البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التاريخ

 موضوع النقاش : في تاريخنا عبرة لأولي الأبصار    قيّم
التقييم :
( من قبل 4 أعضاء )

رأي الوراق :

 ياسين الشيخ سليمان 
17 - نوفمبر - 2010
في تاريخنا عبرة لأولي الأبصار
في هذا الملف أحاول استخلاص بعض العبر من تاريخنا السياسي وما حفل به من أحداث. أما المصادر والمراجع التي اعتمدتها فسوف أذكرها في الآخر:
أبو مسلم الخراساني، الذي كان وفيا لبني العباس أيما وفاء، وكان داعية إليهم، والذي قام بتوطيد أركان الخلافة العباسية في خراسان وغيرها ؛ مرتكبا الكثير من الجرائم في سبيل ذلك، انتهى أمره إلى القتل على أيدي من كان وفيا لهم.
إن في قصة مقتل أبي مسلم وفي قصص الكثير من القادة ؛ من خلفاء ، وأمراء، ووزراء، والعديد من العلماء... مما ورد ذكره في كتب التراث العربي الإسلامي ، ومما حفل به التاريخ الحديث أيضا من أحداث، لعبرة نستخلص منها أن منهج القادة السياسي لا يقوم على الأخلاق الكريمة ورعاية الذمم، وإنما يقوم على المصالح والشهوات والمنافع الدنيوية، وعلى رأسها شهوة الحكم والسيطرة.
لقد كان أحرى بالسياسة وأصحابها أن يكون فيهم وفيها للدين وما يحث عليه من خلق قويم النصيب الأكبر؛ ولكن الواقع التاريخي؛ ماضيا وحاضرا، ينبئنا أن السياسة لم تكن في يوم من الأيام كذلك، خلا سياسة الأنبياء والرسل والثلة التي سارت على نهجهم.
 لقد تسلط المستبدون برأيهم على الشعوب باسم الدين، فأوّلوا أحكامه وفقا لمصالحهم ولما تمليه عليهم أهواؤهم ونزواتهم، وكأن الدين ارتضاه الله لنصرة الظلمة المستبدين ، ولم يرتضه لنصرة المستضعفين المقهورين!
وكأني بأبي مسلم، وقد ساهم في إنشاء الدولة العباسية مساهمة فعالة، قد ظن أن مساهمته تلك تنفعه عند أبي جعفر المنصور، فتحميه من القتل؛ ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك تماما. فبعيد وفاة السفاح زادت أحوال أبي مسلم مع المنصور سوءاً، وآلت إلى نهاية مفجعة.
لقد ذكرت كتب التراث إن أبا مسلم لم يكن يعبأ بالمنصور في حياة السفاح ولم يكن يطيع له أمرا ، وكان ينافسه أحيانا في بعض الأمور، وإن أبا مسلم ادعى النسبة لبني العباس، وانه تجرأ على أن يخطب عمة المنصور لنفسه؛ ولكن هذا كله ربما لم يكن سببا رئيسيا ووحيدا، وإن كان مهما، لنقمة المنصور عليه..
كان أبو جعفر المنصور يخشى على دولة بني العباس الفتية من أن ينقض قواعدها أبو مسلم، الذي ذاع صيته واشتهر أيام أبي العباس السفاح حتى قصده الناس من كل صوب، ودانت له خراسان بعد أن فتك بالأمويين ولم يدع فيها لسانا ينطق بالعربية ، وتشبه بالملوك، وهابه القادة الكبار .
كان أبو مسلم يشعر بخشية المنصور منه ؛ ولكنه مع ذلك لم يتمكن من مخالفة أمر المنصور بالقدوم إليه ليتخلص المنصور منه وبالتالي من نفوذه . لقد وفد الخراساني على المنصور لما أرسل إليه بالرغم من النصائح التي أسداها إليه صحبه ومن تحت إمرته بأن لا يلتقي المنصور، فالمنصور قاتله لا محالة.  
لم يستطع الخراساني الاستجابة لتلك النصائح. فالعباسيون عشيرة حكمت الناس مستندة إلى قرابتها للنبي صلوات الله عليه، وليس من السهل أبدا على أبي مسلم الخراساني أو غيره الإطاحة ببني العباس أو حتى مخالفة أوامرهم إلا أن يدعو إلى طاعة غيرهم من أقرباء النبي وحفدته من العلويين ، وهذا ما يمكن أن يكون المنصور الفقيه الداهية قد حسب له كل حساب، واهتم منه كل اهتمام ، بل لحقه منه غم عظيم لم يزل عنه إلا بزوال أبي مسلم من الوجود.
 فالدعوة إلى العلويين تهمة لحقت بأبي سلمة الخلال، منافس أبي مسلم، والذي كان من أهم دعاة العباسيين ثم وزيرا للسفاح، وقد تنكر له السفاح لما بلغه عنه ذلك .. قُتل الخلال غيلة، ويقال إن أبا مسلم الخراساني دبر مقتله، وإن السفاح لما علم بقتله أنشد:
إلى النار فليذهب ومن كان مثله على أي شيء فاتنا منه iiنأسف!
إن سبب مقتل أبي سلمة الخلال يعد مؤشرا واضحا على خشية المنصور من انتقال الخلافة من بني العباس(ر) إلى بني علي بن أبي طالب(ر).
البقية تأتي..
 1  2  3 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
التعصب للرأي ضرره جسيم كالنفاق    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

