الثورة السورية من الداخل ترجمة: جبران خليل وخيرات محمد
رغم التعتيم المفروض من طرف نظام بشار الأسد على الصحافة الدولية,فقد تمكنت الكاتبة و الصحفية النرويجية «آسن سيرستاد» من التسلل إلى سوريا, في مستهل ماي الجاري. و نقلت لنا في ما يلي ما يحكيه الرجال و النساء الذين التقتهم من معاناة يومية مع القمع البوليسي و المهانة التي يشعرون بها و من استلهام للنموذجين التونسي و المصري في مواجهة الاستبداد, و كيف يتعلمون كل يوم تخطي حاجز الخوف.
يتقدم حافي القدمين في الشوارع. هواء المساء بارد. السماء داكنة. يحرك ساقيه ويملأ رئتيه من عطر الربيع. سيارات عابرة.يغمر النور الرصيف.رمال و حصى يدغدغ أخمص قدميه.الآلام تمض بطنه,يؤلمه عنقه. «لم تكن هذه سوى عطلة , قالوا له ,في المرة القادمة سيكون الأمر جديا». تقترب سيارة أجرة.أوقفها. وبعد نصف ساعة,وقف أمام باب حديدي يضغط على الجرس. ظهر وجه مستغرب خلف الباب ثم انفجر بضحكة هازئة:»هل قصصت شعرك؟». يدخل عابد إلى الشقة.الذين كانوا نائمين شرعوا يدخلون بخطوات بطيئة,و يضحكون فور رؤيتهم له. لقد خرج عابد لتوه من السجن.فالطالب المهندس كان واحدا من آلاف الأشخاص الذين تم اعتقالهم منذ بداية التظاهرات في سوريا. كان البوليس يختطفهم من المؤسسات التعليمية ومن المساجد والساحات و الشوارع. مصالح المخابرات السورية في كل مكان.فالشرطة السورية مقسمة إلى مجموعات وفروع و فروع أصغر.و تمتد شبكة عملائها على طول البلاد,البعض منهم موظف رسمي والبعض الآخر مخبر بدون أجر.ليس هناك مخبر أفضل من خضار أمام المسجد أو حارس ليلي أمام المستشفى؟ من يملك إمكانية أوسع لمراقبة التوجه السياسي لعائلة ما من معلم يسأل تلميذه عن رأي بابا في السيد الذي توجد صوره العملاقة في معظم الجدران في كل مكان؟ إحدى الصور تظهره في بزة عسكرية و نظارات شمسية.و أخرى تظهره و كأنه موظف بنك.عيناه صافيتان و متقاربتان, شعره جيد التصفيف, وعنقه طويل و دقيق. في الواقع هذا السيد كان طبيب عيون لكنه وجد نفسه فجأة عند وفاة والده في سنة 2000 دكتاتورا مستبدا. إسمه بشار الأسد و الثورة المضطرمة حاليا تهدف إلى رحيله. في يوم جمعة, غامر عابد بالمشاركة في تظاهرة بعد الصلاة.ما أن تم تطويقهم حتى أحس بألم في العنق.الصعقة الكهربائية انتشرت في جسده كله ثم خر مغمى عليه.و حينما أفاق,رأى أشخاصا آخرين إلى جانبه على الأرض. و ظهر من العدم, مثل أشباح, رجال المخابرات بالزي المدني. ثم جروه ,مثل الآخرين, إلى حافلات نقلتهم إلى ضاحية دمشق. «وضعونا في صف داخل ساحة داخلية محاطة بأسوار عالية. أجبرونا على الركوع على ركبنا و أيدينا مقيدة خلف ظهورنا. أحصيت عدد الآذان كي أكون فكرة عن الزمان الذي يمر. لم أعد أشعر بساقي. و حين أمرونا بالنهوض بعد أذان العشاء, لم يستطع أحد منا الوقوف على قدميه.