رسالة توفيق الحكيم
آراؤها و مناقشتها
* د.عبد الكريم محمد حسين.
هذه مقالة تتناول فن الرسالة المفيدة النافعة،الفصيحة بآرائها،سهلة اللغة بأدائها،وغرضنا من عرضها و مناقشتها،ملاحظة الفرق في المنهج و الموضوع بين الأمس واليوم،فقد كنا مع رسالة فاطمة بنت الحسين في خطابها الوجيز لأمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز،فصرنا ننظر في رسالة أرسلها توفيق الحكيم إلى صديقه الفرنسي أندريه،و قد عاش في كنفه،و كنف أسرته يوم كان موفداً لفرنسا.
و من باب رد الجميل مواصلة ذلك الفرنسي،ليطمئن على ما غرسه في قلب توفيق الحكيم ونفسه من آراء و أفكار،و قيم،و من باب استدرار الإعجاب كانت هذه الرسالة.و لا شك أن الفرنسي مُستَقبِل الرسالة كان مهتماً بثمار مجهوداته ومواقفه ومشروعاته التي غرسها في طينة توفيق الحكيم،و حريصاً على معرفة آثارها في دوامة المعترك الجديد،في غربتها عن أرضها بصحبة سفير للثقافة الفرنسية على أرض الحضارات ( مصر ).
نظراً لأن رسالة توفيق الحكيم ليست رسالة إخاء يطمئن فيها عن حال الأسرة الفرنسية بل رسالة ولاء نسبي يطمئنها على قيمها المزروعة في صدور تلاميذ التغريب،و لو ادعوا براءة الغربيين من دعواهم الباطلة عند جماهير الشرق المتخلف عندهم بكل شيء.
فرسالة توفيق الحكيم تبرز الخلاف في الموضوع و المنهج إلى حد ما،و تظهر طريقة التدليس عند هؤلاء القادمين من الغرب،و هم يحملون رؤيته و صورته وتجربته ومثاله و معاني واقع تركوه خلفهم بأرض المهجر،لكنهم مازالوا يحلمون بنقله إلينا - بعجره و بجره - لو استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
و سيكون منهج تحليل الرسالة منصرفاً إلى منهج كتابة الرسالة،و أثر المنهج العربي القديم فيها من حيث لا يدري الحكيم،أو من جهة تأثر الغربيين بمناهج آبائنا الغالبين فيما مضى على عقول الشعوب و قلوبها،فكانت موضع محاكاة،واحترام و تقدير لديهم.
و سيكون من منهج الدراسة الوقوف على أفكار الرسالة،و إبراز حجج الحكيم وتوضيحها مما جاء في الكتاب نفسه،لأنه يحمل طبيعة الرسالة نفسها،و لأن المخاطب برسائله كلها في هذا الكتاب رجل واحد هو أندريه.
و ستكون الدراسة بعد إثبات النص ليكون الكلام عليه من باب الحديث على النص المعروف و المعروض،على طريقة العرب:البكاء على رأس الميت.و في حضور النص دعوة لاجتماع القوى النفسية و العقلية للمشاركة في فهم النص،وقبوله أو رده بحسب فهم المتلقين للرسالة،و سأعرض ما فهمته و ما قبلته و ما رددته على متلقي هذا البحث من غير ادعاء العصمة فيما ذهبت إليه، ولست حابساً أحداً على قولي،وتجنباً للتكرار فسأجعل مناقشة أفكاره مقرونة بالحديث عن منهجه في بناء رسالته .و حسبي أني أثرت القضية ليقوم أهل العلم بالرجل و أدبه بمعالجة هذه القضايا برويةٍ وحكمةٍ من غيرِ تعجلٍ،ولا مغالطة يخدعون بها أنفسهم قبل غيرهم.
* نص رسالة الحكيم:
" الإسكندرية في ..
عزيزي ( أندريه )!
إني الآن غارق في الأدب العربي?أريدُ أن أدرسَ قضيته من أساسها .. أريد أن أعيدَ النظرَ في أمر اللغة العربيةِ - لغتي - و أكشفَ أسرارَها،و أضع إصبعي على مواطن ضعفها و قوتها..
هذا هو خير وقتٍ أستطيع فيه أن أرى،و أميزَ،و أحسنَ الحكمَ،فلي عينان طافتا - منذ أمدٍ ليس بالبعيد - بمختلف الآداب العالمية.و لقد نجحت فكرتي حقاً!..إني أقرأ نصوص هذا الأدب في عصوره المتعاقبة بعين جديدةٍ،عينٍ عامرةٍ بالصور،حافلة بالمقارناتِ،و بنفسٍ رحيمةٍ عادلةٍ صابرةٍ،تلتمسُ العللَ و الأسبابَ، وتطيلُ التريث و البحث،قبل أن تصدرَ الأحكامَ!..
2
قبل كلِّ شيء أحب أن أقول لك:إن أولئك الذين علمونا اللغة العربية،في المدارس الابتدائيةوالثانوية،كان يجهلون لا معنى اللغة العربية وحدها،بل معنى اللغة على الإطلاق..
إنك لن تجد مستنيراً في مصر لا يقول لك:إن اللغة العربية - للأسف - قاصرة عن التعبير في شتى ضروب العلوم و الفلسفة و التفكير العالي،بل منهم من يقول:إنها ليست لغة تفكيرٍ،إنما هي لغة بهرجٍ و تنميقٍ.لماذا ? السبب بسيط :هو أن النماذج التي وضعت في أيدينا - و نحن صغار - للبلاغة في اللغة العربية كانت كتباً غثةَ المعنى،متكلفة المبنى،لو كتب بها شخص اليوم لأثار سخريةَ الناسِ!..نعم ..إنهم يعلموننا في المدرسة لغة إذا استعملناها في الحياة ضحك منا الناس!..من ذا يستطيعُ بعد انتهاء دراسته أن يكتب رسالة على نمط (عبد الحميد الكاتب)،أو مقالاً أو بحثاً على طريقة الحريري،دون أن يتعرض لسخرية الساخرين?!..
