موضوع مقالتنا هو علم الكلام، وهو من الأبحاث العقلية المتعلقة بعقائد المسلمين من حيث إقامة البراهين عليها والدفاع عنها. وقد يكون لأصل تسميته بهذا الإسم علاقة بالفكر اليوناني، لأن أصل كلمة المنطق عائد إلى الكلام في لغة اليونان. وهناك من يرى أن سبب التسمية عائد إلى الاشتغال بالكلام والجدل، أو لأن أصل مسائل هذا العلم هي صفة الكلام لله تعالى. ويُعرف هذا العلم أيضاً بعلم التوحيد وعلم العقائد وعلم أصول الدين، ويركز بشكل أساسي على الأدلة العقلية القطعية ويجعلها المرجع في تقرير مسائله، بدليل أنهم يؤولون كل نص يخالف قواعد هذا العلم العقلية. ومن المفيد معرفة أن علم الكلام هذا ليس من العلوم المتفق عليها في الفكر الإسلامي، بل هناك من يرفضه أو يعارض كثيراً من مسائله وطرق بحثه.
تعرض علم الكلام لتغيرات مفصلية بعد إدخال المنطق الأرسطي فيه من قبل المتكلمين الأشاعرة بفتوى رسمية من حجة الإسلام الغزالي، وصار المنطق اليوناني هو الأساس المعتمد في إقامة الحجج والبراهين على عقائد المسلمين. ووصل الأمر لدرجة عدم الثقة بعلم أي مجتهد أو مفكر لا يعتمد المنطق أساساً في أبحاثه. ولا نبالغ إذا قلنا إن تلك التحولات تمثل الومضات واشارات الانذار الأولية على بداية تخلف وسقوط المسلمين في مهاوى الردى الفكري. ولا نبالغ أيضاً إذا قلنا ان من تبنى المنطق اليوناني العقيم أساساً في الفكر الإسلامي قد ارتكب كبيرة فكرية لا تغتفر بحق هذه الأمة. ذلك أن المنطق الأرسطي ما هو إلا اسلوب محدد وخاص جداً في التفكير، ويستند إلى نظرية الجسم الجامد التي كانت سائدة عند اليونان، والتي اكسبته صفة الجمود والعقم الفكري. ولولا اهتمام المسلمين به لشبع موتاً في مقابر الفكر، لكن عملية الأسلمة التي كساها اياه هؤلاء المتكلمون كتبت له النجاة والحياة، لكنها حياة أشبه بالعيش المؤقت على أجهزة الانعاش في غرف العناية المركزة.
مقاومة علم الكلام من قبل المفكرين المسلمين
لاقى علم الكلام مواجهات عنيفة من الأئمة والعلماء والمفكرين، تمثلت في الدعوة إلى التمسك بالنصوص مع مهاجمة أصول هذا العلم أحياناً. لكن علم الكلام تلقى ضربتين موجعتين جداً كان لهما بالغ الأثر في صرف كثير من الناس عنه أو ضعف مواقفه، بل وضعف العناية به، على الرغم من بقايا حضور واتباع لا تزال تحاول بث الحياة فيه بطريق الانعاش المركز. وتأتي أهمية هاتين الضربتين من كونهما أثَّرتا في أصل هذا العلم والأساس الذي يقوم عليه، وهو المنطق والعقل بمفهوم هذا العلم.
الضربة الأولى كانت على يد ابن تيمية الذي عمد إلى نقض المنطق الذي صار هو الأساس الركين لعلم الكلام ونسفه من أساسه، وبيان انه لا فائدة ترجى منه، فلا ينتفع به الذكي ولا ينصلح به الغبي. أما الضربة الثانية فكانت على يد الشيخ تقي الدين النبهاني من المعاصرين من فلسطين، والذي اعتبر أفكار علم الكلام بأنها غير عقلية مطلقاً، لأن العقل لا يمكن أن يعمل في المغيبات، هذا بالإضافة إلى موافقته ابن تيمية اعتبار المنطق أسلوباً عقيماً غير منتج أبداً ويجب تركه. وهذا الضربة كسابقتها هي في صميم علم الكلام لأنها نسفت الأصل العقلي الذي يقيمون عليه أفكارهم، وكادت أن تقضي عليه لولا أن فكر النبهاني فيه بقية مركزة من الفكر الكلامي، لكنه لم ينتشر بشكل واسع بسبب اشتغاله بالسياسة، وعدم قيام اتباعه بنشر فكره وشرحه، هذا بالإضافة إلى التزامه أصولاً كلامية لقيت معارضات شديدة.
هل هناك حاجة إلى علم الكلام?