سقطت أرضا, فأشبعوني ضربا و أجبرت على الوقوف,فسقطت من جديد. و حين حل الليل, جمعونا في زنزانة, لتمضية الليل وقوفا. و في الصباح الموالي,أعادونا إلى الساحة. و دام الأمر على هذه الشاكلة ثلاثة أيام. آنذاك فقط بدأت الاستنطاقات». البعض تعرض للتعذيب لمدة ساعات قبل أن يعود داميا إلى الزنزانة.أربعة منا تجرأوا على إقامة الصلاة تم رشهم بالماء البارد و تعرضوا للضرب المبرح. و كان الأكثر تعرضا للضرب من الطائفة العلوية,و هي نفس الطائفة الأقلية التي تنتمي إليها عائلة الأسد, و لهذا تعرض للعقوبة التي ينالها الخونة. أمر عابد كفه فوق رأسه,بدأ شعره في النمو.سيستعيد قريبا مظهره الأول. «إما الآن أو أبدا, فقطار الحرية يمر حاليا فإما أن نصعد إليه أو نتركه يمر» رد أحدهم ضاحكا : «أنظروا إليه, أسبوعان في السجن و ها هو قد عاد لنا مانديلا حقيقي». ساد الضحك و تمكن من مجموعة الأصدقاء. محمود وزوجته ديما يستقبلان في حي اليرموك,و هو مخيم لاجئين قديم في ضاحية دمشق.إلى هنا قدم عابد الليلة التي أفرج عنه فيها. السلطات العمومية تعرف ما تفعل.نشر الرعب.قتل المظاهرات في مهدها, و عدم انتظار تجمهر الناس في الساحات, كما حدث في القاهرة.ففي الوقت الذي بلغ فيه عدد المتظاهرين في تونس و مصر الآلاف بسرعة, كانت القوات السورية تقمع مجموعات من عشرين أو خمسين أو مائة متظاهر. و كانت مصالح المخابرات تقوم باعتقالات واسعة عوض التركيز على عدد صغير من القادة السياسيين. «أن تنزل ألف شخص في شوارع هذه المدينة, فكأنك ترى مليونا بالقاهرة» يوضح محمود. قاعة الاستقبال في شقة محمود لا تتجاوز ضعفي مساحة الزنزانة, و لم نكن سوى سبعة و لكن بما أن الجميع يدخن سيجارة وراء أخرى, فإن الهواء النقي أصبح نادرا و بدأت العيون تؤلمنا. حل منتصف الليل, موعد المغادرة. كان الأطفال لا زالوا يلهون بالخارج.بعضهم يركض و البعض الآخر ينعس في حضن والده, في انتظار دفء السرير.بقايا الأزبال تحت أقدامنا, و بعض الخضارين لا زالوا فاتحي محلاتهم..كانت الحياة متواصلة. يحل المساء. عالية تدندن, و عيناها مركزتان على كتابتها. يقول المثل السوري «حين يقترب الخطر غن له».تتحلق الفتيات حول طاولة خشبية.فوقها مقص و أوراق سوداء اللون وأقلام و علبة طباشير.ترسم عالية شيئا ثم تملؤه بالطباشير. النوافذ مغلقة رغم أنهن كن في الطابق السابع, فالحذر ضروري. الشقة أمر غير مألوف في سوريا: مجمع سكني. يعيش الطلبة هنا. تضم غرفة عالية خزانة ملونة بالوردي, وسرير بنفسجي و درج مثقل بعدد كبير من قوارير صباغة الأظافر.حين تفتح باب الخزانة تنهمر الملابس منها, كانت عالية ترتدي قميصا قصيرا يلف صدرها بينما تنزل ضفيرتاها على الظهر «أوقفوا المجازر» تظهر الكلمات واضحة وهي تخرج من بين أناملها. وفي لافتة أخرى كتبت «أوقفوا العنف». يبدأ النقاش الطويل حول الشعار الموالي ويتم الاتفاق على : «أوقفوا محاصرة أطفال درعا». في هذه البلدة الصحراوية الناعسة على الحدود مع الأردن انطلق كل شيء. ففي زوال أحد أيام مارس, قام بضعة شباب بالكتابة على أحد الحيطان فتم اعتقالهم من طرف الشرطة, ومنذ ذلك الحين لم يعرف أحد مصيرهم. بحث أقاربهم عنهم