تقع مقبرة قريتنا بين قسمي القرية ,( القديم) و(الجديد) !! ولطالما دعوت الله كلّما مررت بجانب المقبرة , ألا ينفتح فيها قبرهذا العام , إذ أنّه متى ما فغر قبر فاه , جرّ معه قبرين آخرين!! (لن تُقفل إلا بثالث) هكذا كان يقول شيبتنا. ثقيلة تلك الجملة كلّما سمعناها , وأثقل ما تكون في صدورنا نحن الأطفال , الذين لا نعلم شيئاً عن أسرار الحياة والموت , نضحك لأنّ الكلّ يضحك , ونبكي لأنّ الكلّ يبكي , لماذ؟…لانعلم..أو لا ينبغي لنا أن نعلم! وذات يوم , برغم دعائي/دعائنا , حدث ما كنت أخشاه . لقد فتح في المقبرة باب ولن يقفل إلا بإقفال الثالث! كان شيخاً كبيراً ؛ فلم يحضَ من أهالي قريتنا بشيء سوى الدعوة له بالرحمة , تماماً كما يموت الطفل. ولا أدري لمَ هذا الشحّ في المشاعر , ألأنّ الشيخ قد حصل على نصيبه من هذه الحياة , ونافلة فوقه , وأنّ الطفل لم يشارك بعد في هذه الكعكة , بشيء يؤسف عليه بضياعه! أكانت هذه الأسباب؟…حقّاً لم أكن أعلم! لكنّ الذي كنت أعلمه , حد اليقين , أنّنا في القرية , أسرة واحدة , يعرف بعضنا بعضاً , يعرف أدق التفاصيل , أدقّها التي تجعل للفراق ألماً حاداً (أنت لا تحزن على من لا تعرف!!) وكلّما رأيت أهل قريتي , أدعو الله ألا يكون هذا الوجه ممّن يجرّه ذاك القبر اللعين , تماماً كما تستبعد القدر عن وجوه من تحب . ولا أدري لمَ شغلت بتلك المشكلة ذاك العام , كان الأمر يحدث دوماً , وتقال نفس الجملة المفجعة , وننتظر حدوثها , كقدر لا مفرّ لنا منه , فقط ندعو الله أن يبعده عن أهلنا وأحبابنا وقريتنا , ولتكن هذه القبور من نصيب قرية معادية , أو من صفوف فرقة الجيش المرابطة قريباً من قريتنا. لكنّنا لا ننشغل , أو بالأحرى لا أنشغل أنا , أنتظر القبرين كالآخرين , وأنفض يدي مع أيديهم , ونتمتم (رحمه الله) , وإن كانت تربض في الباطن سعادة نائمة بأنّنا أكملنا القبرالثالث… ولا موت بعد اليوم!! ******** ولأنّنا في القرية نرضع التبجيل مع لبن أمّهاتنا, كان أقرب النّاس إلينا , هو ذاك الذي رفعه سنّه علينا , لكنّ قرّبه إلينا مزاحه لنا (ولامانع معه , من شيء من الحلوى) , وربّما كان حبّنا له لأنّنا نشعر أنّنا علونا إلى مرتبته(يعني كان حبّاً لأنفسنا كذلك). ومن أولئك كان العم سعيد(هكذا كنّا نناديه) ذاك الكهل (الناصع)السواد , المتين البنية , الباسم الوجه مهما كانت الأحوال , وكان لونه مادّة رائعة لسخريّتنا منه , ولم يكن يقابلها بغير الابتسامة , وعندما نراه نسرع إليه بالمطالب والمشاكسات: -ياعم سعيد....قلّب لنا عيونك !! فيمسك بأجفانه , ويجعل باطنها ظاهرها , وهو يحملق في وجوهنا , وسرعان ما نجفل صارخين , فزعين , ثمّ نضحك ونضحك حتّى تسيل ضحكاتنا من عيوننا! -يا عم سعيد . قل لنا أيش اسم أمّك؟! -عيب ياشياطين. هيّا خلّوني أشتغل! -طيّب . قل نا ما اسم (مرتك) ؟! -عيـــب يا جرو!! ونضحك بجنون , ونودّعه وقد علونا عند أنفسنا بهذا المزاح! سبب آخر رفع العم سعيد لدينا مكانا فاق لونه وطبقته, فقد كان هو أحد الحرّاس الذين يحرسون القبر إذا تأكّد لنا أنّ صاحبه من أصحاب برج(الحمل مشلول), فللنجوم عندنا مكانة خاصة(ربما لعلوها عن أيدينا), فمن كان برجه(الحمل المشلول) كان نصيباً لـ(النبّاش)؛ وحش يسرق جثث أصحاب هذا البرج, اختلف وصف شيبتنا له اختلافاً جعلنا (لا نعرفه), ولكنّنا (نرهبه) وكأنّنا نعرفه!! وكل ما أتذكره هو أيمان جارتنا لأمّي أنّها سمعت وقع مشيه, فتجسّست من النافذة ومن هول ما رأت تحمد الله أنّها ما تزال حيّة!! لذلك يحرس الرجال القبر ثلاثة أيّام, ويجعلون النار دوماً مشتعلة طوال الليل, وعلى بقية أهل القرية عونهم بالأذكار والدعوات التي لا تنقطع...