3
ليس من اليسير أن أطلعك أو أترجم لك مثل هذا الأسلوب (النموذجي)!..ولكني أقول لك:إنه أسلوب يستخدم اللغة استخدام الجواري للعود في مجالس الأنس و السكر بقصور (هارون الرشيد)!..أسلوب غايته قبل كل شيء أن يبهر السمع النائم و يطرب الأذن المسترخية!..لست أدري!..أيجوز أن تجعل لغة من اللغات وسيلة لهو و أداة براعة؛كفنون المغنين،و ألعاب الحواة،أم أن اللغة أداة يسيرة لنقل الأفكار النبيلة??
إني أفهم أن يضرب مثل هذا الأسلوب مثلاً للضعف و السقم،لا للسلامة والبلاغة،فإن التكلف أبرز عيوب الفن.
كان ( جويو ) يقول:إن الرشاقة في فن الرقص هي أداء الحركة الجثمانية العسيرة،دون تكلف يشعرك بما بذل فيها من مجهود?تلك أولى خصائص الأسلوب في كل فن..حتى الحاوي الماهر،هو ذلك الذي يخفي عن الأعين مهارته،و يحدث الأعاجيب في جو من البساطة و البراءة..
لعل الكاتب الوحيد الذي ضربوه للطلاب مثلاً فصدقوا هو ( ابن المقفع ) في ترجمته (كليلة و دمنة ).
هذا كاتب تصنع بأسلوبه هو الآخر،و لكن بخفة ومهارة،و طلاه و جمَّله ولكن بذوقٍ و كياسة،فلم يبد عليه سماجة التكلف ولا ثقل الصناعة!..
إنه ذلك الحاوي البارع!?أو تلك الحسناء الذكية التي تطلي وجهها بالأصباغ،ثم تمسح أثرها الصارخ،فتظهر،و كأن نضارتها نضارة الأصل والفطرة?
إن ابن المقفع يجهدُ في أسلوبه ليخفي أثر الجهدِ!? إنه تلك الراقصة الرائعة التي تخفي حركاتها العسيرة فلا تبدو لنا منها إلا تموجات رشيقة يسيرة?هذا الكاتب هو على كل حال مثل طيب للصناعة في الكتابة..
على أنك إذا أردت أن تعرف حقاً جلال اللغة العربية؛في بساطتها وسيرها قدماً نحو الغرض:فاقرأها عند الفلاسفة و المؤرخين العرب! أولئك عندهم حقيقة ما يقولون،فهم لا يضيعون أوقاتهم و أوقاتنا في العبث اللفظي و الطلاء السطحي؛إنما هم يحدثوننا في شؤون فكرية واجتماعية و أخلاقية و دينية في لغة سهلة مستقيمة،لا لعب فيها،و لا لهو ،و لا ادعاء?
4
إني لأدهش كيف أن مؤلفين مثل (ابن خلدون )و (الطبري ) و ( ابن رشد) و(الغزالي ) لم يعرضوا علينا قط في دراساتنا للأدب العربي بالمدارس?!..كيف نعرف لغة بدون أن نطالع فلاسفتها و مؤرِّخيها..?أ نستطيع معرفة الفكر اللاتيني دون أن نقرأ ( سنيكا ) و ( مارك أوريل)و ( تيتوس ليفيوس ) و (كور نليوس تاسيت )?!..
لو أنه عرضت علينا صفحة واحدة مع شرحها،لكل فيلسوف بارز و مؤرخ مشهور من فلاسفة العرب و مؤرخيهم؛لتغير رأي أكثر المستنيرين عندنا في اللغة العربية،و قدرتها على التعبير عن أدق الأفكار و أعلاها و أعمقها و أنبلها.
أ و ليس بهذه اللغة نقل ( ابن رشد ) و ( ابن سينا ) أعمق آراء فلاسفة الإغريق إلى أوربا المتعطشة للمعرفة ?!..أنتم معشر الفرنسيين فعلتم ذلك في تدريس الأدب الفرنسي!?
ما من كتاب مدرسي - صغر أو كبر - لا يذكر فيه نماذج من أسلوب (مونتابي) الفلسفي،و أسلوب (روسو ) الاجتماعي،و ( بوسويه ) الديني،و(فولتير) التاريخي،بل حتى أسلوب (موليير) الفكاهي أحياناً إلى حد التهريج!?
ذلك أن المدارس الفرنسية أدركت أن تدريس اللغة يجب أن يشمل كل نواحي التعبير بها?أما قصرُ تعليمها على نماذج البلاغة اللفظية الجوفاء؛فهو امتهان لكرامة اللغة،و انتقاص من قدرتها على الأداء!?
في العربية كاتب متعدد النواحي،له باع طويل في الجد و الهزل،هو (الجاحظ)!? هذا أيضاً لم نقرأ له سطراً في المدارس?كل كاتب عربي بسيط الأسلوب،نافع لنا في الحياة،يقصونه عنا إقصاءً بحجة أنه غير بليغ!?و يأتون إلينا بالكاتب الذي لا ينفع في حياتنا إلا نموذجاً لإثارة السخرية.
5
حتى الشعر، و هو مفخرة اللغة العربية،الشعر الذي كان يجب أن ترى فيه نفوسنا المتفتحة أول لون من ألوان الفن?ماذا انتخبوا لنا منه??قصائد المواعظ والحكم!?
