( المقتطف،د.عبد الكريم الأشتر )
خطوة جديدة في أدب السيرة الذاتية.
*د.عبد الكريم محمد حسين.
بداية أود الإشارة إلى أن كتاب [ المقتطف من مجالس الوجد و أحاديث الألفة والسمر - أحاديث السمر،للمربي الكبير،أستاذنا العلامة:أ.د.عبد الكريم الأشتر،الصادر بحلب من دار الثريا للنشر،سنة 2002م ] لا يحقق رغبتنا في الاستزادة من أدب سيرة الأشتر الذاتية،و مع ذلك فإن ما جاد به يعد زاداً جديراً بالقراءة،و الدراسة،و البحث،و لن أكون مغالياً إذا قلت:إن الكتاب من جهة فن كتابته،وطريقة تناوله،وطبيعته الإبداعية،يؤلف أساساً لحركة إحياء جديدة مستفيدة من مدارس عصر الإحياء و التجديد في عصر النهضة.
فهذا الأدب الحي كاد يغيب في خضم سيطرة متاعب الحياة المادية،و العقليات التحليلية،المشدودة إلى دنيا الترجمات السقيمة،و الإبداعات التقليدية القائمة على القوالب الجاهزة،أو السالكة في شعاب القضايا الكبرى،من غير اكتناه عميق للواقع،أو كسر رتابة المألوف مما يدل على فطنةٍ تحمل علماً وفناً،و يذكرنا بصندوق الدنيا للمازني،و ما أبدعه من فن ساخر في أدائه،جاد في ولائه للواقع المر.
تقوم هذه القراءة على نظرة عجلان في عنوان الكتاب،وموضوعاته،و طريقة المؤلف في تناولها،و ما تركه الكتاب في نفسي من أسئلة،و متعة،بقراءته.
* عنوان الكتاب: على قرب لفظ العنوان : ( المقتطف ) من العامة و الخاصة،لكنه عنوان يحمل شيئاً من المراوغة،ذلك أن ( المقطَف ): " وعاء صغير مجدول من خوص النخل،و نحوه،كان يقطف فيه الثمر" و المقتطف ما يقطف،أو المقطوف.والقطاف:يحمل إشارتين:الأولى تدل على الزمن،و الثانية تشير إلى الثمر،فكأن الأستاذ استشعر بعقله الباطن حركة الزمن،و بلوغ قطار حياته طور النضج،فسارع يسابق القطار بإلقاء بعض الثمر لطلبته و محبيه، والمقتطف اسم صحيفة كانت تصدر في مصر أم الدنيا، فلعلها بعض من حنين العقل الباطن عند الشيخ إلى تلك الأيام، وتلك الصحيفة التي كانت وعاء ثقافياً لها.
هذه دلالة إطلاق العنوان،بيد أن أستاذنا كان يقظاً للأمر،فمازال يعوذ من هذه الحقيقة الكامنة في عقله الباطن،فقيد العنوان بقوله: [ المقتطف من مجالس الوجد و أحاديث الألفة و السمر ] فالمقتطف من مجالس الوجد و أحاديث الألفة والسمر،فمجالسه كالأشجار التي أثمرت بمرور الزمن،و حان قطاف ثمارها.فلا تدري من يشبه الشجرة الأستاذ أو المجالس.
و الأستاذ بعنوانه يشير إلى أن عرضه للسيرة لن يكون على نحو يستقصي كل صادرة أو واردة في قاموس سيرته،بل سيقوم على اختيار ما ينفع الناس منها،و يترك ما ينبغي السكوت عنه.