و سألوا دون طائل. توجه شيخ المدينة مرفوقا ببعض آباء الشباب المختفين, إلى مدير المصالح الأمنية شخصيا. قال الشيخ»أعيدوا لنا أبناءنا» و نزع عقاله عن رأسه واضعا إياه فوق الطاولة, وهي إشارة إلى أن ما يطلبه له أهمية كبرى. فما كان من الضابط إلا أن قال لهم : «إنسوا أبناءكم و اصنعوا أبناء آخرين» و ازداد الأمر سوءا حين قدم الشيخ المزيد من الاستعطاف فأجابه الضابط بعنجهية : «إذا لم تعودوا قادرين على إنجاب آخرين فابعثوا لنا زوجاتكم كي نفعل». اختفاء الشباب و الإهانة الكبيرة التي تعرض لها الأهالي دفعت بالمزيد من المعتصمين أمام البناية الإدارية, كانوا يطردون فيعودون. وبعد أسبوع تم إطلاق سراح الشبان, وحكوا عما تعرضوا له من تعذيب و تنكيل, فانتشرت الاحتجاجات ثم امتدت إلى مدن أخرى. ظلت دمشق فقاعة هادئة حتى نهاية مارس, حين خرجت مظاهرات تلقائية. دون تنسيق إذ كان خطيرا التواصل بالهاتف أو عن طريق الفايسبوك. لذلك فقد تم تحديد موعد و مكان التظاهرة و الإبلاغ عنه من فرد إلى آخر و من صديق لصديق. كانت صديقات الطابق السابع يهيئن تصاميم المظاهرة النسائية الأولى في مركز دمشق.اثنتان منهما شقيقتان ترعرعتا في درعا. وقد مر أكثر من أسبوع دون أن تحصلا على أخبار من عائلتهما بدرعا. فشبكات التلفون المحمول مقطوعة و الأنترنت غير مشغل إضافة إلى منع الصحفيين من دخول المدينة.و بذلك ظلت تسجيلات الهاتف المحمول التي تتمكن من مغادرة المدينة سرا هي الوسيلة الوحيدة للتواصل مع باقي أنحاء العالم. تشرح إحدى الشقيقتين : «الماء مقطوع والتيار الكهربي كذلك. لم يعد هناك حليب للأطفال و نحن لا نعرف ما إذا كان والدنا ووالدتنا و إخوتنا لا زالوا على قيد الحياة أم لا» قتل مئات الأشخاص خلال المظاهرات. وحسب وسائل الإعلام السورية فإن القاعدة وإسرائيل هما من وراء هذه التظاهرات. وأظهرت التلفزة الوطنية كمشة من الأفراد يعترفون بأنهم يعملون لصالح القاعدة وأن «الأموال تأتيهم من السعودية» و يقول ثالث أن «الناس كانوا مجبرين على الخروج للتظاهر» تواصل عالية :» في الواقع أنا لا أطلب سوى حياة كريمة, لكن الأمر لم يعد ممكنا» مضيفة «إننا نشعر بأننا صغار تحت هذا النظام...حتى الآن كنت أدعو صديقاتي إلى عدم الاهتمام بالمظاهرات و الانتظار, لكن الأمر تحول إلى مجزرة و لم يعد بإمكاننا تركهم يواصلون ما يقومون به» الذكر الوحيد في المجمع يقوم بنقد ذاتي فيقول :»أنا أخاف كثيرا. لم أشارك في أي تظاهرة, فأنا لست شخصا شجاعا» ينتمي إلياس و عالية إلى أقليتين دينيتين, فإلياس مسيحي و عالية درزية. يقول إلياس :» أخاف مما قد يحصل مستقبلا فالنظام القائم يحافظ على التوازن في البلاد وأنا أخاف من الإسلام و أخشى أن تتحول سوريا إلى عراق آخر» ستلتقي الصديقات غدا في أحد شوارع دمشق, حيث سيتبضعن أو يتجولن حتى الثالثة زوالا و تلتقين في مكان محدد و ثمة تتجمعن في نهاية الشارع لرفع لافتاتهن. ويهربن عند وصول الشرطة. بفضل مياه نهر بردى, تحولت دمشق إلى واحة مليئة بالحدائق الغناء و الحقول الخصبة. وبهذه الواحة تجمع مزيج من الناس القادمين من مصر و من أشوريا وبابل و الفرس والروم, حيث ترك كل واحد منهم بصمته. مزيج من القديم و الحديث . بعد أن زار مارك تواين مدينة دمشق كتب: «المدينة تقيس الزمن ليس بالأيام, و لكن بالامبراطوريات التي ولدت في حضنها ثم اندثرت.