هنالك حقاً أنواع من الموعظة و الحكمة يعرف الشاعرُ الحق كيف يلبسها ثوباً من الصور الحسية و الذهنية،ترفعها إلى مرتبة الفن العالي?كما فعل ( أبو العلاء ) و(المتنبي ) و ( النابغة الذبياني) في بعض قصائدهم.و لكن الفرز و التمييز والتخير في هذا الباب يحتاج إلى حاسة فنية لا يملكها القائمون بهذا العمل..
حتى الشعر الموسيقى و الشعر التصويري الذي عرضوا علينا بعض نماذجه في أعمال ( البحتري ) و ( ابن الرومي ) على الأخص،لم يكن من خير آثارهما?
ليس كل شعر فناً عالياً؛لأنه يعظ أو يصور أو يرنم!..فالشعر الحق هو شيء أبعد كثيراً من مجرد إصابة الأهداف الظاهرة،أو تحقق الأغراض المباشرة،بل ربما انحط شعر في عرف الفن العالي؛لأنه اقتصر على صياغة حكمةٍ،أو تصوير منظر،أو إحداث جرسٍ?
إنما الشعر الحق قد يتوسل بهذه الأشياء لبلوغ مأربٍ أسمى:هو الارتفاع بالناس إلى سحبٍ لا تبلغ،و الرحيل بهم إلى عوالم لا تنظر!?هو أن يريهم من خلال كلماته البسيطة و وسائله البادية أشياء لم تكن بادية و لا طافيةً،في محيط ضمائرهم الواعية.
هو بالاختصار ذلك السحر الذي يوسع ذاتية الناس،فيرون أبعد مما ترى عيونهم،و يسمعون أكثر مما تسمع آذانهم،و يعون أعمق مما تعي عقولهم..هذا هو الشعر?و هذا هو المقصود من كلمة الشعر في إطلاقها على كافة الفنون!ما من فن عظيم بغير شعر،أي بغير تلك المادة السحرية التي تجعل الناس يدركون بالأثر الفني،ما لا يدركون بحواسهم و ملكاتهم!..
لقد أثقلت عليك يا أندريه بهذا الحديث في موضوع لا يعنيك كثيراً،و لكن من غيرك أبثه خواطري?? تحمل !.."
بعد عرض هذه الرسالة لا بد من الوفاء بالشروط التي عقدناها في مطلع المقالة،و هي دراسة منهج الحكيم فيها،و مناقشة أفكاره التي جاد بها على قرائه،مراعين في النظر إليها أنها رسالة حنين و وفاء للأسرة التي عاش معها حيناً من الدهر.
* منهج بناء الرسالة:
بدأ توفيق الحكيم رسالته بذكر المكان الذي كتب فيه الرسالة،و أردف ذلك بذكر الزمان،من يوم و شهر و سنة،و قد جعل ذلك على الجهة اليسرى من ورقة الرسالة تشبهاً بترتيب الفرنجة الفرنسيين في ترتيب أوراقهم،بيد أن كتابة النص العربي ألزمته بالكتابة نفسها من اليمين إلى الشمال.ثم حدد طرفي الخطاب مقدماً الفرنسي على نفسه واصفاً له بالعزة: (عزيزي)فالعزة للفرنسي و ياء النفس لتوفيق الحكيم،مع وجوب التنبيه على أنه لا يريد بالعزيز سوى تقليد الغربيين بابتداء رسائلهم بهذه العبارة التقليدية،و مراده ثبوت الاحترام و الإيثار له على سواه،من غير أن تغلقَ فضاء دلالة اللفظ العربي،وما يحمله من أبعاد تعكس بواطن الهزيمة للفرنسي في روح توفيق الحكيم ونفسه،و جعلتَ ذلك مربوطاً بالظروف التي كانت تحيط بالأمة في الأزمنة الصعبة.
ثم قام بتعيين الموضوع الذي سيدرسه في رسالته هذه التي يبعث بها لهذا الفرنسي البريء من هموم العرب و العربية كما يريد أن يقنعنا الحكيم في ختام رسالته،و لو كان كلامه صحيحاً كانت الرسالة محض فرض وهمي عرض إطاراً لمقال أدبي أراد الحكيم أن يربط متلقيه به تشويقاً و إثارة.
أما الموضوع عنده فهو الرغبة في دراسة اللغة العربية،و معرفة مواطن قوتها وضعفها،و رسم لنفسه منهجاً في معالجة موضوعه،فبناه على الأسس الآتية:
أ - قراءة نصوص الأدب العربي في عصوره المتعاقبة.
ب - سيكون منهجه قائماً على رؤية جديدة،و جدتها ستكون باحتفالها بالمقارنات.
ج - سيبني منهجه على الرحمة،و العدل و الصبر.
د - سيقوم بتشخيص الظواهر،و التماس العلل التي أصابتها،و الأسباب التي قادت إلى تلك العلل.
هـ - إطالة التريث في البحث قبل إصدار الأحكام على اللغة العربية و أدبها.
هذه أسس علمية يفترض وفاؤه لها في تحديد الموضوع،و في معالجته،فهل كان الحكيم وفياً لما حدده و ما اشترطه ?
للإجابة عن هذا التساؤل نتم عرض الحكيم ليتبين لنا مقدار الوفاء للشروط ومسافة الإزاحة عنها.
فقد عرض مشكلة اللغة العربية برد التهمة إلى أن مدرسي اللغة العربية الذين درسوه مادة اللغة العربية كانوا جهلة بمعنى اللغة عموماً و معنى اللغة العربية خاصة.
نتيجة هذا الجهل - عند الحكيم - قادت المستنيرين بنار الغرب في مصر إلى القول بأن اللغة العربية قاصرة عن التعبير في شتى ضروب العلوم و الفلسفة و التفكير العالي.ويقرر أن فريقاً منهم ذهب إلى أنها لغة بهرج و تنميق.
