حشرجات
جمال جميل أبو سمرة
د.عبد الكريم محمد حسين.
بعد يوم حافل بالقراءة في المكتبة لحق بـي فتى يمشي على استحياء، يكاد يخفي ابتسامته، ذلك أنه ألقى التحية، وقال: أنا من طلابك يا أستاذنا، فكانت هذه الجملة دالته عليَّ، وأخبرني بتخرجه في الجامعة، وأردف ذلك بتقديم كتاب بعنوان: حشرجات، شعر جمال جميل أبو سمرة، توزعه مكتبة الهواري بدمشق، والكتاب صدر هذه السنة 2005م. فتعجبت ، وقلت: حشرجات، وأنت في أول العمر، ما هذا الاختيار يا ولدي?!! وما معناه في حياتنا? إذا بدأ أبناؤنا حياتهم بالحشرجات فهذا يعني أنهم يختنقون، وهم في أول الطريق، فبأي شيء ? بالله عليكم ? نواجه الحياة أو الأعداء?!!
( حشرجات ) صورة حسية تشتبك بأحوال نفسية تلك صورة الغرغرة عند الموت، وهي صورة تعرض ضعفنا، وسوء أحوالنا، فهل ينتبه من ينبغي له أن ينتبه إلى هؤلاء الشباب?!! والله إن في بلادنا ثروة أعظم من أموال التجار، وقوة أعظم من قوة رأس المال، لو كنتم تبصرون، يا من ينبغي لكم أن تبصروا..!! ( حشرجات ) والله شيء عجيب...!! لا تقولوا هذا فن وشعر قوامه الكذب لا إنه اختيار يقوم على الحذف والاصطفاء، وإنها نفس تغترف من أعماقها الأوجاع، واختيار المرء يدل عليه، فماذا قال في ديوانه? ولا أقول: كيف قال? لأني أدع ذلك إلى فرصة أخرى أطل بها على المجموعة الشعرية..سأصف وأدع الحكم للمتلقين من ذوي خبرة القراءة..
أضمرت أوراق المجموعة النصوص الآتية: اعتراف، والظل الشقي، واندفاع، وحوار الناي، ورؤيا، وسخرية المنديل، وشقاء، ومأساة الحادي، ومكابرة، ونبوة، ونشيد لها، و ولادة، والموءودة، وخلف الأسوار.فمن فضاء المجموعة نصه: ( سخرية المنديل ) تخيرت بعض أبياتها الآتية:
زَمِّــلِــيــني
واغضَبِــي مِــنِّــي... اغْــضِــبيِــنـي
واحــمِــلـي الـنَّـخــلَــة خَــلْــفي
لا تَــهُــزِيها
فَــلَــنْ يَـــســَّاقَطَ الصَّفحُ المـُعَــرَّى
لا تَـمُـسِّــي جِــذعَها يوماً ولا تخشي انهزَامِي
وارسلي الــبَــوحَ مَــعَ الرِّيحِ
ادفُـنِيني
بِـخَــطَــايــايَ وَمَــنديــلي ودَمــعــي
[ ص: 45 ]
لا ريب في أن التلويح بمعاني سورة المزمل ضرب من إبراز التضمين المعنوي، ومحاولة لانفتاح نصه على تلك السورة القرآنية، لكنه يعيد توجيه المعنى على جهة مخالفة للنص القرآني، فهو يومئ إلى النص، ويتجه باتجاه آخر، ففي مناسبة السورة كان الرسول ? صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يواجه وحي القرآن بالخوف واستشعار البرد في بلاد الدفء، ويرغب إلى أهله بالتزمل ( الغطاء) والشاعر الفتى يتلقى إبداعه بضربٍ من تحدي محبوبته التي يكني عنها باسم ( فينوس) ليجعلها رمزاً أو أسطورة تبنى عليها القصيدة. فكانت تتلقى أوامره: زمليني، و اغضبي مني، اغضبيني واحملي النخلة،وارسلي البوح.
وأردف الأمر بالنهي: لا تهزيها، لا تخشي انهزامي، لا تمسي جذعها يوماً.. فهو يطلب إليها إقبالاً على مراده بالأمر، ويجعل لها نهياً يكفها عما يكره منها وقوعه.. فكان حضورُ النخلة وحضور الفعل ( لاتهزيها ) على خلاف الآيات القرآنية في سورة مريم - ضرباً من استحضار مشهد مريم يوم ولدت سيدنا عيسى ? عليه السلام- وجعل صَفحَهُ ثمراً جنياً لها، لكنه نهاها أن تأتي أموراً لو أتتها ما جنت نفسها صفحه عنها، وما نقص شيء من غضبه وتمنعه، مما يجعله على بوابة النرجسية..
وكنت أتمنى على الفتى لو أزاح ( الواو ) من بوابة السطر الشعري الثاني فقال: / اغضبي منِّي/ ذلك أن القطع لا يثني الكلام في الأمر على الأمر السابق / زمليني / كما في النسق أو العطف؛ مما يجعل المتلقي يشعر بتوتر النفس من غير ارتخاء في النَّفَس الشعري، كما هو ظاهر بوجود العطف، وعودة النص إلى مبدعه أشد قوة له من التفاف بعضه على بعض كالرحى أو الأفعى.
و في ضوء ما تقدم يُحمَلُ النظيرُ على النظير أي: واحملي النخلة تصبح (احملي) / و ارسلي البوح مع الريح/ تصبح ( أرسلي )، لعلك تتذكر أن لغة الشعر تبنى على القطع، ولا تبنى على الوصل،أو بلغة القدماء: الفصل هنا أولى من الوصل، فمن فوائده اجتناب الضرورة بتسهيل همز ( أرسلي) مثلاً.
والفتى يعلم أن كثرة الضرائر في الشعر تدل على تكلف صاحبه في قوله، وأن قِلََتها تدل على أنه شاعر مطبوع، ولو أعاد قراءة المقطع على نحو ما أشرت عليه وجد حلاوة القول والمعنى، ذلك أن التجرد من واو العطف يرد الكلام إلى المنبع الوجداني، ولا يرده على كلام من جنسه. ولا أرى وجهاً في ضبط الفاء من قول / ادفِنيني /.بالضم عنده، ولعل الكسرة أولى من الضمة بالنطق في هذا الموضع، فعليه أن يعود إلى المعاجم، أو كتب الأبنية الصرفية عند العرب.
لا شك أن هذه المحاولة مبنية على تفعيلة ( فاعلاتن ) وهي محاولة تجمع بين وعي الموروث الثقافي والطبع المُوَجَّهِ الإبداعي، لكن رغبته في مخالفة المأثور في توجيه المبنى اللغوي إلى جهة أخرى من المبنى المعنوي، لا تجعل المحاولة بعيدة من حقيقة النظم ومعاودة الإبداع على الإبداع، كثيراً. فخطوات الفتى نحو شعر التفعيلة بعد أن جرت الأيام بسفائن شعر التفعيلة لا يعظم أمر المحاولة بالسبق، لكنه يَعْظُمُ باقتدار الفتى على معاودة التجارب بشيء من التفرد بطرائق العرض على نحوٍ يحمد له..إنها مجموعة شعرية تبشر بقدوم أنفاس الصباح، أو أزاهير الزمان، أو مصابيح الخلود من كوة إبداع هذا الفتى جمال جميل أبو سمرة، و أراه بعين الخيال شاعراً قادماً إلينا يخطو على أول الطريق فهل أراه يعلو بعض قمم الإبداع الشعري في قابل الأيام..?!!! فانتظروا إنا - بمشيئة الله - منتظرون!!!
|