إنه نوع من الخلود...لقد رأت دمشق كل ما مر على ظهر الأرض ولا زالت على قيد الحياة.لقد تأملت الرميم الجاف لعدد من الامبراطوريات وسترى قبور آلاف أخرى قبل أن تموت» الجامع الأموي الكبير يشرف دائما على قلب المدينة القديمة.و هذه الجمعة كان الجامع الأموي موضوع دراما عصرية.فقد دعا أحدهم للتظاهر عقب صلاة الجمعة, و لكن الجامع تحت رقابة شديدة وأي كلمة من فم الإمام يتم تسجيلها. انطلق الأذان من صوامع المسجد. البازار القريب خال تماما والحوانيت مغلقة. و روائح العطور تنبعث من دكاكين العطارين. كنت وحيدة تقريبا في المدينة القديمة.لا وجود لأي سائح. لا آلة تصوير و لا بطاقة. لم يتبق سوى السكان المحليون, أطفال صغار على دراجاتهم, أمهات حاملات لأطفالهن وأجداد فوق كراس أمام الأبواب. و كما لو بالصدفة اقتربت من الساحة أمام الجامع الأموي. كان الصمت ثقيلا. أغلقت الشرطة كثيرا من الشوارع بينما امتلأت المنطقة بالمخبرين. الجميع يعرف من هم ولو أنهم كانوا يتصرفون ظاهريا مثل أي كان.كانوا يجلسون على الطوار أو يتكئون على حائط أو يتجمعون قرب باب من الأبواب. كانوا يرتدون سراويل و قمصان عادية مثل الجميع, فليست ملابسهم هي ما يميزهم وإنما هي تلك النظرة .ليست نظرة متطفلة بل هي نظرة فاحصة و مدققة.الجميع يتحدث قليلا أو كثيرا لكنهم هم لا يقولون شيئا تقريبا و حين يتكلمون فلكي لا يقولوا شيئا, هؤلاء رجال في مهمة. بعد أن تجولت قليلا كسائحة,تسللت إلى ظل الجامع.مررت أمام تمثال صلاح الدين , الذي غزا القدس سنة 1187 , ثم واصلت طريقي. التحق بي سريعا بائع جوز عارضا علي لوزا مقليا, و فستقا و حلويات بالسمسم.اشتريت منه و من بائع سجاد صيني كي أفلت من مراقبة أصحاب المهمات. لقد دخلت البلاد بواسطة كذبة.فلأنهم يمنعون دخول الصحفيين,فقد قلت لهم بالمطار أني شاعرة. حين انتهت الصلاة, تغير الجو و بدأت الأمطار تتهاطل فتحولت الشوارع الفرعية إلى برك مائية تصل إلى منتصف ساقي. دعاني أحدهم للدخول إلى كشك مفتوح اتقاء للمطر و البرد الذي بدأ يتساقط بدوره محدثا دويا فوق السقوف. «الله كبير» قال الرجل الطيب الذي يتابع تساقط البرد من نافذته. «إنها المرة الأولى التي أرى فيها هذا في دمشق.إنها حماية الله, هكذا يبقى الناس هادئين» . عرض علي الشاي و أشعل موقدا لهذا الغرض.