاب الدامغ، وكتاب الفريد، وكتاب إمامة المفضول) قال: (وقد نظرت في كتاب (الزمرد) فرأيت فيه من الهذيان البارد الذي لا يتعلق بشبهه، حتى أنه لعنه الله قال فيه: نجد في كلام أكثم بن صيفي أحسن من "إنا أعطيناك الكوثر") وقوله لعمار: (تقتلك الفئة الباغية) فإن المنجم يقول مثل هذا.... وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعة عشر موضعاً منه... وكان أبو الوفاء ابن عقيل (ت 512هـ) أول من أثار العجب من بقاء ابن الريوندي حيا مع كل هذه المخازي، فقال: (وعجبي كيف عاش وقد صنف (الدامغ) يزعم أنه قد دمغ به القرآن، و(الزمرد) يزري به على النبوات، ثم لا يقتل ?! وكم قد قتل لص في غير نصاب ولا هتك حرز، وإنما سلم مدة وعاش، لأن الإيمان ما صفا في قلوب أكثر الخلق، بل في القلوب شكوك وشبهات، وإلا فلما صدق إيمان بعض الصحابة قتل أباه). قال أبو علي الجبائي: (كان السلطان قد طلب أبا عيسى الوراق وابن الريوندي، فأما الوراق فأخذ، وحبس ومات في السجن، وأما ابن الريوندي فإنه هرب إلى ابن لاوي اليهودي، ووضع له كتاب الدامغ في الطعن على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن، ثم لم يلبث إلا أياماً يسيرة حتى مرض ومات). وذكر الجبرتي في (عجائب الآثار: الوراق: ص 962) أن معاصره العلامة الدرويش الموصلي (المتوفى يوم 17/ 6/ 1231هـ) اتهم باحتفاظه بنسخة من كتاب (الدامغ) وكان أعداؤه يلقبونه: (رئيس الملحدين) قلت: والدرويش الموصلي من أعلام الدهر، يعتبر مؤسس ورئيس أول كلية هندسة أنشئت في بلاد العرب، كان صديقا لأعيان كل ملة -كما يقول الجبرتي- حتى يظن كل أهل ملة أنه واحد منهم. قال: (وطعن الناس عليه في الدين وأخرجوه عن اعتقاد المسلمين وساءت فيه الظنون...إلخ ).
قال ابن الجوزي: وقد ذكر في كتاب (الدامغ) من الكفر أشياء تقشعر منها الجلود، غير أني آثرت أن أذكر منها طرفاً ليعرف مكان هذا الملحد من الكفر، ويستعاذ بالله سبحانه من الخذلان ! فمن ذلك أنه قال عن الخالق تعالى عن ذلك:
(من ليس عنده من الدواء إلا القتل، فعل العدو الحنق الغضوب، فما حاجته إلى كتاب ورسول ?)
وهذا قول جاهل بالله سبحانه لأنه لا يوصف بالحنق و بالحاجة وما عاقب حتى أنذر.
وقال لعنه الله:
(ووجدناه يزعم أنه يعلم الغيب، فيقول: "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" ثم يقول: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم".)
وهذا جهل منه بالتفسير ولغة العرب، وإنما المعنى ليظهر ما علمناه، ومثله: "ولنبلونّكم حتى نعلم" أي نعلم ذلك واقعاً. وقال بعض العلماء: حتى يعلم أنبياؤنا والمؤمنون به.
وقال (في قوله: "إن كيد الشيطان كان ضعيفاً" أي ضعف له، وقد أخرج آدم وأزل خلقاً)
وهذا تغفل منه، لأن كيد إبليس تسويل بلا حجة، والحجج ترده، ولهذا كان ضعيفاً، فلما مالت الطباع إليه آثر وفعل.
وقال: (من لم يقم بحساب ستة تكلم بها في الجملة فلما صار إلى التفاريق وجدناه قد غلط فيها باثنين وهو قوله: "خلق الأرض في يومين"، ثم قال: "وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام" ثم قال: "فقضاهن سبع سموات في يومين").
فعدها هذا المغفل ثمانية ولو نظر في أقوال العلماء لعلم أن المعنى في تتمة أربعة أيام.
وقال: (في قوله: "إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى" وقد جاع وعري)
وهذا المغفل الملعون ما فهم أن الأمر مشروط بالوفاء بما عوهد عليه من قوله: "ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين".
وقال (في قوله: "وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه" ثم قال: "وربك الغفور ذو الرحمة" فأعظم الخطوب ذكره الرحمة مضموماً إلى إهلاكهم)
وهذا الأبله الملعون ما علم أنه لما وصف نفسه بالمعاقبة للمذنبين فانزعجت القلوب ضم إلى ذلك ذكر الرحمة بالحلم عن العصاة والإمهال والمسامحة في أكثر الكسب.
قال: (ونراه يفتخر بالمكر والخداع).
وهذا المسكين الملعون قد نسب المعنى إلى الافتخار، ولا يفهم أن معنى مكره جزاء الماكرين.
قال الملعون: (ومن الكذب قوله: "ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدو لآدم" وهذا كان قبل تصوير آدم ).
