البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : منتخبات من كتاب الخصائص لابن جني    كن أول من يقيّم
 محمود العسكري 
26 - ديسمبر - 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
مُنتَخَبَاتٌ مِّن كِتَابِ ( الْخَصَائِصِ ) لابْنِ جِنِّي
-   كتاب ( الخصائص ) لابن جني - بالياء الخفيفة - غفر الله لنا وله ! ؛= كتابٌ جليل القدر ، رفيع السُّورة ، ذائع الصيت ، مهيب العلم ، بارع البلاغة .
-       طالعته ؛ فاستهترت مليًّا بعبارته الأنيقة الوشي ، الحبيرة الحلة ، المدمجة الحوك ، العتيقة الطراز .
-   فإن كثيرًا من كتب النحو والتصريف تتجافى عنها أذواق الأدباء ؛ لما فيها من كزازة العبارة ، ورداءة البيان ، وسماجة العرض ، وإن كانت أليقَ بالدرس لما فيها من الأقسام الْمُفَصَّلة والمسائل الْمُرَتَّبة .
-   وإن مما فيه مسرحٌ للفكر المتأمِّل ، والنظر المتروِّي ؛= هذه الأسرار المضمرة ، واللطائف الْمُسَتَّرة ، الْمُكْتَنَّة في أعماقِ اللُّغة العربِيَّة ، فهذه العِلَلُ والأقْيِسَة ، وهذه الشُّبَهُ والْحِجَاج ، وهذه الاعتراضات والتوجيهات ، وهذه البراهين والنقوض ، كُلُّ ذلك يُتَحاكم فيه إلى المنطق ، ويُصَار في تراجيحه إلى العقل ، بريئان من الهوى ، نزيهان عن العصبية ، يجمعان دعاوى السماع وطعون القياس على مِنَصَّة القضاء العادل .
-       هي أغوارٌ وأغوارٌ ، من سبرها فِقْهًا ودَرْسًا ؛= كانت صِقالاً لبصيرته ، ونورًا لقريحته ، ورُشْدًا لسليقته .
-       ذلك وأكثر ! ؛ لإنها اللغة التي لا تنسخها الشمس حين تغيب ، ولكنها تشرق معها جديدةً كُلَّ صباحٍ .   
-   فأحببت أن أنقل منتخباتٍ من ديباجاته القيِّمة البليغة ، ومجتنياتٍ من فصوله الدانية الثمار ، التي لم تَشْطَأْ بغصونها إلى المباحث المتينة الغامضة ، فتلك صُعُدٌ من العلم لا تتوَقَّلُ فيها الأراوى والأوعال ! .
 1  2 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
أمانة نقلة اللغة وتثبتهم    كن أول من يقيّم
 
باب في صدق النقلة، وثقة الرواة والحملة
هذا موضع من هذا الأمر، لا يعرف صحته إلا من تصور أحوال السلف فيه تصورهم، ورآهم من الوفور والجلالة بأعيانهم، واعتقد في هذا العلم الكريم ما يجب اعتقاده له، وعلم أنه لم يوفق لاختراعه، وابتداء قوانينه وأوضاعه، إلا البر عند الله سبحانه، الحظيظ بما نوه به، وأعلى شأنه. أو لا يعلم أن أمير المؤمنين عليا - رضى الله عنه - هو البادئه، والمنبه عليه، والمنشئه والمرشد إليه. ثم تحقق ابن عباس، رضى الله عنه به، واكتفال ابي الأسود - رحمه الله - إياه. هذا، بعد تنبيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه، وحضه على الأخذ بالحظ منه، ثم تتالى السلف - رحمهم الله - عليه، واقتفائهم - آخرا على أول - طريقه. ويكفى من بعد ما تعرف حاله، ويتشاهد به من عفة أبي عمرو بن العلاء ومن كان معه، ومجاورا زمانه. حدثنا بعض أصحابنا - يرفعه - قال: قال أبو عمرو بن العلاء - رحمه الله -: مازدت في شعر العرب إلا بيتا واحدا. يعنى مايرويه للأعشى من قوله:
وأنكرتنى وما كان الذى نكـرت
 
من الحوادث إلا الشيب والصلعا
أفلا ترى إلى هذا البدر الطالع الباهر، والبحر الزاخر، الذي هو أبو العلماء وكهفهم، وبدء الرواة وسيفهم، كيف تخلصه من تبعات هذا العلم وتحرجه، وتراجعه فيه إلى الله وتحوبه، حتى أنه لما زاد فيه - على سعته وانبثاقه، وتراميه وانتشاره - بيتا واحدا، وفقه الله للاعتراف به، وجعل ذلك عنوانا على توفيق ذويه وأهليه.
وهذا الأصمعى - وهو صناجة الرواة والنقلة، وإليه محط الأعباء والثقلة، ومنه تجنى الفقر والملح، وهو ريحانة كل مغتبق ومصطبح - كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره - وهو حدث - لأخذ قراءة نافع عنه. ومعلوم كم قدر ما حذف من اللغة، فلم يثبته، لأنه لم يقو عنده، إذ لم يسمعه. وقد ذكرنا في الباب الذي هذا يليه طرفا منه.