بعد أن جسَّم المشكلة ذهب إلى بيان أسباب ظهورها،و ذلك بقوله: " السبب بسيط:هو أن النماذج التي وضعت في أيدينا - و نحن صغار - للبلاغة العربية كانت كتباً غث المعنى متكلفة المبنى لو كتب بها شخص اليوم لأثار سخرية الناس"
فالمشكلة في الكتب البلاغية بل في الكتب المدرسية التي وضعت نماذج للبلاغة العربية،وضرب لها مثالين أحدهما:عبد الحميد الكاتب،و ثانيهما: الحريري.
و تناول أسلوب هذين الكاتبين،و كان الأول كاتباً رسائل الديوان للدولة،والآخر كان مفتناً بفن المقامات الاجتماعية.
و رأى في طعنه هذين الأسلوبين أنهما أسلوب واحد غايته قبل كل شيء إبهار السمع النائم،و إطراب الأذن المسترخية،مما يجعل اللغة وسيلةَ لهوٍ وعبثٍ،تشبه فنون الغناء و ألعاب الحواة،و التكلف ظاهر،و هي خالية عنده من حذق التكلف نفسه،و لم يحسن تكلف الأسلوب سوى عبد الله بن المقفع في كتابه كليلة و دمنة.
و رأى أن الكُتَّابَ استخدموا اللغة استخدام الجواري في مجالس هارون الرشيد،فجعلوها خادمة و ذليلة و مطواعة لهم تدخل حيث أرادوا لها راغبة أو كارهة،من غير مراعاة لما يناسب كل موقف من الفصاحة أو البلاغة.
و رأى أن هذه النماذج هي نماذج للتكلف و الضعف و السقم،و كأن المدارس كانت تضربها على أنها مثل للفن الرفيع.
و وجد أن الأسلوب العربي الخالي من التكلف هناك عند المؤلفين من أمثال:ابن خلدون،والطبري،و الغزالي،و ابن رشد الذين لم يعرضوا في المدارس الابتدائية و الثانوية، و ذكر لمتلقيه كيف أبعدوا الجاحظ عن المناهج المدرسية بحجة أنه غير بليغ.
ثم يلتفت إلى مقارنة مناهج الدراسة بالمدارس الابتدائية بمصر في تلك الأيام بما تصنعه الأمم الأخرى كالأمة الفرنسية لأبنائها في عرضها ضروب العلوم المختلفة التي كتبت بالفرنسية،و عُدَّت في سياق الأدب الفرنسي،لأنها كتبت بالفرنسية.
و قبل الختام ينتقل إلى موقفه من اختيار الشعر،و جعل مَن تخيروا نماذج الشعر للطلبة خالين من الحاسة الفنية اللازمة للاختيار،فكان اختيارهما ليس من خير الشعر الغنائي والتصويري،و رماه بالوعظ،و أنه خال من السحر الذي يرحل بمتلقيه إلى عوالم مجهولة و آفاق عالية.
و ختم رسالته بإيهام و مغالطة،كما بدأها،فجعل كلامه للفرنسي من باب الهذر لغير مهتم،و الشكوى لغير علم ليثبت لنا براءته من أتحط في هوى هذا الفرنسي.
* مناقشة الرسالة:
في هذا المنهج روح التأثر بالغربيين من جهة الإعلان عن الخطة والطريقة،ولو أنك تجدها في مؤلفات العرب القدماء كابن سلام الجمحي،والجاحظ و ابن قتيبة،وأبي هلال العسكري،وغيرهم،فهو من المشترك العام بين المؤلفين القدامى واللاحقين بهم.
و بموازنة ما ذكره في المقدمة و ما عالجه فيها تبدو لنا زيف العناوين وتضليل المؤلفين،فقد ادعى أنه غارق في الأدب العربي بغرض دراسة لغته من نماذجه الأدبية،و هو مشروع - لعمري - يكلفه أكثر من مائة سنة من القراءة و البحث لو كان صادقاً،و لانتهى أجله في الدنيا قبل أن يتم القراءة الباحثة الدارسة لقوانين اللغة العربية في لغتها و نحوها و صرفها و بلاغتها،و كان المنتظر منه العجب ليس في نتائج بحثه بل في ادعائه أن عينيه طافتا بمختلف الآداب العالمية،وهو محض ادعاء فارغ ليوهمنا بالعظمة لأن عمره يوم كتب هذه الكتابة لا يرشحه لمثل هذا الكلام العريض.
و كان كلامه مشوقاً بمقدار ما ادعى له من شمول،و دقة في البحث فانتهى بنا إلى تحقير المسالة و حصرها في جانب واهن صغير يتناول المناهج المدرسية في المدارس الابتدائية والثانوية في مصر،و يجعل دراسته لهذه النماذج دراسة شاملة الأدب العربي كله،و ما درسه ليس إلا باقة صغيرة مقدمة للطلبة بغية تعليمهم نماذج الأدب المطبوع و المتكلف،و تنبيه أذهانهم إلى ارتباط الأدب بالحركة الحضارية و السياسية للأمة يقوى بقوتها و يضعف بضعفها، فتظهر آيات التخلف بإبداعات تناسب المرحلة و تنبعث منها و تسود بسيادة ما يناسبها في أطوار الحضارة والسياسة.
فلا يمكن للمرء أن يزعم أن لغة من اللغات ضعيفة و عاجزة ؛لأن الذين يدرسونها تخيروا نماذج ضعيفة،فالخلط بين المدرس و المادة التي يدرسها أمر مرفوض،كما يدفع ادعاءه أنه غارق في دراسة الأدب العربي،و هو في الواقع غرق بشبر صغير من محيط الأدب العربي يقدم لشداة الطلبة،يؤلف نماذج متخيرة،فتناول سوء الاختيار،و رمى اللغة بما هي بريئة منه،لخلطه بين المدرس والمادة التي يقدمها لطلبته،و المنهاج المدرسي و البلاغة نفسها.
