حتى هذا اليوم لم يتمكن أحد من تحديد خريطة هذا الدير الضخم والتي كانت المدرسة العمرية على عظمها والجامع العتيق (ولا أدري ما هو) معلمين من عماراته الفخمة. وأتمنى ممن يجد أي معلومة تضيء هذه الظلمة أن يتكرم بها علينا وينشرها في هذا الملف، فقد بحثت في الكثير من المواقع المهتمة بالمدرسة العمرية فلم أتوصل إلى ما يزيل الغموض عن مصير دير الحنابلة. والذي يعرف أيضا بالدير المبارك. فإذا كان (الجامع العتيق) هو نفسه جامع الحنابلة اليوم كما يفهم من كلام يوسف ابن عبد الهادي، فإن دير الحنابلة سيكون مستوعبا نصف الصالحية وإذا كان كما يقول المرحوم محمد كرد علي في كتابه (غوطة دمشق) من أنه غربي المدرسة العمرية ترتب على ذلك أن يكون جامع الشيخ محيي الدين ابن عربي قد بني على أنقاض دير الحنابلة وأن تكون الحرب الطاحنة التي جاءت بالتتار إلى دمشق كان في مقدمة أهدافها قلعة دمشق ودير الحنابلة، فأما (قلعة دمشق) فلم يتمكنوا من فتحها بالرغم من المجانيق التي نصبوها على الجامع الأموي وإضرام النار بكل الأحياء التي تحيط بالقلعة، وأما (دير الحنابلة) فنترك ابن كثير يخبرنا بوحشية التتار ذلك اليوم قال: وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر (699هـ):، خطب لقازان على منبر دمشق بحضور المغول بالمقصورة، ودعي له على السدة بعد الصلاة وقرئ عليها مرسوم بنيابة قبجق على الشام، وذهب إليه الأعيان فهنؤه بذلك، فأظهر الكرامة وأنه في تعب عظيم مع التتر. ونزل شيخ المشايخ محمود بن علي الشيباني بالمدرسة العادلية الكبيرة. وفي يوم السبت النصف من ربيع الآخر شرعت التتار وصاحب سيس في نهب الصالحية ومسجد الأسدية ومسجد خاتون ودار الحديث الأشرفية بها، واحترق جامع التوبة بالعقيبية، وكان هذا من جهة الكرج والأرمن من النصارى الذين هم مع التتار قبحهم الله. وسبوا من أهلها خلقاً كثيراً وجماً غفيراً، وجاء أكثر الناس إلى رباط الحنابلة فاحتاطت به التتار فحماه منهم شيخ الشيوخ المذكور، وأعطى في الساكن مال له صورة ثم اقتحموا عليه فسبوا منه خلقاً كثيراً من بنات المشايخ وأولادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولما نكب دير الحنابلة في ثاني جمادى الأولى قتلوا خلقاً من الرجال وأسروا من النساء كثيراً، ونال قاضي القضاة تقي الدين أذى كثير، ويقال إنهم قتلوا من أهل الصالحية قريباً من أربعمائة، وأسروا نحواً من أربعة آلاف أسير. ونهبت كتب كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري، وكانت تباع وهي مكتوب عليها الوقفية، وفعلوا بالمزة مثل ما فعلوا بالصالحية. وكذلك بداريا وبغيرها، وتحصن الناس منهم في الجامع بداريا ففتحوه قسراً وقتلوا منهم خلقاً وسبوا نساءهم وأولادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون). إلى آخر ما حكاه من أخبار التتر الدامية في دمشق وقال العيني في (عقد الجمان) حوادث سنة (699) وفي الجمعة الأولى من الشهر: نهب دير الحنابلة مرة ثانية، وسبيت من كان فيه من النساء والأولاد، ومن جملة ما أخذوا: مائة وعشرون بنتاً، وأسروا القاضي تقي الدين الحنبلي وعملوا في رقبته حبلاً يجرونه به، ثم تركوه. وبعد سقوط دمشق في يد السلطان سليم لم يتغير شيء بالنسبة للحنابلة، وفي عام (1250هـ) تمكن جماعة من نجد (ربما بتدبير بني قدامة) أن يتسللوا إلى المكتبة العمرية وينقلوا حمولة خمسة جمال من كتبها إلى نجد، فلا يعرف أحد مصيرها قال عبد القادر بدران في (منادمة الأطلال) المدرسة (العمرية الشيخية) هي موجودة بالصالحية، مشهورة معمورة الجدران، لا ظل للعلم فيها ولا أثر، يسكنها قوم من ذوي المتربة، ويمر بها نهر يزيد، وداخلا مدرسة لطيفة، وبهما ما يقرب من تسعين خلوة. وقد كان بها خزانة كتب لا نظير لها، فلعبت بها أيدي المختلسين، حتى أن بعض الطلبة النجديين سرق منها خمسة أحمال جمل من الكتب وفر بها: ثم نقل ما بقي وهو شيء لا يذكر بالنسبة لما كان بها، إلى خزانة الكتب في قبة الملك الظاهر في مدرسته. وكذلك لعبت أيدي المختلسين في أوقافها فابتلعوها. هذه حالتها اليوم. وأما حالتها في أبان صباها وشبابها، فقال عز الدين: هي بالجبل في وسط دير الحنابلة. وقال ابن كثير: وقف عليها سيف الدين بكتمر درسا. وقل ابن الزملكاني: إن أحمد بن زريق المعروف بابن الديوان وسع مدرسة أبي عمر من الجهة الشرقية، ويمكن أن تكون هي المدرسة الصغيرة داخلها. انتهى. وعمر ناصر الدين محمد بن منجك الجانب الشرقي من المدرسة فجاء في غاية الحسن. قال الشيخ جمال الدين بن عبد الهادي: هذه المدرسة عظيمة لم يكن في بلاد الإسلام أعظم منها. والشيخ أبو عمر بنى بها المسجد، وعشر خلاوي فقط. وقد زاد الناس فيها، ولم يزالوا يوقفون عليها من زمنها إلى اليوم، قل سنة من السنين تمضي إلا ويصير إليها فيها وقف، فوقفها لا يمكن حصره، فمن جملته: العشر من البقاع، والمرتب على داريا من القمح ستين غرارة، ومن الدراهم خمسة آلاف للغنم في شهر رمضان، ومما رأيناه وسمعنا به من مصالحها: الخبز، لكل واحد من المنزلين بها رغيفان، والشيخ الذي يقرئ أو يدرس ثلاثة وهو مستمر طول السنة؛ والقمصان في كل سنة لكل منزل فيها قميص، وقد رأيناه؛ والسراويل لكل واحد سروال ، سمعنا به ولم نره؛ وطعام شهر رمضان بلحم، وكان الشيخ عبد الرحمن ينوع لهم ذلك، ويوم الجمعة العدس، ثم انقطع التنوع؛ واستمرت القمحية وزبيب وقضامة ليلة الجمعة، يفرق عليهم بعد قراءة ما تيسر، رأيناه، ووقفه دكانان، تحت القلعة؛ وكل سنة مرة زبيب، وقفها خارج عن وقف المدرسة؛ وفراء وبشوت في كل سنة، ووقفها خارج عنها أيضا؛ ودراهم، لها وقف، تفرق على من يقرأ في السبع في كل شهر، وهو خارج عن وقفها أيضا؛ وحلاوة دهنية من وقفها، سمعنا به ولم نره؛ وحصر لبيوت المجاورين، مستمرة؛ وصابون، سمعنا به ولم نره؛ وختان من لم يكن مختونا، في كل سنة من المجاورين بها الفقراء والأيتام، رأيناه ثم انقطع؛ وسخانة يسخن بها الماء في الشتاء لغسل من احتلم، وكعك، سمعنا به ولم نره؛ ومشبك بعسل في ليلة العشرين من شهر رمضان، ثم نقلت إلى النصف، مستمرة؛ وقنديل يشعل طول الليل في المقصورة طلمدرس، مستمر؛ وحلاوة في الموسم في شهر رجب لوزية وجوزية وغيرهما، مستمرة في نصف شعبان؛ وأضحية في عيد الأضحى، مستمرة؛ وطعام في عيد الفطر حامض ولحم وهريسة وأرز حلو، مستمر إلى الآن. انتهى. وكان بها حلقة الثلاثاء، والوقف عليها نصف حمام الشبلية ثم خرب فعمر بالنصف فبقي الربع، والجنينة خلفه، والبيت فوقه. وفي تاريخ الأسدي: أن ابن حجي استجد لخطاب العجلوني الشافعي درسا بالعمرية، وجعل له في الشهر مائة وخمسين درهما، فتوقف الناظر في ذلك، ثم اتفق الحال على أن قرر له في الشهر سبعين درهما، فشق ذلك على الحنابلة. قال يوسف بن عبد الهادي: وفي مدرسة أبي عمر وقف على الحنابلة لم يدخل فيه غيرهم قط؛ وأخبرت أنه في أيام القاضي ابن قاضي الجبل أراد غيرهم الدخول، فقال: لا والله لا تنزلوا فيها أحدا إلا أنزلنا في الشامية الكبرى مثله! فلما كان في أيام عبد الرحمن بن داود، ووقع بينه وبين الحنابلة، أدخل فيها غيرهم من المذاهب؛ فشق ذلك على الحنابلة، وأما أنا فرأيته حسنا؛ فإن فضل الشيخ كان على الحنابلة فقط. فصار على الأربعة مذاهب. وكان شهاب الدين بن عبد الرزاق قصد إخراج غيرهم منها، وأرسل إلى مصر ليخرج مراسيم بذلك؛ فأدركته المنية. ودرس للشافعية بها: الشيخ خطاب، ثم ابن قاضي عجلون، ثم أخوه تقي الدين، وللحنفية: عيسى البغدادي، ثم الزين ابن العيني في الإيوان الشمالي؛ وجدد القاضي المالكي درسا بها ثم انقطع انتهى. وأما شيوخ إقراء القرآن بها، فكان داخلها سبعة أماكن معدة لذلك: أحدها على الخزانة الغربية استجده ابن مبارك واقف الحاجبية، والآخر على الشرقية، وآخر بينهما، وشيخ المدرسة في المحراب، وآخر شرقية، واثنا، غربية، وحلقة ابن الحبال لإقراء القرآن والعلم بين بابي المدرسة والسلم الشرقيين. قلت: وجميع هذه المرتبات درست وانقرضت وماتت بموت أهلها. وكان يقال: لم يكن شيء من أنواع البر إلا وهو موضوع في العمرية. ثم لم تزل الأيام تأتي على أوقافها ومرتباتها بالنقصان إلى أن تولى نظرها الشهاب أحمد المنيني، ثم صارت في زمننا إلى توفيق المنيني من ذريته، فابتلع الوشل الذي بقي من أوقافها، وأهلكها هلاكا لا يرجى له برء.
|