فأما إسفاف من لا علم له، وقول من لا مسكة به: إن الأصمعى كان يزيد في كلام العرب، ويفعل كذا، ويقول كذا، فكلام معفو عنه، غير معبوء به، ولا منقوم من مثله؛ حتى كأنه لم يتأد إليه توقفه عن تفسير القرآن وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحوبه من الكلام في الأنواء.
ويكفيك من ذا خشنة أبى زيد وأبى عبيدة. وهذا أبو حاتم بالأمس، وما كان عليه من الجد والانهماك، والعصمة والاستمساك.
وقال لنا أبو علي - رحمه الله - يكاد يعرف صدق أبى الحسن ضرورة. وذلك أنه كان مع الخليل في بلد واحد فلم يحك عنه حرفا واحدا.
هذا إلى ما يعرف عن عقل الكسائى وعفته، وظلفه ونزاهته؛ حتى إن الرشيد كان يجلسه ومحمد بن الحسن على كرسيين بحضرته، ويأمرهما ألا ينزعجا لنهضته.
وحكى أبو الفضل الرياشي قال: جئت أبا زيد لأقرأ عليه كتابه في النبات، فقال: لا تقرأه علي؛ فإني قد أنسيته.
وحسبنا من هذا حديث سيبويه، وقد حطب بكتابه - وهو ألف ورقة - علما مبتكرا، ووضعا متجاوزا لما يسمع ويرى، قلما تسند إليه حكاية، أو توصل به رواية، إلا الشاذ الفذ الذي لا حفل به ولا قدر. فلولا تحفظ من يليه، ولزومه طريق ما يعنيه، لكثرت الحكايات عنه، ونيطت أسبابها به، لكن أخلد كل إنسان منهم إلى عصمته، وأدرع جلباب ثقته، وحمى جانبه من صدقه وأمانته؛ ما أريد من صون هذا العلم الشريف له به.
فإن قلت: فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين، والمتحلين به في المصرين، كثيرا ما يهجن بعضهم بعضا، ولا يترك له في ذلك سماء ولا أرضا.
قيل له: هذا أول دليل على كرم هذا الأمر، ونزاهة هذا العلم؛ ألا ترى أنه إذا سبقت إلى أحدهم ظنة، أو توجهت نحوه شبهة، سب بها، وبرئ إلى الله منه لمكانها. ولعل أكثر من يرمى بسقطة في رواية، أو غمز في حكاية، محمى جانب الصدق فيها، برئ عند ذكره من تبعتها؛ لكن أخذت عليه، إما لاعتنان شبهة عرضت له أو لمن أخذ عنه، وإما لأن ثالبه ومتعيبه مقصر عن مغزاه، مغضوض الطرف دون مداه. وقد تعرض الشبه للفريقين وتعترض على كلتا الطريقتين. فلولا أن هذا العلم في نفوس أهله، والمتفيئين بظله، كريم الطرفين، جدد السمتين، لما تسابوا بالهجنة فيه، ولا تنابزوا بالألقاب في تحصين فروجه ونواحيه، ليطووا ثوبه على أعدل غروره ومطاويه.
نعم، وإذا كانت هذه المناقضات والمثقافات موجودة بين السلف القديم، ومن باء فيه بالمنصب والشرف العميم، ممن هم سرج الأنام، والمؤتم بهديهم في الحلال والحرام، ثم لم يكن ذلك قادحا فيما تنازعوا فيه، ولا غاضا منه، ولا عائدا بطرف من أطراف التبعة عليه، جاز مثل ذلك أيضا في علم العرب، الذي لا يخلص جميعه للدين خلوص الكلام والفقه له، ولا يكاد يعدم أهله الأنق به، والارتياح لمحاسنه. ولله أبو العباس أحمد بن يحيى، وتقدمه في نفوس أصحاب الحديث ثقةً وأمانة، وعصمة وحصانة. وهم عيار هذا الشان، وأساس هذا البنيان.
وهذا أبو علي رحمه الله، كأنه بعد معنا، ولم تبن به الحال عنا، كان من تحو به وتأنيه، وتحرجه كثير التوقف فيما يحكيه، دائم الاستظهار لإيراد ما يرويه. فكان تارة يقول: أنشدت لجرير فيما أحسب، وأخرى: قال لي أبو بكر فيما أظن، وأخرى: في غالب ظنى كذا، وأرى أني قد سمعت كذا.
هذا جزء من جملة، وغصن من دوحة، وقطرة من بحر، مما يقال في هذا الأمر. وإنما أنسنا بذكره، ووكلنا الحال فيه، إلى تحقيق ما يضاهيه.
*محمود العسكري
16 - يناير - 2011
الاحتجاج بقول المخالف . متى يكون إجماع أهل العربية حجة    كن أول من يقيّم
 
باب في الاحتجاج بقول المخالف
اعلم أن هذا - على ما في ظاهره - صحيح ومستقيم. وذلك أن ينبغ من أصحابه نابغ فينشيء خلافاً ما على أهل مذهبه، فإذا سمع خصمه به، وأجلب عليه قال: هذا لا يقول به أحد من الفريقين، فيخرجه مخرج التقبيح له، والتشنيع عليه.