كان الأستاذ أديباً تخير لسيرته الذاتية عنواناً يحمل صورة،وظلالاً مترامية،وشعوراً متموجاً،يطوف بك في بعض أحاديث الألفة و السمر،و بعض مجالس الوجد،و كانت المجالس التي تستحق تسمية مجالس الألفة و السمر في كتابه مسامرات نقدية ،لكن مجالسه في المقتطف نمط آخر،فكأن الأستاذ لم يجد تلك المجالس كافية للتعبير عن حياته الفكرية بسموها العلمي في الفضاء الرحب فاتخذ سبيله في حياة العامة بحثاً و نقداً و خفة روح؛ليرينا أن متعة الحياة كامنة بمرارتها،وسطوتها على الناس،فكأن المقتطف عود على بدء،يحكي لنا عطراً من سيرته،متخطياً الصور النمطية للسيرة الذاتية،كما سنرى في ظواهر تجديده،بعد الحديث عن منهجه في كتابة سيرته،فماذا قال فيها ?
*منهج الأستاذ في المقتطف: ثمة طريقان لدراسة منهج الأستاذ في المقتطف:الأولى تتناول منهجه العام في رسم موضوعات كتابه،و الأخرى طريقته في الكتابة،و مقاصده مما كتب.
أما من جهة بناء العمل الإبداعي،فإني لا أرى حاجة لربطها بعنوان الكتاب لتعلق العنوان بثمرات المواقف على اختلاف صورها،و زمنها،و مكانها،فلكل حديث ثمر يفيد متلقيه،و مغزى يسعى إليه،فكأن الأستاذ يقول لنا:إن ما في ثمرة هذه المواقف يهمنا جميعاً على سواء،من غير أن تكون المعاني الذاتية مقصورة على المؤلف دون سواه،و من غير أن تكون حركة بطل السيرة في عوالمها أساساً يرى من خلالها الجمع العام بل كان واحداً منهم،يعيش في قلب الحدث أو الفعل السردي،أو المشهد،تارة.ويتحول إلى هامش المواقف تارة أخرى على خلاف منهج الأيام،للدكتور طه حسين،إذ كنت تلمح الأسرة،و المجتمع،و الأزهر،و العالم في إطار العاهة التي أسرت صاحبها،و قهرته على الكلام.و الأمر هنا مختلف تماماً،فالعقل سلطان،و الانفعال عبد أو حصان،و الأستاذ عامل موضوعاته بتركيز،و حذر،و إتقان.فهي لوحات و خواطر،و صور مشدودة إلى مغزاها من غير أن تستطيع أن تحدد البعد الواقعي في الأحيان لصاحب السيرة من جهة أن التجربة له،فهو في السرد يعلن لشخصيات النص الداخلية انفصاله عن الموقف الذي تحدث فيه على أنه له،و آية ذلك قوله:
" إن كثيراً مما نكتبه، أيتها الأخت،و نديره،أحياناً،على أنفسنا،لا يصح دائماً،و لكنا نحاول أن نصور واقع الحال،في بيوت زرناها ،واطلعنا على أحوالها.و القصد أن نصحح وضعاً معوجاً،أو يمكن أن يعوج.و القصد أيضاً أن ننفذ إلى حقائق أخرى يمكن أن نتأملها،و ندفع الناس إلى تأملها ." فالكلام واضح البيان،صريح الدلالة والمقتضى الذي ذهبت إليه.فالذاتي قائم لكنه مختلط بالفني أو الافتراضي،يصرح به،أو يحاول أن يخفيه.
أما الجهة الثانية فأصلها قائم بتقسيمات الكتاب،و هي: المقدمة/ مجالس الوجد وتوابعها/ الطفولة و الصبا/ في قبضة الحياة/مع الأصحاب/ بين السوقين/ من طرف الحياة/ مع الإنسان/ الملحق:لو كنت شاعراً/ الفهارس.