رأي الوراق :
 
وهناك بالإضافة إلى داء النفاق وأضراره، الضرر الجسيم الذي يلحق بالمتعصب إن أصر على اتباع ما نشأ عليه من فهم للدين والتاريخ فهما متوارثا وتقليديا، والذي يأبى أن يُعمل فكره في ما يقرأ أو يرى أو يسمع. هذا المتعصب إن كان يظن أن ما لقنه إياه غيره من فهم أن مخالفتة فيها عداء للدين وخروج عليه، فهو مخطيء تماما. فقواعد الدين وأصوله معروفة محفوظة في كتاب الله وسنة نبيه الصحيحة، يؤمن بها ويتعبد الله تعالى بها، فلا يُخشى عليه من إعمال فكره في أقوال السابقين واللاحقين من المجتهدين، ليتبين فيها ما ترتاح إليه نفسه، وما يقوي فيه إيمانه.
 والإيمان خصيصة فكرية ووجدانية معا. فهو هدى من الله للذي يعلم الله في قلبه خيرا، فيعينه ويرشده إلى الصواب، أو على العكس من ذلك: إن الله لا يعينه ولا يوفقه إلى خير إن كان وجدانه لا يُقبل على الله الحق، ولو كان مفكرا وعالما جهبذا. وكم من عالم أضله الله  على علم!
والنفاق لم تسلم منه الشعوب المعاصرة الديمقراطية المذهب؛ ولكنه انحصر أكثر ما انحصر في أمر واحد، وهو النفاق لحزب الصهيونية العالمية. فقد جعلت دول الغرب من قوانينها عونا على معاقبة كل من ينتقد الصهيونية لغير صالحها؛ ولذا، رأينا كل من نقد (الهولوكوست) من الأجانب بتشكيكه في حقيقة مقدار ما جرى لليهود من سطوة النازية قد مثل أمام محاكم تلك الدول الديمقراطية لينال جزاءه على ما اقترفت أفكاره من مخالفة الدساتير والقوانين الغربية، التي تعمل لصالح الصهيونية . أما الظلم الذي ألحقته الصهيونية بالفلسطينيين خصوصا، وبالعرب وبكثير من الدول عموما، فلا خصيم له إلا الله. وقد ساهم العرب أنفسهم في نصرة الصهيونية دون قصد مسبق. فالدعاية لصالح الصهيونية ضد العرب والمسلمين قوية ومنتشرة بين شعوب الغرب، بينما دعاية العرب لصالح أنفسهم لدى الغربيين لم تكن بالمستوى المطلوب، من حيث الاهتمام بإقناع تلك الشعوب بحق العرب والمسلمين. إن تهاون العرب والمسلمين في أمر الدعاية تقصير منهم تجاه أنفسهم واضح كل الوضوح. ويضاف إلى هذا ما هو أهم؛ فالمسلم الذي يفد على بلاد الغرب يجب أن يكون قدوة صالحة تمثل أخلاق العرب الحسنة، والتي حث عليها القرآن الكريم وكل الكتب السماوية، فكيف إذا لمس الغربيون من المسلمين الوافدين عليهم عكس ذلك تماما؟!
لقد تحدثنا عن حوادث تاريخية انتهى زمانها ولكن آثارها ما زالت ماثلة للعيان. ونحن ربما لو خلقنا الأعذار لأجدادنا بأن بيئتهم الاجتماعية والسياسية كانت تتطلب منهم أن يفعلوا ما فعلوا، وبأن كتاب الله أبان لهم الحق في أمر الدين والدنيا ولكنهم لم يتمكنوا من اتباعه تماما مثل أول الإسلام، فهم غلبت عليهم العادات والتقاليد واستقرت فيهم، وتناوشهم التفاخر بالأنساب، وأن السياسة بمفهومهم العملي لها لا بد وأن تدع أمور الفطرة السوية جانبا لتستقيم أمور الدول وتستديم سيطرتها، لما أمكننا خلق نفس الأعذار لأنفسنا في هذا العصر، الذي تخلص فيه الناس من الرق والعبودية، وسعوا إلى تشكيل نظم سياسية تتلاءم مع زمانها، هذا، ولا ننسى أن الله تعالى هدانا إلى منهج الشورى وأمرنا بالتزامها.
يتبع..
*ياسين الشيخ سليمان
2 - ديسمبر - 2010
ألا إن نصر الله قريب    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