و طفق الحكيم بعدئذٍ يتحدث عن نماذج كان ينبغي لهم أن يضعوها في متخيرهم،ثم يأتي بدعاوى المستنيرين بنور أوربا،و هم يطعنون العربية بغية التمويه على خطة المستعمر في تلك الأيام، و تمرير قرارات الدول المستعمرة للبلاد العربية للعلوم باللغات الاستعمارية،فكان لا بد من مسوِّغات الدعاوى السياسية الباطلة بأقلام تلاميذ الثقافات المستوردة بشيء من لطف العرض،و قلة المواجهة،وبشيء من مواربة القول و تغطية الحقائق العلمية،و إظهار الحرص المتكلف على اللغة العربية؛لئلا يثار من يقدرون على تحريك الشارع و منع مرور المشاريع.و هل إذا درس الحكيم وأشياعه من المستنيرين بنار الغرب - كلام الغزالي،و ابن رشد،و ابن خلدون،و الطبري،سيتغير موقفه و موقف أنداده من العربية ولغتها.?
و في الكلام ظلم لمدرسي المرحلة الثانوية و المتوسطة،ذلك أنهم لم يضعوا هذه المناهج بل تخيرت وزارة التربية بعض أهل الذوق منهم أو من سواهم للاختيار بما يوافق مشروع الدولة الحاكمة وتوجهاتها التربوية،في إظهار ضعف الأمة،و تسلط الضوء على مكامن العجز ليتعزز الوجه التربوي لهذا الغرض،بغية تطويع الناس للمستعمرين لمدى طويل.
فسادة المستنيرين كانوا يشرفون على هذه المناهج،ويدركون عمق رسالتها،ويسعون لتحقيق مرادهم البعيد بالتدريج والصبر و إظهار الرحمة الكاذبة بهذه الأمة و لغتها،وأدبها.و ما أظن الحكيم إلا كان يريد أن يلفت نظر وزارة التربية والتعليم في زمنه إلى نفسه،و إلى أنه قادم من بلاد النور بلاد الفرنجة،حاملاً حلوله السحرية للمشكلات في مناهج الدراسة،و ذلك سيدر عليه مالاً وفيراً كما كان يتوسم،و لا أدري إن كان ذلك قد حصل.لكني نظرت في مناهج الأدب التي وضعها حشد من أصنام التسميات العالية لطلاب المرحلة الثانوية بإحدى دول الخليج العربي من بعد فوجدت فيها ما يخجل من أغلاطها مدرس المرحلة الابتدائية في المرحلة التي يتحدث عنها توفيق الحكيم،و ذلك بعد سيادة المستنيرين،و حشد الأسماء على غلاف كتاب لا يحتاج إلى هذه الأسماء سوى مسمى الربح والارتزاق.
و من مغالطات توفيق الحكيم أنه لم يكتف بزرع عنوان وقضية على غير حقيقة بحثية أو علمية بل ذهب يتخير لنماذج البلاغة كتاباً ليسوا عرباً كعبد الحميد الكاتب الذي كان يكتب في ديوان رسائل الدولة المترفة التي تحلت بالزينة والمنهجية الحضارية،و هو رجل فارسي أدهش معاصريه بفنه في الكتابة،و لغته ليست حجة،و أسلوبه استحسنه من استحسنه،و استقبحه من استقبحه،وليس أسلوبه ملزماً أحداً باتباعه،و هو فوق ذلك رجل فارسي .أنحكم على لغة العرب بلسان مستعرب.? و هل يقبل الفرنسيون الحكم على لغتهم لأن أحد الأفارقة تكلف في فنه الأدبي المكتوب بالفرنسية?
و من خبيث إشاراته طعنه بالخليفة العباسي هارون الرشيد الذي يعد طوراً من أطوار القوة في العصر العباسي،على سوء الخلفاء الذين تولوا الحكم في طور الضعف،إلا أنه لا ينبغي الطعن بهذا الرمز القوي الذي دفع عنه ابن خلدون كل ما رمي به على ألسنة الشعوبية الحاقدة على العرب،وذلك في مقدمة تاريخه،ولا حاجة بنا لإعادة الحجج التي احتج بها،و لا حاجة لما قاله ابن كثير في كتابه البداية والنهاية في دفع هذه المزاعم أيضاً.
أكاد أقول:إن توفيق الحكيم ربما صدق ما قاله خصوم الرشيد فيه،من أقوال،بعد فتكه بالبرامكة،في نكبتهم المشهورة،و لا أريد أن أرد هذا الغضب إلى أن أخوال الحكيم كانوا من فارس أو من الأتراك.و لا ريب أن تشبيه لغة العرب بالجواري،و هي اللغة التي شرفت بالرسالة العربية،و شرفت بأهلها،لا يليق بأديب مثل الحكيم أن يتخيره مثلاً للتوضيح،من باب لباقة الخطاب العلمي بين الناس.
و من مغالطاته الإشارة إلى فن المقامات الذي يضربه مدرسو المرحلة الثانوية للطلبة من جهتين:الأولى أنه فن عباسي يشير إلى زينة لفظية أسلوبية مسرفة في صنعة البديع،متكلفة في استجلاب اللفظ العربي القديم الغريب والمهجور والنادر،وعرضه بسردية قصصية توضح روح المجتمع العباسي والأمراض التي كانت قائمة تحت قناع الغنى اللفظي و غنى الصنعة المعمارية لهذا الفن الجديد الذي بقره من خاصرة الحياة العربية في العصر العباسي بديع الزمان الهمذاني،وقيل: سبقه إليها شيخه أحمد بن فارس،و تبعه في ذلك الزمخشري والحريري.