أمضينا لحظة في تأمل الدرات البيضاء التي تسقط أوراق الياسمين. «هكذا لن يخرج الناس كي يموتوا اليوم» تنهد و حدثني عن شقيقه الذي كاد أن يقتل من طرف القناصة على السطوح في الجمعة الماضية «لقد لامست الرصاصة سطح جلده لا غير هنا» و أشار إلى عنقه «إنها النهاية. ربما ليس هذه الجمعة و لكن الجمعة القادم يجب عليه أن يرحل» طارق يتحدث بحنق عن بشار الأسد، عن الشطط في السلطة، عن الفساد، عن السجناء والمختفين. ومثل سوريين آخرين ألتقيتهم، يحدثني عن كل شخص يمكن اتهامه، ليس فقط إذا كان نشيطاً على المستوى السياسي، ولكن أيضاً إذا قَدَّر لك أن لا تكون لطيفاً بما يكفي تجاه شرطي، أو إذا لم يعجب وجهك هذا الشرطي,يمكن أن تعتقل وتسجن لعدة سنوات. هل تعلم متى شعرت بالخوف أكثر؟ عندما شاهدت الأسد على شاشة التلفزة. اضطررت لتهدئة الأطفال، حتى يتمكن الجميع من الإنصات في خشوع. ولكن منذ شهر مارس كل شيء تغير. تحدثت مع أبنائي عما يجري في بلدنا. ولكن ابنتي البالغة من العمر 5 سنوات، بدأت تبكي عندما شرحت لها أن بشار يجب أن يرحل. صاحت »أحب بشارا«، كما علموها ذلك, أجبتها» لا، عليك أن تكرهيه»« ردت وهي تبكي «»ولكنني أحبه « طارق أشار للصورة على الحائط وعلقها وراء الباب» »جاؤوا بها قبل عشرة أيام، وأمروا بلصقها، لم أجرؤ على الرفض، فالأمر يتعلق بمورد عيشي, الجميع فعل نفس الشيء, وبالتالي ليس مفاجئاً أن تحس ابنتي بالحيرة ولا تستقر على شيء«. عادت الشمس للظهور، وبدأت الأزقة تجف. غادرت المدينة القديمة, في ذلك اليوم قتل حوالي مائة سوري. شيرين سيدة أعمال مليئة بالثقة, فهي شريكة في ملكية متجر للمجوهرات في أرقى حي تجاري بدمشق. تتحرك جيئة وذهاباً داخل المتجر في لباس جينز. المتجر كان ينوي القيام بتخفيضات خلال فصل الربيع، لكن وقع حمام الدم في درعا» »ليس من اللياقة اقتراح عروض مغرية عندما يقتل الناس»توضح شيرين. وبدل القيام بالإشهار، نقترح على الزبناء تخفيضات عندما يصلون الى الدرج الصغير أمام باب المتجر. إذا ما أنفقوا ما يعادل 400 أورو، نعطيهم قسمة شراء بقيمة 200 أورو. دخلت سيدة في الخمسين من العمر تلبس سروال جينز أبيض وقميص متجانس وحذاء بعلو مثير. تحول الحديث عما يمكن أن يتلاءم مع شكل الوجه، الموضوع الذي يثار في متاجر الموضة ولو أن المدينة برمتها تحبس أنفاسها. شيرين أطلقت زفرة عميقة وقالت «»أنا بحاجة لشريحة لحم» توجهنا على بعد بضعة منازل حتى المطعم المفضل لديها. في هذا الحي لا ترى أية صورة للرئيس, تعتقد أن النظام لا يريد تلطيخ الواجهات النظيفة للطبقة العليا. وكلما تحولت الى الأحياء الشعبية، كلما كثرت صور الرئيس, طلبا شريحة لحم ونبيداً, شيرين كانت تنفث بشراهة سيجارتها, في الخمسين من العمر ومعتنية بذاتها, شعرها طويل وناعم, بشرتها جميلة وشفاهها حمراء, والمثير أكثر لدى شيرين حاجباها اللذن تم تشذيبها وإعادة رسمها في شكل هلال أسود يميل نحو الصدغين. شيرين سيدة لها سلطة على أبنائها الثلاثة، بينما زوجها رجل أعمال في بلد منتج للنفط. أحد أبنائها يدرس علوم الحمية، ابن آخر بحوزته رقم قياسي محلي في التهام أكبر عدد من الهمبورغر، والثالث مازال يدرس في الثانوية. تقول شيرين »»هناك ثلاثة مواضيع لا أتحدث فيها أبداً, السياسة، الدين والحب»«، ثم بدأت تتحدث عن هذه المواضيع بالضبط. »هناك