واضح أن المقال لا يسعه عرض هذه الأبواب مجموعة،و تحليلها ومناقشتها؛ذلك أن غرض المقالة الاحتفاء بالكتاب لإثارته،و جدته في فن التأليف من جهة طبيعته،و نقل بعض أسواق المتعة التي حملها المقتطف بأسلوبه و فعله القصصي،و خواطره، وتأملاته،وخفة قلم صاحبه على النفس،و رشاقة المعاني في وصولها إلى مقاصدها من المتلقي،و الحياة نفسها،و حلاوة التعبير في الصدور.وسأكتفي بالوقوف على المقدمة،وعلى شيء من بقايا مجالس الوجد،مستمتعاً،و مغتنماً الفرصة السانحة لإثارة التساؤلات بغية التعلم من جهة،وتحريض المتلقين على قراءة العمل،ودراسته و نقده،ليكون ذلك بمنزلة التحية للعمل و لصاحبه،والتغلغل في صلب الحياة،و التفكر بما فينا،و ما حولنا،ومن استطاع أن يسلك مسالك المبدين أوشك أن يكون منهم،و متابعة الأشتر في إبداعه ثمرها الدربة في النقد والإبداع مادة وطريقة و منهاجاً .
- المقدمــة :
لست أدري لماذا كتب الأستاذ مقدمة سيرته الأدبية،أو خواطره التي ألقاها على بعض المواقف في حياته?! ليته لم يفعل،ذلك أن المقدمة من لوازم البحوث العلمية،و الدراسات الأدبية،و ليست شأناً إبداعياً،لعل الأستاذ تناسى أنهم علمونا في الجامعة أن من يكتب مدخلاً لديوانه،أو قصيدته،إنما يشعر بقصورها عن التعبير عما أراد،و لا عبرة بكثرة الذين كتبوا مقدمات لسيرهم من أمثال:أحمد أمين ،والأمير شكيب أرسلان ،و إحسان عباس .لعل عقل العالم في الأستاذ غلب طبيعة المبدع في تبويب نصه،لعله ظن أن ما كتبه هو مجموع مقالات نشرت في الصحافة بعنوان (أحاديث ) تفتقر إلى بيان اقتضاء لواجب الأمانة العلمية. و كنت أتمنى لو أنه ترك ذلك لمجهود الباحثين،و هو يعلم أن ما كتبه يؤلف روحاً إبداعية واحدة من جهة التواصل والتكوين الفني لها،فهل أراد الأستاذ أن يقول لنا: إن في هذا العمل من العلم بمقدار ما فيه من الإبداع?!! ألا يثق الأستاذ بقدرة دارسي عمله على استنباط منهجه في كتابة سيرته،و تحقيق مقاصده ?!!لماذا لم يترك لجمهرة المتلقين متعة البحث و التخمين والتأويل،و الترجيح،و الترشيح?!!و لا أدري كيف يغيب عن أستاذنا أن حلاوة الفن في إطلاقه،وليست بقيوده التي تحدد فضاءه،و تقيد مطلقه،و ترسم خططه،و تعين مقصده?لست أرى مسوغاً لمقدمات السير الذاتية التي اطلعنا عليها سوى غلبة العقل العلمي،و النزعة المنهجية على مؤلفيها،و ما أظن طبيعة العمل الأدبية تقبل مناخ البحوث و الدراسات،و أرى أن ما قام به الأساتذة يعد اعتداء على طبع الإبداع و تكوينه الأصيل.و لا ريب في أن غاياتهم من عملهم كانت قادرة على الظهور في ثنايا السيرة الذاتية على لسان بعض الشخصيات،أو من مشاهد بعض المواقف التصويرية،فما أولى هذا الإبداع الأدبي أن يتحرر من أعباء القيود المتفرقة.مهما يكن فإن الأستاذ يرى عجزاً في حياتنا القائمة على استقبال الحاجات الجاهزة،فأراد المواءمة بين إبداعه وطبيعة عصره!!
على أي حال فإن ما قدمه في مقدمته سيكون متكأً للحديث عن منهجه في بناء إبداعه طبيعة ورسالة و فناً.