فالتمس لهم المدرسون في المرحلة الثانوية أسباباً لهذا الأمر جعلوها تعود إلى غرض هؤلاء التعليمي للغة أصلاً،و الحكاية كانت فرعاً من أصل علاقة الأدب بالحياة التي ازدهت بها الحياة الأدبية و النقدية في أوائل القرن المنصرم،لجمود الأدب و الحياة العربية في عصري المماليك و بني عثمان.
و كشفوا عن سر الزينة اللفظية التي كانت عشقاً لبناء تلك الأزمان المفردة بالعصر العباسي،ذلك أنه مجتمع مترف مسرف يحمل في طياته عوامل فنائه التي سيطرت على عقول الناس في عصور الانحطاط و سادت عليها.
فدراسة تلك الفنون التاريخية الميتة لا تدعو إلى الاحتذاء بمادتها أو طرائقها بل تدعو للتفكر والاعتبار و ربط الأدب بحياة مبدعيه،و ملاحظة الفروق بين فنون الأدب في سياق الحركة الحضارية.وبديع الزمان فوق براءته من ضعف اللغة العربية، كان من العجم،و لا تضعف لغة بضعف متكلم من أهلها أو غيرهم.
* موقف الحكيم من الأدب العربي:
و أود أن أكشف عن حقيقة نزعة توفيق الحكيم بكشف اللثام عن موقفه من الأدب العربي نفسه و من فن المقامات.فإنه لم يكن مرفوضاً من الجهات كلها عنده،فقد رحب بهذا الفن في غير موضع كما رحب بصديقه الجاحظ،واستقبل أحد بني أخواله ابن المقفع بشيء من الترحيب ومن الاحتراس .
أما موقفه من الأدب العربي فقد جعله في رسالته التالية للرسالة التي ندرسها الآن،و جاءت في سياقها النصي تبعاً من غير انقطاع يدلك على ذلك قوله:
" عزيزي ( أندريه )!..
إمعاني في بحوث الأدب العربي اليوم يجعلني غير صالحٍ للحديث في شيء آخر،و لقد فرغت من مسألة اللغة فإذا مشكلة أخرى تقوم أمامي،هي أن الأدب العربي ذاته،من حيث هو خلق فني - يبدو لي - ناقص التكوين!..
و السبب في ذلك بسيط أيضاً:
إذا تأملت الآداب القديمة كلها،وجدتَ أنها قد عاصرتها فنون كبرى!..خذ مثلاً ( مصر القديمة ) و ( الهند ) و ( الإغريق ) و ( الرومان ) الخ..
لقد كانت المعابد القديمة و التماثيل الرائعة،خليقةً أن يعاصرها أدب يضارعها في قوة البناء ودقة التركيب و روعة الفن: ( الملاحم،و التمثيل، والقصص ) و لكن الذي حدث في تاريخ الأدب العربي كان غير ذلك ? لقد نشأت لغة نضرة زاهرة،في بيئة قاحلة وسط الصحراء!..
لقد كان أقصى ما عاصر لغة امرئ القيس أو لبيد أو زهير من مظاهر الفنون الأخرى تلك المسوخ و التهاويل لآلهة من الحجر!?أطلقوا عليها الهبل الكبير والهبل الصغير و العزى،و اللات الخ.
لا أحسب أحداً يجرؤ أن ينسبها إلى الفن في قليل أو كثير!..إنه حقاً لمن مفاخر اللغة العربية أن تبرز وحدها هذا البروز بين الرمال؛كأنها عرار أو أقحوان. ولعل الفضل في ذلك للشعر،فالشعر زهر قد ينبت في الخلاء،أما النثر فيحتاج في نموه إلى العمران،و لكن جاء العمران بعد ذلك بظهور الإسلام،وتكونت حضارة إسلامية واسعة الأرجاء،فأقيمت المساجد الجميلة على أنقاض الهياكل القديمة،وشيدت القصور و ملئت بالبدائع و الطرائف،و تقدمت الصناعات،وازدهرت الفنون،و ابتلعت المدنية الإسلامية في جوفها كثيراً من المدنيات.
و مع ذلك لم يحاول الأدب العربي أن يزيد في قوالب نثره،أو أن يساير تلك الفنون المعاصرة،حتى بدا للأجيال اللاحقة في ذلك الفقر الظاهر!..
و الواقع أن الأدب العربي الإنشائي لا يختال للأنظار إلا في ثوبين معروفين: ( الرسائل ) و ( المقامات ) !.."
إذا جزنا أدب الخطاب و لباقته عند توفيق الحكيم وجدناه يقرر حقيقتين تتعلقان بالأدب العربي،من جهة علاقته بالحضارة بمعناها المادي البصري،وهما:أنه أدب ناقص التكوين لأنه لم ينشأ على هامش نهضة عمرانية وفنية شاملة كما نهضت الفنون الفرعونية و الإغريقية و الهندية والرومية القديمة..
و رأى أن الشعر نبت بري لا يحتاج إلى نمو شامل،لأنه ينبت بالصحراء،ويرافق المواسم،و يموت بموتها،و تطويه دورات الفصول الحضارية.
و وجد أن الأدب العربي بعد أن أظهر الله الإسلام على قيم الأمم،و جعل العرب قادة الحضارة كان موصوفاً بالقصور عن اللحاق بالحركة الحضارية والدورة الحضارية فظل كما كان،كأن شيئاً لم يكن،مما يشير إلى عجز الأدب العربي النثري الذي يقوى عنده بقوة العمران و فنونه و عقمه،و لم ير سوى أثر يلمع في فن الرسائل و فن المقامات.