وذلك كإنكار أبي العباس جواز تقديم خبر ليس عليها، فأحد ما يحتج به عليه أن يقال له: إجازة هذا مذهب سيبويه وأبي الحسن وكافة أصحابنا، والكوفيون أيضاً معنا. فإذا كانت إجازة ذلك مذهباً للكافة من البلدين وجب عليك - يا أبا العباس - أن تنفر عن خلافه، وتستوحش منه، ولا تأنس بأول خاطر يبدو لك فيه.
ولعمري إن هذا ليس بموضع قطع على الخصم، إلا أن فيه تشنيعاً عليه، وإهابة به إلى تركه، وإضافة لعذره في استمراره عليه، وتهالكه فيه، من غير إحكامه وإنعام الفحص عنه. وإنما لم يكن فيه قطع لأن للإنسان أن يرتجل من المذاهب ما يدعو إليه القياس، ما لم يلو بنص أو ينتهك حرمة شرع. فقس على ما ترى، فإنني إنما أضع من كل شيء مثالاً موجزاً.
باب القول على إجماع أهل العربية متى يكون حجة
اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص. والمقيس على النصوص، فأما إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجة عليه. وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة أنهم لا يجتمعون على الخطأ، كما جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: "أمتي لا تجتمع على ضلالة" وإنما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة.
فكل من فرق له عن علة صحيحة، وطريق نهجة كان خليل نفسه، وأبا عمرو فكره.
إلا أننا - مع هذا الذي رأيناه وسوغناه مرتكبة - لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي قد طال بحثها، وتقدم نظرها، وتتالت أواخر على أوائل، وأعجازاً على كلاكل، والقوم الذين لا نشك في أن الله - سبحانه وتقدست أسماؤه - قد هداهم لهذا العلم الكريم، وأراهم وجه الحكمة في الترجيب له والتعظيم، وجعله ببركاتهم، وعلى أيدي طاعاتهم، خادماً للكتاب المنزل، وكلام نبيه المرسل، وعوناً على فهمهما، ومعرفة ما أمر به، أو نهي عنه الثقلان منهما، إلا بعد أن يناهضه إتقاناً، ويثابته عرفاناً، ولا يخلد إلى سانح خاطره، ولا إلى نزوة من نزوات تفكره. فإذا هو حذا على هذا المثال، وباشر بإنعام تصفحه أحناء الحال، أمضى الرأي فيما يريه الله منه، غير معاز به، ولا غاض من السلف - رحمهم الله - في شيء منه. فإنه إذا فعل ذلك سدد رأيه. وشيع خاطره، وكان بالصواب مئنة، ومن التوفيق مظنة، وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: ما على الناس شيء أضر من قولهم: ما ترك الأول للآخر شيئاً. وقال أبو عثمان المازني: "وإذا قال العالم قولاً متقدماً فللمتعلم الاقتداء به والانتصار له، والاحتجاج لخلافه، إن وجد إلى ذلك سبيلاً" وقال الطائي الكبير:
يقول من تطرق أسماعه
 
كم ترك الأول للآخر !
فمما جاز خلاف الإجماع الواقع فيه منذ بديء هذا العلم وإلى آخر هذا الوقت، ما رأيته أنا في قولهم: هذا جحر ضب خرب. فهذا يتناوله آخر عن أول، وتال عن ماض على أنه غلط من العرب، لا يختلفون فيه ولا يتوقفون عنه، وأنه من الشاذ الذي لا يحمل عليه، ولا يجوز رد غيره إليه.
وأما أنا فعندي أن في القرآن مثل هذا الموضع نيفاً على ألف موضع. وذلك أنه على حذف المضاف لا غير. فإذا حملته على هذا الذي هو حشو الكلام من القرآن والشعر ساغ وسلس، وشاع وقبل. وتلخيص هذا أن أصله: هذا جحر ضب خربٍ جحره، فيجري "خرب" وصفاً على "ضب" وإن كان في الحقيقة للجحر. كما تقول مررت برجل قائم أبوه، فتجري "قائماً وصفاً على "رجل" وإن كان القيام للأب لا للرجل، لما ضمن من ذكره. والأمر في هذا أظهر من أن يؤتى بمثال له أو شاهد عليه. فلما كان أصله كذلك حذف الجحر المضاف إلى الهاء، وأقيمت الهاء مقامه فارتفعت، لأن المضاف المحذوف كان مرفوعاً، فلما ارتفعت استتر الضمير المرفوع في نفس "خرب" فجرى وصفاً على ضب - وإن كان الخراب للجحر لا للضب - على تقدير حذف المضاف، على ما أرينا. وقلت آية تخلو من حذف المضاف، نعم، وربما كان في الآية الواحدة من ذلك عدة مواضع.
*محمود العسكري
19 - يناير - 2011
 1  2