شرذمة من المتمردين يثيرون الشغب«، تقول شيرين بخصوص النشطاء، »بطبيعة الحال، نحن بحاجة لإصلاحات، ولكن التغييرات يجب أن تتم شيئاً فشيئاً«. شيرين ليست من الموالين تماماً للرئيس، ولكنها عموماً تعتقد أن ما يقوم به أمر جيد» »لدينا سياسة خارجية جيدة، نحن مستقلون, ننتج كل ما نحتاج إليه، باستثناء بعض قطع الغيار بالنسبة للطائرات, علمنا بذلك بسبب العقوبات, كنا مع ذلك ضمن» »محور الشر««، نحن مستعدون, لسنا في حاجة لأي تدخل أجنبي مثلما في ليبيا، وأين يكمن المشكل مع القدافي؟ وجدت دائماً أنه كان يقول أشياء كثيرة حقيقية«« شريحة اللحم كانت طرية وكذلك النبيد. «»كان على الرئيس أن يأمر بشنق رئيس الأمن في درعا، تؤكد شيرين، في الساحة العامة أمام المقر المحلي لحزب البعث«.» مستاءة جداً بخصوص الأطفال الذين تم اعتقالهم وتعنيفهم لأنهم كتبوا شعارات على الجدران» »الطريقة التي عومل بها الآباء كانت بمثابة إعلان حرب, وعجرفته الزائدة ستؤدي إلى نهايته««، تستطرد قبل أن تجدد طلبها بالشنق في الساحة العمومية. « هناك، كلهم بدو، مقسمون في عشائر, منذ سنوات وسنوات وشرفهم لا يحترم ونظرتهم للدين لا تحترم. هذه المرة، الإهانة كانت كبيرة ومذلة الى حد أن الغضب والعنف تفجرا. ما أخشاه الآن هو أن يستغل المتطرفون الدينيون الوضعية لإثارة الناس. أحب هذا البلد، هنا أريد أن أعيش الآن«« الوجبة انتهت بتحلية من الكريما المثلجة مزينة بالفستق المحلي. أخذ كل واحد منا ملعقة ليتذوق قطعة التحلية الفريدة التي وضعت في الوسط. تضحك شيرين وهي تقول» »إذا لم تحس باللذة في حياتك، تذوق هذه«« تحول النقاش, السياسة والدين والحب مواضيع أثيرت. بقيت بعض جزيئات التحلية في الصحن. يسأل النادل إن كان ذلك لذيذاً, ترفع شيرين ثلاثة أصابع وتقول» »تلذذت ثلاث مرات«« في حي سروجة يعيش رسام وامرأة و 20 طائر حمام وراء باب عتيق. شجرة الليمون في الحديقة لا تحمل سوى فاكهة واحدة لكنها ضخمة الى حد أنها تثقل الغصن نحو الأرض. ورود بيضاء في عنفوان تفتقها تتسلق الجدار. يصلنا صوت المغنية اللبنانية فيرور من المرسم. صوت أعطى دائماً الأمل للرسام. يوسف عبد الكي يرسم لوحات الطبيعة الميتة، كما يقول بلغة فرنسية جيدة بسبب منفى لمدة ربع قرن في باريس »منذ 300 عام والطبيعة الميتة هي أشياء هادئة وجميلة» لوحاتي أنا تخلق القلق» على طاولة عمله محارات وقواقع، حذاء رجالي شتوي، أقلام مستعملة ، جمجمة بضعة علب، مزهرية، الأكسسوارات موضوعة على عجل في الأدراج، هو يرسم علبا ومزهريات فارغة، حذاء منسي، قلب مثقوب بإبرة ضخمة ولكنه معروف بالخصوص بأسماكه ذات النظرة الانسانية الجامدة المرتبطة والمتشابكة. أربعة من لوحاته اقتناها المتحف البريطاني. أراني اللوحة التي سماها »الثورة السورية« مرسومة على قطعة سوداء فاحمة, بتطريزات متماوجة بالأسود والرمادي, أحذية بدائية مشت في بركة من سائل لزج .