لمناقشة ما جاء به توفيق الحكيم نشهد له بقوة الملاحظة من جهة رصد ظواهر الفن و العمران و حركة الحضارة،لكن فطنته غابت عن الحقيقة الكونية التي لا تجعل سرعة الانتقال و التغير واحدة بين حركة العمران و حركة الإبداع الأدبي،و لا شك أن حركة الإبداع في بعض الأزمان تسبق حركة العمران وحركة الفكر السياسي،و في بعض الأطوار توازيها،و في بعض الأحوال تتخلف عنها،ولا شيء يمنع من انفصال هذه الظواهر عندما يكون طور النمو الحضاري جاء متخلفاً عن أطوار النمو الأدبي.فليس من الحتم اللازم أن يكون تصوره النظري صحيحاً ومسلماً به إلا في إطار النسبية التي نشده إليها،و هي ليست مطلقة و لا ثابتة.
و ليس صحيحاً أن الأدب العربي قبل الإسلام لم يكن سوى الشعر،لأن العرب لم تعن بحفظ النثر عنايتها بحفظ الشعر،و ضياع الفنون النثرية القديمة من قصص وحكايات و أساطير وأمثال،و وصايا و مواعظ و حكم، لا يعني بحال أنها كانت دون الشعر العربي الذي كسر مقولة ارتباط ازدهار الأدب بالفنون المصاحبة للنهضة الحضارية،و لا يمكن أن يكون نبت في بيئة لم تكن قادرة على استيعابه لغة و أداء وإبداعاً،و طاقة قابلة للتفجر و العطاء،و الله أعلم حيث يضع رسالته،فقد جعلها حيث يعلم مناسبة البيئة و الزمان والإنسان بطاقاته لها،و لا ريب في أن الأدب العربي كان قاعدة انطلاق الدعوة الجديدة،وبها قام التحدي والإعجاز،لعلو البنيان الأدبي،وشموخه في النثر قبل الشعر،يدلك على ذلك أن الشعر موضع ذم في القرآن فلو كان متفوقاً على النثر لجاء القرآن شعراً،و ما صدم العرب في أمره،و ما وقع الإعجاز بالنثر دون الشعر،فلو كان الشعر أعلى البناء ما كان للإعجاز بالنثر معنى لأن النثر إذا كان ثانياً كانت المعاجزة خارجة إلى دائرة الضعف،و لا معاجزة في الضعف بل في القوة تكون.
و لا يمكن لباحث منصف أن ينكر أثر العمران في الدولة العباسية في بنيان الفن الأدبي،ذلك أن الزخرفة و النمنمة في العمارة انتقلت إلى الخط العربي،وانتقل الخط بآياته المعجزة من القرآن إلى جدران أعمدة العمارة وتيجانها و مقرنصاتها مما يشهد به شيوخ هذا الفن المعماري من أمثال أستاذنا الكبير :د.عفيف بهنسي الذي أوجد العلاقة بين زيقورات الرافدين و مآذن المساجد والخطوط العربية،كما ذكر أثر الحضارة العربية في مصر الفرعونية على الحضارة الإغريقية..
و في ميدان الشعر لا نقبل هذا الغمز الخفي بتشبيه الشعر العربي بنبات العرار والأقحوان؛ذلك أن المقصود من كلامه أنه شعر موسمي،لا يكتب له الخلود و الدوام المكتوب للشعر المرتبط بالعمران .
و في كلامه مغالطة أخرى حين جعل العمران غير ذي أثر في الشعر أيام بني العباس،و لو أراد الإنصاف لعلم أنه لا يستطيع أحد أن ينكر ظهور مدرسة البديع التي ظهرت في شعر صريع الغواني،و أبي الشيص الخزاعي،و أبي تمام،و في أشعار المطبوعين من الشعراء أمثال البحتري وغيرهم،لكن النمو في زينة الشعر لم يكن قفزاً عالياً لأن الشعر لم يكن متخلفاً بل كان متقدماً فجاءت حركة التأثر بالحضارة وتفاعلاتها في العصر العباسي شكلية لا جوهرية مما قاد إلى تدمير روح الفن لحساب الصناعة،وقد ظهر ذلك في سياق آيات السقوط الحضاري لبنيان المجتمع العباسي،وظهر ذلك الأثر جلياً في العصر نفسه،و في العصور اللاحقة.
ومن هنا لم تلفت حركة الحداثة في الشعر الأنظار إلى نفسها كما كان الشأن في فن وليد كفن المقامات أو فن رسمي حمته الدولة و رعته كفن الرسائل.
و أما موقفه من فن المقامات فإنه بعد أن وضع تعريفاً لفن المقامات،و زعم أن الأدب العربي:
"لم يشأ أن ينزل عن تكلفه الذي يعتبره فصاحة وبلاغة؛ليصور ما يجيش في نفس الشعب من إحساس،و لا ما يهيجه من خيال!..و هنا حدث أمر عجيب!..إن روح الشعب لا يقهر!.. هذا الشعب في عصور الحضارة الإسلامية المختلفة قد تعطش للون جديد من الأدب،غير لون البداوة الأولى،لون من الأدب مستمد من إحساسه هو بالحياة الجديدة المتطورة المتغيرة!..أدب جديد قائم على فن مشابه،و مساير للفنون الزاهرة المعاصرة،التي يراها بعينه،و يهيم في مراميها بخياله!?فلما لم يشأ أدباء الفصحى أن يمدوا الناس بحاجتهم،لجأ الناس من بينهم،لا يملكون أداة اللغة،و لا جمال الشكل،و لكن يملكون السليقة الفنية و روح الخلق..و هنا ظهر الأدب الشعبي !.."