وهذا الأحمق الملعون لو طالع أقوال العلماء وفهم سعة اللغة علم أن المعنى خلقنا آدم وصورناه كقوله: "إنا لما طغى الماء حملناكم".
وقال: (من فاحش ظلمه قوله: "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها" فعذب جلوداً لم تعصه).
وهذا الأحمق الملعون لا يفهم أن الجلد آلة للتعذيب، فهو كالحطب يحرق لانضاج غيره، ولا يقال أنه معذب، وقد قال العلماء: إن الجلود الثانية هي الأولى أعيدت كما يعاد الميت بعد البلى.
قال: (وقوله: "لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" وإنما يكره السؤال رديء السلعة لئلا تقع عليه عين التاجر فيفتضح).
فانظروا إلى عامية هذا الأحمق الملعون وجهله، أتراه قال: لا تسألوا عن الدليل على صحة قولي ? إنما كانوا يسألون فيقول قائلهم: من أبى ? فقال: "لا تسألوا عن أشياء" يعني من هذا الجنس، فربما قيل للرجل أبوك فلان وهو غير أبيه الذي يعرف فيفتضح.
قال: (ولما وصف الجنة، قال: "فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه" وهو الحليب، ولا يكاد يشتهيه إلا الجياع، وذكر العسل ولا يطلب صرفاً، والزنجبيل وليس من لذيذ الأشربة، والسندس يفرش ولا يلبس، وكذلك الاستبرق وهو الغليظ من الديباج، قال: ومن تخايل أنه في الجنة يلبس هذا الغليظ ويشرب الحليب والزنجبيل صار كعروس الأكراد والنبط)
فانظروا إلى لعب هذا الملعون المستهزئ وجهله، ومعلوم أن الخطاب إنما هو للعرب وهم يؤثرون ما وصف، كما قال: "في سدر مخضود وطلح منضود"، ثم إنما وصف أصول الأشياء المتلذذ بها، فالقدرة قد تكون من اللبن أشياء كالمطبوخات وغيرها ومن العسل أشياء يتحلى بها، ثم قال عز وجل: "وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين" وقال: "اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" فوصف ما يعرف ويشتهى وضمن ما لا يعرف.
وقال: (إنما أهلك ثموداً لأجل ناقة، وما قدر ناقة ? )
وهذا جهل من الملعون فإنه إنما أهلكهم لعنادهم وكفرهم في مقابلة المعجزة، لا لإهلاك ناقة.
قال: (وقال: "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله"، ثم قال: "لا يهدي من هو مسرف كذاب").
ولو فهم أن الإسراف الأول في الخطايا دون الشرك، والثاني في الشرك، وما يتعلق بكل آية يكشف معناها.
قال: (ووجدناه يفتخر بالفتنة التي ألقاها بينهم كقوله: "ولقد فتنا بعضهم ببعض" "ولقد فتنا الذين من قبلهم"، ثم أوجب للذين فتنوا المؤمنين عذاب الأبد ).
وهذا الجاهل الملعون لا يدري أن الفتنة كلمة يختلف معناها في القرآن، فالفتنة معناها: الابتلاء،. كالآية الأولى، والفتنة الإحراق كقوله: "فتنوا المؤمنين".
وقال: (وقوله: "وله أسلم من في السموات والأرض" خبر محال، لأنه ليس كل الناس مسلمين، وكذلك قوله: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" وقوله: "وللّه يسجد ما في السموات وما في الأرض").
ولو أن هذا الزنديق الملعون طالع التفسير وكلام العرب لما قال هذا، إنما يتكلم بعاميته وحمقه، وإنما المعنى وله أسلم استسلم، والكل منقاد لما قضى به، وكلٌّ ذليلٌ لأمره، وهو معنى السجود؛ ثم قد تطلق العرب لفظ الكل وتريد البعض كقوله: "تدمر كل شيء".
وقد ذكر الملعون أشياء من هذا الجنس مزجها بسوء الأدب، والانبساط القبيح، والذكر للخالق سبحانه وتعالى بما لا يصلح أن يذكر به أحد العوام، وما سمعنا أن أحداً عاب الخالق وانبسط كانبساط هذا اللعين قبله.
ولو جحد الخالق كان أصلح له من أن يثبت وجوده، ثم يخاصمه ويعيبه.
وليس له في شيء مما قاله شبهة، فضلاً عن حجة فتذكر ويجاب عنها، وإنما هو خذلان فضحه الله تعالى به في الدنيا، والله تعالى يقابله يوم القيامة مقابلة تزيد على مقابلة إبليس، وإن خالف، لكنه احترم في الخطاب كقوله: "بعزتك" ولم يواجه بسوء أدب كما واجه هذا اللعين، جمع الله بينهما، وزاد هذا من العذاب.
وقد حكينا عن الجبائي أن ابن الريوندي مرض ومات، ورأيت بخط ابن عقيل أنه صلبه بعض السلاطين والله أعلم.
وقال ابن عقيل: ووجدت في تعليق محقق من أهل العلم: أن ابن الريوندي مات وهو ابن ست وثلاثين سنة، مع ما انتهى إليه من التوغل في المخازي لعنه الله وشدد عذابه