عبد الكي يشير إلى »»رانجرز»« التي استلهم بصمتها. اللوحة لاتترك أدنى شك حول موقف الرسام. منذ أربعين سنة وهذا المعارض يوجد على اللوائح السوداء للنظام. وقع أولى رسوماته الكاريكاتورية سنة 1966، قبل أن يأخذ حافظ الأسد السلطة. «على مدى 40 سنة, سواء كانت جمهوريات أو ملكيات أو إمارات, كانت الدول العربية محكومة بأساليب فاشيستية, لدينا برلمانات بدون سلطة، جرائد فارغة من أي محتوى، محاكم ليست لها حرية الأحكام، الأنظمة في العالم العربي احتجزت السياسة ومنعت الناس من التحكم في حياتهم. النظام يرتكز على أساسين: السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والبترودولارات، ليس هناك نظام واحد كان خارج نفوذ واشنطن أو مستقلا تجاه الدول المنتجة للنفط.اليوم كل شئ يتغير, ولكن لاندري نحو ماذا. في سوريا كنا نعرف دائما ما نستطيع وما لا نستطيع قوله, وبالتالي لا أحد يعرف ما يريد الناس فعلا، هل يريدون دولة اسلامية شيوعية أو ديمقراطية؟ يتساءل على إيقاع نغمات فيروز. «القادة الحقيقيون هم المخابرات, ليس الجيش أو الرئيس. مصالح الأمن أصبحت وحشا. كل الأحزاب السياسية ضعيفة, الناس قضوا سنوات في السجن، آلاف ذهبوا إلى المنفى, الثورة لها صوتان الأول هو صوت الشارع ,تريد رؤية النظام يسقط. أحزاب المعارضة أكثر حذرا، ليس لأنهم يدافعون عن النظام، فقد كانوا أول ضحاياه ولكن يرون أن الوضع غير مستقر, لدينا خليط صعب من التوجهات الدينية: السنة، الشيعة, العلويون، الدروز الاسماعيليون والمسيحيون، ولهذا فالأحزاب لم تطالب بإسقاط النظام بل طالبت بإصلاحات». هل يمكن للنظام أن يتغير طالما ظل بشار على رأسه؟ «الأهم هو ألا يتحول هذا إلى حزب ضد العلويين, إذا كان النظام مرفوضا يمكن أن يفهم ذلك كرفض للعلويين وهو ما قد يقود إلى حرب أهلية. من الخطأ اعتبار أن الشرطة السرية يقودها العلويون أو هم يقودون كل البلد. العلويون أناس فقراء مقموعون مثل الآخرين» ضربات أجنحة تأثينا من الفناء, يلقى عبد الكي نظرة إلى الخارج, رن جرس الباب, دخل صديق قديم, هو ويوسف سجنا في سنوات 1970. «لأول مرة خلال 40 سنة يتظاهر الناس في شوارع دمشق. عطش كبير». يقول ابراهيم تنتظرون نتيجة ملموسة من كل مظاهرة, ولكن الأهم هو أن ينزل الناس إلى الشارع ويكسروا حائط الخوف، يقول عبد الكي هناك اتجاه جديد في المجتمع، نطرح أسئلة جديدة, أسئلة ما كان أحد يتصور طرحها أمس أو أول أمس» خرجنا إلى البهو, حيث كانت المرأة التي لم أعرف إن كانت زوجته أو ابنته أو مساعدته، تساعده على إخراج اللوحات من المرسم، وضعتهم على الحائط حتى نتمكن رؤية التموجات السوداء ومختلف مستويات الرمادي في ضوء النهار، لوحة متكئة على جدع شجرة الليمون مازالت لم تسقط ثمرتها المرة الصفراء بعد. منى لها عينان حارقتان لناشطة حقيقية تنام قليلا على أسرة أصدقائها, تغير مقر اقامتها باستمرار, التقينا في مقهى مساء اليوم الذي سبق مظاهرات النساء المقررة منذ مدة. الناشطة بدأت مع والدها الذي كان ينتمي إلى مجموعة شيوعية في سنوات 1970 وقعت موجة اعتقالات عندما كانت زوجته حاملا