*طريقة التكوين و رسالته: تكوين الكتاب بحثاً أو دراسة يعود إلى مؤلفه،و فيه يمكن التصريح،ويجوز التلميح،و يحتمل السرد الفصيح في دلالته،أو المشكل في تأويله.كل ذلك مرهون بسطوة محيط الدائرة على مركزها،و بقراءة الواقع،من ذلك قوله : " ثم حدثت مني التفاتة إلى نعية ألصقوها على بعض الجدران،فوقفت أتلهى بقراءتها,فإذا هي نعية الشيخ الطباخ،مات في اليوم السابق!بعض غرائب الاتفاق التي تتسع لها حقائق الحياة "
كان الأستاذ في مقدمته متردداً في طبيعة مؤلفه،يخشى عليه من سوء فهم الطلبة أمثالي،فهو يجد كتابه على علاقة بالمقالة الصحفية،و قد كان مكتوباً في أسبوعياته المشهورة في زاوية أحاديث الصباح.ولكن هل كانت هذه الأحاديث على سوية واحدة من جهة الهوية الإبداعية،و طريقة التناول،وسوية الأداء.و يراه يعرض المواقف،و يكفنها بالخواطر حزناً،أو سخرية،على تمكن في تجاوز الأسلاك الشائكة،و حكمة في حسن التناول و التأتي.و هو بين هذا وذاك يحتاج إلى بيان يحرر متلقيه من الإشكال،فيقول:
" لهذا حاولت،و أنا أكتب هذه الخواطر،التي سمتها وسائل الإعلام التي نشرت فيها (أحاديث ) أن أقرب فيها ما استطعت،من واقع الحياة التي نحياها في البيت و الشارع،و مطارح العمل.و أخالط الناس في مواطن الجد والعبث،وأختزن تعليقاتهم على ما يقع لهم و للناس من حولهم.واغتنمت فرصاً أتيحت لي فصورت أطرافاً من حياتي في البيت،و هي حياة الناس في بيوتهم مع أزواجهم وأولاهم ومخالطيهم،رميت فيها إلى المشاركة في تعزيز دور المحبة و الألفة و الفهم والمسامحة في حياتنا،داخل الأسرة وخارجها "
فأول مشكل عنده طبيعة هذا العمل،أكان عملاً مقالياً؛لأنه نشر في الصحافة?و هل كانت "أحاديث "لأن الصحافة وسمتها بهذا الاسم? أ كانت خواطر؛لأن مبدعه ألقى خواطره على بعض صوره و مواقفه? أ لم يكن ما قدمه صوراً قصصية،و فيها سرد يشبه القص،و مشاهد توحي بالقص ومواقفه و شخوصه? و لم لا يقال:إنه شيء من المسرح لقيامه على عناصر الزمان و المكان و الحدث والشخوص و الحوار،على بساطة ما جاء على هذا النحو و قلته? و لماذا لا نزعم أنها نقد اجتماعي?!!
إني أوافق الأستاذ على ما قاله،و أخالفه في جنس هذا العمل الذي أراه كياناً إبداعياً جديداً في مذاهب الإبداع،و أذكر أشياء تؤكد تفرد هذا العمل،دفعاً لمظنة المداراة لأستاذنا،و رغبة في تحريض القراء والنقاد على دراسة هذا العمل،من ذلك:
1. أن العمل جاء موحد الهوية من جهة مقاصده بتنوع موضوعاته واختلاف مواقفه.
2. أن المؤلف لم يكن محور الكلام دائماً،فكان يروي على طول السرد وعرضه،وكان متفرجاً حيناً،و مستمعاً أحياناً،و مشاركاً تارة أخرى،كأوضاعه في الحياة نفسها،و ليس على طريقة أصحاب السير السابقة الذين ترى المجتمع من خلالهم،لكنك هنا ترى المؤلف في سياق المجتمع دون أن يكون في بؤرة الحدث دائماً.
3. و أن العمل محكم البنيان في كل وحدة من وحداته التي جعلها كالأبواب أو الفصول في قسمته لكنها محكمة البناء من جهة اللغة و الأسلوب ،و الافتنان في العرض و المعالجة.