طوال الليل أيضاً! شيء آخر إلى جانب النبّاش لم نفهمه في قريتنا, ألا وهي (طبقة) العم سعيد؛ إذ كيف يكون ذاك القبيلي البدين (صاحب الخضروات), والذي يشتمنا بسبب وبدون سبب, وأشياء قبيحة أخرى تحكى عنه, كيف يكون هذا أفضل من (عمّنا) سعيد؟ ****** الغرق في المجهول أشد هولاً من موت معلن, وانفتاح ذاك القبر اللعين جعل كل وجه في القرية عنواناً للغياب, ومرارة السؤال: مَن صاحب القبر الآتي؟ صنعت للحياة في قريتنا أنياباً قاتلة....أهو العم سعيد...أهو الحاج عبده....لكن االحاج سلم من الموت أكثر من مرّة؛ أوراده بعد صلاة الفجر حمته من صاعقة نزلت على الركن الذي يستند إليه! أهو صاحب الخضروات, أم إمام المسجد بلحيته الكثّة وجسده الضخم, وهيبته التي جعلت من بعضنا يترك الصلاة, من هو إذاً....أهو أحد أصدقائي...أحد إخوتي....أحد الجيران...أهي....تباً للقبر الثالث....لقد صدق جدي...القبر الثالث أشد لعنة من الموت نفسه....والنبّاش حرمنا من رؤية الغروب...واتسع القبر الثالث بحجم قريتنا كلها...وتمنّينا لو أنّ الموت لا يعرف حدّاً ولا عدداً, فكثرته تعوّدنا على مرارته, وتكنس الخوف الآسن في قلوبنا. انتظار موت لا يد لك فيه...مشاهدة من عليه الدور...والحديث عن النجوم يشتد ساعتها...فإن كان لا بد من الموت...فلنسلم من (النبّاش).. ضريح الولي القريب من قريتنا يعلو شأنه حينها....تميمة ...حفنة تراب....أو حتى قبلة مطبوعة على القبر تحمي من (النبّاش)...ولي الله أقوى من (النبّاش)...وسبات الليل ضرب من الموت...ولا يفعل النهار سوى أنّ شمسه تفضح أجساداً تتحرّك كالآلات.... وأصوات المتعة ,التي يتجسّس لسماعها الشباب كل ليلة, تختفي....تختنق كباقي الأصوات الأخرى...القبر الثالث ينكّس كل الرايات! حتى قصص الممرضّات الآتيات من (أبين), وما يحدث في نزلهنّ, يلتهمها القبر الثالث....بعض من يسترق السمع والنظر...أقسم أنّهنّ يصلّين حينئذ...القبر يقرّب إلى الله...شعور بالموت ممزوج بالخوف والسعادة معاً...انتظاره يجعل البقاء شيئاً لا مفر منه....حب النجاة لا يعرف العاطفة....هذه الحفرة لا بد من طمرها....القرية على شفا جرف هارٍ....فك الموت مفتوح باتّساع قاتل...الموت يطمس الملامح...كل الوجوه تشابهت...كل جسد يجر قبراً وراءه...ليس للأقدام أية آثار...والقرية تبثّر جسدها بالقبور...أصوات تشق سماء القرية المصفرّة...وقع الأقدام يطرق باتجاه واحد...دخان يتراقص عالياً...الصراخ يزداد حدّة وبشاعة...القرية تصاب بالذعر...بالدهشة....أكفها تصافعت بذهول....لقد أضرم النار في جسده...أخته شاهدته كتلة نار...حاولت وزوجته إنقاذه...لم يزدَد جسده سوى اشتعال...لونه الذي حمله لم تغيّره النار...حياته الضنكى أنهاها وعاء بنزين وعود كبريت... وخلفه أسئلة لا ولن تنتهي ...لماذا أحرق جسده...؟...لماذا هو بالذات؟.. تبّاً للقبر اللعين.... ....(لمَ فعلتَ ذلك.....لمَ أحرقت لونك؟) ....
|