بمنى، هرب وخصص كل جهده لمنهة التدريس مع تعليم ابنته كارل ماركس ودوستويوفسكي. لم تلتق أفضل أصدقائها قبل خروج والدها من السجن عندما كانت مراهقة، تتذكر السحنة البيضاء لأصدقاء والدها, لم يروا الشمس تقريبا منذ 15 سنة، عندما التقتهم قال لها والدها «حافظ وضعهم في السجن». آنذاك بدأ يتشكل وعي منى. بعد الثورة في مصر عادت منى إلى بيت والديها, كان ذلك ذات صباح مثل كل صباح, عندما كنت أعيش في بيت والداي. كنت أناقش مع والدي لساعات حول فنجان شاي بالنعناع قال» »سيحدث هذا هنا, إنه يتسع, الآن جاء دورك«« منى تطلق زفرة عميقة وتنظر بقلق حولها «بدأت على الانترنيت عبر رسائل الكترونية وفيسبوك مثل المصريين, لدي عدة عناوين وعدة حسابات, ولكن هذا المجتمع مراقب بشكل لصيق، بدأت بسرعة أتلقى تهديدات، استدعيت من طرف مصالح الأمن، الآن أتلقى عدة مكالمات رجالية تقول لي »سنأتي قريبا لنأخذك، عندما أسأل من المتحدث يجيبون »تعرفين جيدا من المتكلم«. ترشف جرعة بيرة سورية وتنزعج من سؤالي. «كبرنا مع فكرة أنه لا يمكن فعل شيء لهذا المجتمع وتسأل، من نريد كقائد جديد, لا نعرف عن الأمر شيئاً حتى الآن. لم يظهر أي مرشح ما بين مارس وأبريل. ما أريد هو المشاركة مع المجتمع. لا أريد قائداً جديداً يحكمنا كما يفعل بشار.» تنزع شاحن هاتفها النقال الذي تضطر لشحنه ثلاث مرات في اليوم لكي يشتغل, رن الهاتف على الفور، ردت وبدأت ترتجف. جسدها النحيف اهتز، إحدى يديها تمسك بالهاتف والأخرى بشعرها. »متى؟ أين؟« رفعت نظرة صارمة. «»يجب أن أذهب، صديقي اعتقل, الشرطة السرية أخذته من منزله««. في اليوم الموالي، كان هناك نساء أكثر من العادة في أحد شوارع دمشق التجارية. يمشين في مجموعات من اثنين, عندما نعلم، نخمن بدون صعوبة من منهن في مهمة, نظراتهن حائرة، يقمن بحركات سريعة بالرأس, وينتعلن أحذية بدون كعب. كن مثل الرجال أمام المسجد, يتكلمن دون أن تعبر الوجوه عن أي شيء, مثنى، مثنى، ثلاثة ثم أربعة، ثم مجموعة صغيرة ثم مجموعة أكبر. وفجأة يفتحن حقائبهن اليدوية، ويشهرن اللافتات التي أعددنها, بعضها لافتات من الثوب وأخرى من ورق لكل امرأة شعار: «»أوقفوا المجازر«« «»أوقفوا العنف«« يتقدمن في صمت نحو الساحة التي يهيمن عليها تمثال من البرونز لحافظ الأسد. الناس وقفوا لا أحد يتكلم، يلاحظون مذهولين، الشابات تجاوزن ملتقى الطرق للوصول الى الساحة. مرت دقيقة، دقيقتان ربما ثلاث دقائق حوصرن, أسرع عشرات الرجال بالزي المدني من ثلاث حافلات صغيرة بيضاء، ظهروا من لا مكان, نزعوا منهن اللافتات، رموا بهن أرضاً وهم يصيحون »عاهرات «« بعضهن سقطن أرضاً, إحداهن رفضت التخلي عن لافتتها وأطلقت صيحة ألم عندما كسر أحد أصابعها. لكن أغلبهن هربن، اختفين في لحظة في الأزقة المجاورة. كل واحدة تدبر أمرها كما كان متفقاً. حافلة صغيرة بيضاء اصطحبت 4 شابات والحافلات الأخرى تبعتها. استعادت الساحة هدوءها، كما لو أن لاشيء وقع. لكن وقع شيء، شيء ما بدأ... عن »لوموند« بتصرف |