4. اشتبك الواقع المحس بالروايات الأدبية المشتقة من تراثنا من غير اغتراب،أو قلق في النسق،ذلك أن مقالاته جاءت كحبات اللؤلؤ لا يضرها تغير موقعها في الكتاب ؛لأنها تجري على محور واحد ،و تسعى إلى غاية واحدة.
5. التفرد في هذه اللغة العربية الفصحى القريبة في الأوهام من التناول،وصعوبتها في يسرها ومناسبتها للشخصية،و انتفاء تقعرها،أو ابتذالها،إلا إذا أوجب الموقف،أو بناء الشخصية السردية في موقعها الاجتماعي أو الإنساني شيئاً من لغة العامة،لكن اللغة طيعة له مناسبة موجبات الفن الإبداعي،و اختلاف طبقات القراء،أو المتلقين،و سبل الإبداع.
6. التغير سمة الشخصيات و المواقف،على ثبات في تصميم البنيان المناسب للصورة أو الموقف.
7. تنوع أجواء النصوص بتنوع فضاءات الحياة نفسها،على وحدة البنيان وإحكام صنعته،و براعة المؤلف في عرض صوره و مشاهده،إلى حد أنك لا تستطيع أن تجزم أن الأجواء منفصلة من الواقع،أو أنها مقتطعة من عالم الفن السردي.
8. يمكن أن تزعم أنه من أدب الأسرة،والتربية القائمة على ملاحظة الواقع،والارتقاء به إلى ملكوت الفن،وإعادة صياغته صياغة واقعية،لكن بغير أداتها ( الخيال)،و من غير الاستغناء عن العبارة الأدبية.و هذا مذهب جديد في حركة الأدب و طبيعته القائمة على الخيال.
إنه فن تعطر بفنون كثيرة فخرج ثمرة من ثمرات دربة الأستاذ،فكان موضع حيرته و تردده،و كان موضع دهشة عندي،وإعجاب بهذا المولود الفني الجديد الباحث عن اسم له،يشتقه من صفاته،أو نظرات النقاد فيه.لعل ما قدمته يعد كافياً للحديث عن طبيعة العمل في المقتطف،و رسالته في بناء المحبة بين أبناء الأسرة و محيطها.و قد جاد الأستاذ على متلقيه بإيضاح مقاصده من عمله،بقوله:
" فهذه الخواطر و الأحاديث و الأسمار و المواجد لم تكتب إذن بقصد المتعة وحدها،و لكنها كتبت،مع هذا القصد،لغاية أبعد:أن تجعل الناس،ما استطاعت أقدر على فهم أنفسهم،و أقرب من حقائق حياتهم.و تجعلهم أحد إحساساً بالأشياء،و أعمق نفوذاً فيها،و أكثر حباً،و أقل شراً.."
و التساؤل هنا يكمن في قولنا:كم من الناس تغيرت مواقفهم ورؤاهم بعد تلقي هذه الأحاديث? وكم من مقاصد المؤلف تحقق له? !! و كم ينتظر أن يتحقق من رسالته الإبداعية ?! ولا أدري إلامَ تكثر تساؤلاتي?و حتام أتحامى الحديث عن مجالس الوجد على أعتاب المقتطف?!!
