واجه العرب عموما والعراق بوجه الخصوص ثلاث مشاكل كبيرة ومعضلة بعد سقوط الدولة العثمانية، هي التي حددت فيما بعد واقع الأمة العربية التي تشرذمت الى أقطار ودول متعددة على أسس قبلية و دينية ومذهبية. المشكلة الأولى ولعلها الأكبر والأهم والتي منها تفرّعت مشاكل وأزمات أخرى، هي تركة الفترة العثمانية الثقيلة من الجهل والأمية وتفشي الفساد والمحسوبية والتخلف في جميع الأصعدة والميادين الثقافية والفكرية والإقتصادية والإجتماعية...
وكانت بريطانيا قد وعدت العرب الذين ساندوها في حربها ضد الخلافة العثمانية حق تقرير المصير، وحرية اختيار من يحكمها ويكون قادرا على تحقيق تطلعاتها ومصالحها الوطنية. كما وعدت بمدّ يد العون والمساعدة في البناء والإعمار للخروج من واقع التخلف الحضاري والثقافي الذي فرضته الهيمنة العثمانية على المنطقة العربية لقرون طويلة.. لكن بريطانيا كانت قد لحست الكثير من وعودها التي أعطتها للعرب وأبدلتها بأتفاقيات ومعاهدات كانت وراء العديد من الإنتفاضات الشعبية في الأقطار العربية، وظهور أحزاب الرفض والممانعة التي تسببت بدورها في مشاكل كثيرة فاقمت من أزمة الحكومات المتعاقبة في هذه الأقطار.
ولعل من الموضوعية والإنصاف أيضا أن نقول، ما دمت أتحدث في هذا القسم الذي أريد تخصيصه للحديث عن دور المثقف في العراق، أن كثيرا من السياسيين ووجهاء العراق هم من دفع بريطانيا الى التصرف بحذر كبير فيما يخص وضع العراق وشكل النظام الذي يجب أن يسود، نظرا لطبيعة هذا البلد من الناحية المذهبية والإثنية. فقد كان الأكراد يتطلعون الى دولة كردية تجمع شتاتهم في العراق وسوريا وإيران وتركيا. وكان الحلفاء قد وعدوا الأكراد في مد يد العون لهم ومساعدتهم في تحقيق حلمهم في ذلك. ولامجال للخوض في أسباب تخلي الدول المتحالفة عن الأكراد والتنصّل من وعودها لهم، لأن الحديث في ذلك يطول كما يختلف لأختلاف وجهات النظر في هذه القضية.
أما عرب العراق فلم يكن موقفهم واحدا، كما لم تكن لهم رؤية واضحة أو ناضجة في الحكم. وكان مشروع الدولة العراقية بمعناها الصحيح غائبا عن أذهان أغلب العراقيين الذين ذهبوا في خطوة بائسة غير محسوبة ولا مدروسة- والتي سوف تظهر نتائجها السلبية بعد ذلك- في التطلع الى خارج العراق بحثا عن ملك يحكمهم! كانت هذه هي المشكلة الأخرى والتحدي الاكبرالذي تزامن مع وجود الجهل والتخلف وانعدام الكفاءات المطلوبة لإدارة شؤون البلد. مما جعل البعض يشكل وفدا لزيارة الشريف حسين يلتمس منه أن يبعث أحد أبنائه ليكون ملكا على العراق. كان هذا بالنسبة الى بريطانيا حلا وسطا ومناسبا للمشكلة المعقدة في هذا البلد. فالملك فيصل بن الحسين يمتد نسبه الى الإمام علي عليه السلام، وريث النبي الشرعي ووصيّه على الإمة من بعده كما يعتقد الشيعة، وهذا قد يبدو كافيا بالنسبة لشيعة العراق الذين قبلوا ذلك على تردد وحذر في أجواء من الإنقسام والإفتقار للوعي السياسي. ولما كان فيصل سنيّ المذهب، حصل التوافق ولو شكليا بين السنة والشيعة أن يتولى حكم العراق رجل من الأسرة الهاشمية.
ولعليّ لا أغالي إن قلت أن العراق كان بالرغم من هذه التوافقات الشكلية من أكثر دول المنطقة في ذلك الوقت قدرة على تسوية أوضاعه الداخلية ولملمة نفسه، وترميم بيته الداخلي وإيجاد حلول لمشاكله في مجال التعليم والثقافة وبناء دولة قوية مستقرة. فقد كان هناك برلمان على ما فيه من عيوب ومساويء، وأحزاب سياسية، وصحف وحريّات مدنية بما يتناسب والظروف القائمة في حينها والتي لو قيست الى ما وصلت إليه أوضاعنا اليوم، لكانت في غاية الرقي والتقدم.
لكن العامل الخارجي يعود مرة أخرى وبقوة هذه المرة ليلعب دوره غير الإيجابي في تشكيل خارطة الواقع السياسي في الوطن العربي، ويساهم في تحديد مسار مستقبله بعد نهاية الحرب الثانية. فكان قرار تقسيم فلسطين، ورفض العرب لهذا القرار باعتبار قضية فلسطين تخص العرب والمسلمين. وهكذا أصبحت قضية العرب الكبرى، كأن لم يكن لكل قطرعربي مشاكله الداخلية التي كادت بل كسرت ظهره، مما دفعت كل قطر الى تصدير أزماته ومشاكله الى الخارج، والهروب من مسؤوليّاته الداخلية واللعب بأوراق القضية الكبرى!
وإذا كان العرب قد عجزوا عن إيجاد حلّ لقضاياهم الداخلية، فهم بالقطع أكثر عجزا في حل غيرها من قضايا لا تخصهم إلا بقدرما تجلب لهم من شهرة ومنافع شخصيّة، والتنصّل من المشاكل الداخلية وضرورة البحث الجاد عن حلول واقعية مناسبة لها، بدلا من تصدير شعارات الغرض منها خداع الجماهير وتضليلها وصرف أنظارها عما يفضح عورة الحاكم ويظهره في صورته وحجمه الحقيقي..
في قلب هذا الصراع وما فيه من تناقضات حادة، كان لابد لصوت المثقف أن يكون صدى لهذه التناقضات، يشارك في صياغتها، ويعمل في نطاقها ويدفعها بقوة الى أن تفعل فعلها السلبي في نواحي الحياة وأشكالها المتعددة؛ إنطلاقا من مصلحة شخصية ونظرة نرجسية شكلتها ثقافة موروثة من عصور الهيمنة الأجنبية والشعور بالعجز، وواقع اجتماعي وسياسي وحضاري متخلف، أو شعور بالتعالي والإنكفاء على الذات ولعن الأوضاع، ووصف الجماهير بالرعاع والغوغاء. ويأس يدفع بالمثقف أحيانا الى الإيمان بالقدر والإستسلام والقبول بالواقع ومداهنته. كما يدفع آخرين كثر الى الإنتهازية والتصيّد واستثمار الفرص والتقلب في الأدوار و استبدال الأقنعة..
ما هو دور المثقف في تشكيل منظومة القيم الدينية والثقافية والإجتماعية والسياسية في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية بمباركة أجنبية، وحتى سقوطها بقرار أجنبي.
ذلك محور حديثنا القادم إن شاء الله. |