رأي الوراق :
 
- أتفق تمامًا مع ما ذكره الأستاذ ياسين ؛= من أن لزوم الجماعة لا يعني أبدًا الرضا بالسلبية وبقاء الوضع على ما هو عليه ، وأن يكون الإنسان مسكونًا بهاجس المستقبل الأفضل = هذه ظاهرةٌ صِحِّيَّةٌ للغاية ، ونقيضها هي حالةٌ مرضيَّةٌ لا بد أن يتعافى منها كُلُّ سويٍّ ، ولا شك أن إقرار مبدأ الشورى وتطبيقه خطوةٌ هامَّةٌ ، بل هي السبيل الوحيد .
- بحسب ما قرأت في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛= هناك أربع صُوَرٍ يختلف حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باختلافها : أ) أن يتيقَّن المنكِر مِنْ أَنَّ المنكَر سيتغيَّر ويزول بإنكاره . ب) أن المنكَر سيقِلُّ ويضعف وإلم يتغيَّر بالكُلِّيَّة . [هاتان الصورتان يكون الإنكار فيها واجبًا] . ج) أن المنكَر سيزداد ويتفاحش بالإنكار . [وهذه الصورة الإنكار فيها مُحَرَّمٌ] . د) أن الإنكار لن تكون له مضرَّة ، وليس من المجزوم به أَنْ تترتبَ عليه منفعةٌ . [وهذه الصورة مَحَلُّ اجتهادٍ بحسب تقدير الشخص للأمر الواقع] .
- وعلى ضَوْء هذه الفكرة : أمامي أنا مثلاً كواحدٍ من الناس يودُّ أن يشارك في الحياة العامة مشاركةً نافعةً ولو كانت متواضعةً من خلال ظاهرةٍ ما ؛= حالتان / أ) أن أطمئِنَّ إلى أنَّ هذه المشاركة سيحصل بها نفعٌ ولو كان ضئيلاً ، وهنا يدفعني الواجب إلى أن أشارك . ب) أن أعلم أن هذه المشاركة لن يحصل بها أيُّ فائدةٍ فضلاً عن احتمال الأضرار والمخاطر ، وهنا يدفعني الواجب أيضًا إلى عدم المشاركة .
- وفي بلدنا فلسطين مثلاً : نأمل أن ينقشع هذا الكابوس الجاثوم من الاحتلال في طرفة عينٍ ، ولكننا نتألم كثيرًا عندما تراق قطرة دمٍ واحدةٍ ، ونحن حالاً قد لا نستطيع المشاركة ، وكما في الأثر : (( لأن تنقض الكعبة حجرًا حجرًا أهون على الله من يراق دم امرئ مسلم )) .
- والمصادمة بين الخير والشر لا بُدَّ من حصولها مهما يكن من الآلام ، قال تعالى : (( إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون )) سورة النساء ، لكن مع حسن التقدير للأمور ، (( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) سورة يوسف ، (( لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون )) سورة الأنعام ، ونحن نعلم أن نبأنا مستقره الفوز والظفر عندما نفرح بنصر الله .
*محمود العسكري
2 - ديسمبر - 2010
رسالة الشدياق إلى بطاركة المارونية في لبنان    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 
 