*مجالس الوجد: ألفاظ الوجد و الوله و الحال و الردح و الشطح كلها حركات نفسية وحسية تلقاك في مجالس الذكر عند المتصوفة،أو الوجد كما يسميها الأستاذ في مطلع كتابه،إذ تحدث عن مجالس المتصوفة،واصفاً،و ذاكراً شخوصاً،و أماكن،و منبهاً على ما في هذه المجالس من اختلاط بين الرجال والنساء في جمهور النظارة،يدلك على ذلك قوله يصف ما جرى له من التعلق بغرام فتاة في مثل سنه،على هامش مجلس الوجد:
" فما أدري كيف تعلق بصري بها،فازددت إحساساً بحرارة الوجد التي كانت تلفح وجوهنا في فناء الدار،و الذكر ماض،و أصوات الرجال و حركاتهم تشد حواس الناس،و أنا موزع النفس بين نشوة النظر في وجه الفتاة الساطع،و نشوة الوجد،ثم اندغمت النشوتان على نحو لا أعرف كيف أصفه،فماج في داخلي شعور عميق بالفرح،خالطه على نحو لا أعرف كيف أصفه أيضاً،شعور عميق بالحزن،وكنت أنتشي بهما معاً "
أدع تحليل المشهد للمتلقي،و أزعم أن النص يوحي بعمق ثقافة الأستاذ بالتصوف،ذلك أن مشهد الحب يمكن حمله على ظاهره،و يمكن التلويح به على مواقف المتصوفة و رموزهم،فكأنه يجعل المرأة رمزاً للحقيقة الإلهية التي يتوق المتصوفة وجداً و شوقاً إليها باحثين عنها في السموات و الأرض، ودور العبادة،فكان حاله،كحال ابن الفارض الذي ذكر أنه راقب واحداً من الباحثين عنها في الصلاة مع الجماعة في المسجد فعقبه على ابنته،فوجد النشوة و الكشف والحقيقة و المتعة في البيت ،من حيث خرج صاحبه باحثاً عنها.كأن الموقف يشير إلى أن المتعة الجمالية موجودة حولنا في آيات الخالق بخلق الإنسان،لكنه أظهر أنه لم يدخل في نشوة الوجد لولا اقترانها بوجد المحب للمرأة،فكأنه يقول: هذا الحب من ذاك.و حب الناس يقود إلى حب الله.
فالمتعة الجمالية بمجلس الوجد انطلقت من الإحساس بوجود المرأة الشابة،و هو في هذا يتحدث عن مفتاح آخر للاستمتاع الجمالي بالحضرة صورة وحركة و ذكراً،و خيالاً،على وجه مختلف عما وجده توفيق الحكيم من متعة جمالية و فنية بتلاوة القرآن بالريف المصري في قرية أبي مسعود .فالأستاذ يلفت أنظارنا إلى وجه آخر من وجوه الاستمتاع الجمالي بالحياة الروحية.
لم تكن مجالس التصوف مما تفرد به الأستاذ بل هي مبثوثة في كتب السير الذاتية،لا تكاد تغفل عنها عين،ولك أمثلة تجدها بموكب سيدي الدسوقي في سجن العمر،للأديب توفيق الحكيم ،وبرموز الخوف في غربة الراعي،للدكتور إحسان عباس .
و الأستاذ نفسه ينبهنا على الأمر في مقدمة كتابه،بقوله:" أليس مما يثير العجب مثلاً،أن نمضي هذا الزمن الطويل من عمر النهضة العربية منذ مطلع القرن التاسع عشر،و نحن مانزال نخوض في حديث الكرامات،ونجادل في تقديم العقل على الخرافة"
و أتساءل أما آن لرجال النهضة أن يراجعوا تجربتهم? أما ينبغي لهم أن يتساءلوا أين يقع الخلل? هل اتهموا طرائقهم في الإصلاح? هل درسوا الأحوال الحضارية التي تعيشها الأمة? هل اكتشفوا طرق تغيير الشروط الحضارية التي يعيشها الناس بغية الاستجابة ?هل شعر الناس أنفسهم بشدة حاجتهم للانعتاق من هذا الجهل?.إنها تساؤلات لا تنتهي بانتهاء المقال،و لا تقف عند الإجابة عن السؤال.
و أختم حديثي عن هذا الإبداع الجديد بالقول:إنه يثير،و يحرك،و يدعو إلى التغيير،على رؤية ناقدة تكمن في الإبداع و خلفه.
|