و زعم بعد ذلك أن " وحي الأدب العربي لم يرد أن يتحرك!..لا إلى أعلى ولا إلى أسفل،لا نحو القرآن،و لا نحو الشعب.."و استثنى من ذلك الجمود الجاحظ ، والمقامات فقال:
" و أريد أن أستثني أيضاً بعض الجانب الفني لمقامات بديع الزمان.فهو من حيث رسم أشخاصه،و تصوير المجتمع في عصره،يكاد يعطينا أحياناً صوراً ناطقة على صغرها..تذكرني بصور ( المنياتور ) الفارسي.و لم يفسد هذا الأثر الفني إلا أسلوبه اللغوي.."
في كلام الحكيم تلمح آثار المواربة في عرض الحقائق العلمية،ذلك أن المقامات كانت استجابة لطبيعة الحياة في العصر العباسي التي تهتم بالشكل على حساب المضمون،و تسرف بالزينة و الزخرف على حساب تدمير مقومات المدنية في السلوك الإنساني لأبناء ذلك المجتمع،فجاءت المقامات مبنية على تكلف الزينة اللفظية،وجالبة للثروة اللغوية التي أحس بها توفيق الحكيم لتعليم الطلبة في تلك الأزمان،و تخيروا لموضوعاتها فناً سردياً أسموه المقامات،ولم يقل أحد من أهل العلم أنها المثل الأعلى في بلاغة العربية،و ليس صواباً أن فن المقامات هو فن شعبي،إلا من جهة تصويره لدقائق الحياة الشعبية في بنيان المجتمع العباسي،وليس أدب العامة أو الأدب الشعبي هو الأدب المقابل للأدب الرسمي كما يزعم توفيق الحكيم في غير موضع من رسائله،وليست فصاحة القرآن منفصلة على علوها من فصاحة الشعب،و الحكيم يعلم أن فصاحة القرآن هي التي حمت العربية من خلال تثبيت قواعدها العامة على ألسنة المؤمنين بالرسالة العربية الخالدة،فهي لغة الحياة الشعورية والروحية و العملية و الشعبية معاً.
و لعل توفيق الحكيم يعلم أن مستويات الفصاحة ليست واحدة و لا موحدة في مثل أعلى أو أدنى،فلم يطلب أحد منا أن نتكلم كما تكلم القرآن،و لا كما تكلم الرسول،و لا الصحابة،و لا بلغاء العرب،و لا الشعراء منهم،و وجدوا أن البلاغة مراعاة مقتضى الحال،و لو تأمل الحكيم بلاغة القرآن لوجدها على علوها متباينة ومتغيرة بتغير جهات خطابها و موضوعاتها و شخصياتها على نحو مدهش،وكذلك فصاحة الرسول و فصاح أصحابه.
فعرض الأمر على نحو ما عرضه توفيق الحكيم يعد عرضاً مغرضاً هدفه تعميم الحال المرضية على أدب السلامة والصحة،و ليذهب الحكيم بذوقه في أدب العامة كل مذهب فذاك ذوقه و شأنه،ولو كان راضياً كل الرضى عن أدب العامة ما ضر الفصحى و لا دعاتها،و لا هدم هو وشيوخ المجمع الذين تولى كرسيهم في مجمع اللغة العربية بالقاهرة أمثال عبد العزيز فهمي باشا عبقري الفرنسية الذي لم يكتب حرفاً بالعربية،و عد شيخاً مجمعياً من شيوخها،و واصف غالي باشا سلف الحكيم الذي دعانا إلى هجر الكتابة بالحرف العربي و الانتقال إلى الكتابة بالحرف اللاتيني،و جعلوه في مجمع الخالدين حامياً من حماة العربية على طريقة حاميها حراميها،ثم جاء الحكيم بعدهم بأحلامه،ولحق بهم إلى الآخرة،وبقيت العربية،ودامت الفصاحة والفصحى،و لو لبس ثيابهم أعداءهم لكن الحقائق لا تدمرها الأوهام و لا دعاوى المدعين.ستظل الفصحى ما بقي العرب الفصحاء وما بقيت رسالة العرب تعد في الأحياء،و ما بقي القرآن كتاب الأدب الرسمي والشعبي معاً،و لن تكون العامية بديلاً،و لن تصل المواقف الداعية للتوسط في هذه القضية إلى النزول بالأمة إلى العامية،و لو حمل أبطال الأدب الشعبي الأوسمة و (النياشين) فستظل بضاعتهم مرذولة،وتظل الفصحى في عين الحياة العربية الحرة و قلبها.
مما سبق و ضحت لنا رسالة الحكيم التي كان يقدمها لصديقه الفرنسي،وكان يحاول أن يشيعها فينا، و يقوم بعملية القصف على قلاع الأمة في لغتها وأدبها،ذلك أن اللغة خزان الحضارة و العلوم و الفن تاريخاً،و أن الأدب مستودع الكرامة و العزة و الأنفة،و كلاهما سد في وجه الغزاة،و قد صنعوا لمحاربة اللغة مجامع العاجزين التي تدعي حمايتها،و هي تقوم على هدمها في برامج مرسومة مرة بالرخصة و أخرى بالتسهيل على الناس،و هي تعمل على دراسة مشاريع لهدمها نظاماً واستعمالاً،وطردها من الحياة إلى معابد الكهنة و قبور التاريخ،و قامت حربهم على الأدب العربي ببناء مؤسستي الصحافة و اتحادات الكذابين،و جمعوا أعداء العربة و الأدب و سموهم حماته و سدنته،و هل تستر الأسماء حقيقة المسميات?!! . أجل كانت رسالة توفيق الحكيم تخالف روح العربية في لغتها و أدبها،و لقي القبول والشهرة فوق ما أخذ من الفرنجة من أشياء مادية ماتت بموته،و أوسمة جعلته يموت على شرف مجمع العاجزين.
|