تكشفت في عصرنا الحاضر الكثير من الحقائق العلمية، وظهرت معارف ونظريات فلسفية جديدة متنوعة، مما جعل الحاجة ماسة إلى مواجهة هذا الكم الهائل من المعلومات والنظريات بطريقة تخدم الدين بشكل فعال ومنتج. ولا بد من الاعتراف بأن هذا لا سبيل إليه إلا بالتفكير الصحيح المنتج، ولا يكون أبداً عن طريق المنطق التقليدي ولا أساليب علم الكلام، لأنه لا قِبَل لها بهذا الكم المتزايد من المعلومات. ومن أجل خدمة الدين والمساعدة على نشره بشكل واعي فلا بد لنا إما أن نلغي علم الكلام، أو أن نجري عليه عمليات جراحية وتعديلات جوهرية في الشكل والمضمون. إذ صار من المناسب أن يُطلق عليه علم العقائد لأنه في حاجة إلى مواجهة نظريات فلسفية وعملية جديدة، وصار في حاجة إلى استخدام طرق وأساليب جديدة تناسب العصر وتخاطبه بلغته التي يفهمها. ولهذا فإني أرى ما يلي:
" إلغاء المنطق الارسطي أو جعله جزءاً من علم العقائد لمن تهواه نفسه ويميل إليه تفكيره. فالمنطق التقليدي نظام مغلق غير منتج، والإبقاء عليه يعني الإبقاء على علم العقائد نظاماً مغلقاً إلى أبد الآبدين. كما أن المنطق عالة على الفكر الصحيح، وقد رفضه أحفاد اليونان الغربيين أنفسهم؛ فمنهم من اعتبره وُلد ميتاً، ومنهم من اعتبره ولد كاملاً ولم يتقدم خطوة إلى الإمام، ومنهم من اعتبره من موضوعات البلاغة، بل قد عده بعضهم صنماً يحرف عن التفكير الصحيح.
" إعادة النظر في مفهوم العقل، لا سيما على ضوء ما استجد من حقائق علمية عن التفكير وتركيبة الدماغ. وقد بيَّنتُ في اكثر من مقالة أن الفكر الإسلامي مصدر رحب لذلك، وان رؤيته لمعنى العقل رؤية ليس لها مثيل، وهذا ما جعلني اقرر مثلاً بأن المقصود بنقصان عقل المرأة ليس هو ما درج عليه الناس على مر العصور من انه نقص في قدراتها العقلية، بل الموضوع أوسع من ذلك وأعمق.
" وهذا يقودنا إلى ضرورة التركيز على القرآن الكريم والسنة المطهرة بما فيهما من مظاهر الإعجاز الفكري والعلمي. غير أن الإعجاز الفكري هو أقرب إلى حضارة الأمة وفكرها من الإعجاز العلمي الذي يُعتبر عالة على ما ينتجه الغرب فقط، وحتى لو أجرى علماء المسلمين أبحاثاً فلن تمر دون موافقة الغرب لها. أما الإعجاز الفكري فينطلق من فهمنا للقرآن والسنة والفكر الإسلامي وبما استجد من حقائق بشكل جزئي نستأنس به على ما عندنا.
" ضرورة جعل نصوص القرآن والسنة هي المعتمد والمرجع لا ما نتوصل إليه بالعقل المستند إلى المنطق، لأن هذا الأخير يحتاج إلى مرجعية تصححه.
" عدم تقييد الناس بالإيمان عن طريق العقل، فواقع العقائد الإسلامية انه يمكن تقبلها وعشقها بمجرد معرفتها والتعايش معها. فليعتنقها من شاء بالطريقة التي يشاء، سواء كانت بالعقل أو بغيره.
" أن يجتمع أصحاب المذاهب العقائدية الإسلامية على كلمة سواء بينهم فهم أولى بها، وان يتجادلوا بالتي هي أحسن. وليس لهم إلا التفكير المتوازي المتعاون فهو السبيل إلى كشف الحقائق التي تخدم الدين والمسلمين وتجمع الكلمة.
" الاعتماد على الواقع في التفكير بدلاً من الخوض في فرضيات وتخيلات لا أساس لها، كنظرية الجوهر الفرد، وكون الله موجود لا داخل العالم ولا خارجه، وان قدرته تتعلق بأفعالنا عند قيامنا بها، وغير ذلك من الأمور غير العقلية.
" التوقف عن السب والشتم والتجهيل فهذا من أمارات نقصان العقل!.
ما رأيكم?
بقلم: عزيز محمد أبو خلف
المصدر: موقع بوابة العرب |