هذه رسالة (صقر لبنان) أحمد فارس الشدياق (1805 - 1887م) إلى بطاركة المارونية في لبنان، يقرعهم فيها على ما فعلوه بأخيه أسعد الشدياق بسبب اعتناقه مذهب البروتستانت على يد المبشر الأمريكي إسحاق بيرد وكان فارس قد اعتنق المذهب نفسه على يد أخيه فثارت ثائرة العائلة وكاد أخواه منصور وغالب أن يبطشا به، ورفعا أمره إلى البطرك يوسف حبيش الذي أمر بسجنه في دير الوزيرية بقنوبين قال المعلم بطرس البستاني في كتابه الذي ألفه في سيرة أسعد وسماه (باكورة سوريا) ونشره سنة 1860: ما ملخصه: (وحكم عليه بالضرب بالعصي حتى الإغماء يوماً كل ثمانية أيام..وجعلوه في سجن الدير وربطوا عنقه بحبل، وجعلوا طرف الحبل مدلى من النافذة، فكلما مر به شخص جذبه بيده...
وخشي إسحاق على فارس فعمل على تهريبه إلى جماعة البروتستانت في مالطة وفي يوم 2/1/ 1826 استقل سفينة حملته إلى الإسكندرية حيث كان من ينتظره هناك ليذهب به إلى مالطة وبقي أخوه في السجن ست سنوات خرج منه ميتا وهو في الثانية والثلاثين من عمره، فكان لتلك الحادثة أكبر الأثر في إعتناق فارس الإسلام وهذه قصة مشهورة ومنشورة في كثير من المواقع فلا أكررها هنا
وهذا نص الرسالة وهي مدرجة في كتاب (الساق على الساق):
 
قد تفلت الفارياق من ناديكم. وانملص من بين أياديكم. وعنجر في وجوهكم جميعاً وأصبح لا يخاف لكم وعيداً وبقي الآن أن أذكركم ما أشططتم به من الظلم والطغيان والجور والعدوان على أخي المرحوم أسعد. إذ أودعتموه السجن في داركم الوزيرية بقنوبين نحو ست سنين. وبعد أن أذقتموه جميع ضروب الذل والهوان والبؤس والضنك في صومعة صغيرة لزمها فلم يكن يخرج منها إلى موضع يبصر فيه النور أو يستنشق الهواء اللذين يمن بهما الخالق على الأبرار والفجار من عباده قضى نحبه وما كان سجنكم له إلا لمخالفته لكم في أشياء لا تقتضي عذاباً ولا عتاباً. وما كان لكم عليه من سلطان ديني ولا مدني. أما الدين فإن المسيح ورسله لم يأمروا بسجن من كان يخالف كلامهم وإنما كانوا يعتزلونهم فقط. ولو كان دين النصارى نشأ على هذه القساوة الوحشية التي اتصفتم بها
الآن أنتم رعاة التائهين وهداة الضالين لما آمن به أحد، إذ لا أحد من الناس يصبو إلا إذا كان يرى الدين الذي خرج إليه خيراً من الذي خرج منه. وكل إنسان في الدنيا يعلم أن
السجن والتجويع والإذلال والتوعد والتأويق والتشنيع ليس من الخير في شيء. وناهيك أن المسيح ورسله أقرَّوا ذوي السيادة على سيادتهم وأمرتهم. ولم يكن دأبهم إلا الحضَّ على
مكارم الأخلاق والأمر بالبر والدعة والسلم والأناة والحلم. فأنها هي المراد من كل دين عرف بين الناس. وأما المدني فلان أخي أسعد لم يأت منكراً ولا ارتكب خيانة في حق
جاره أو أميره أو في حق الدولة. ولو فعل ذلك لوجب محاكمته لدى حاكم شرعي.
فإساءة البطرك إليه إنما هي إساءة إلى ذات مولانا السلطان. لأننا جميعاً عبيد له مستأمنون في أمانه وحكمه. وكلنا في الحقوق سواء إذ البطرك ليس له حق في أن يخطف
من بيتي درهماً واحداً لو شاءه فإني له أن يخطف الأرواح وهب أن أخي جادل في الدين وناظر وقال أنكم على ضلال فليس لكم أن تميتموه بسبب هذا. وإنما كان يجب عليكم
أن تنقضوا أدلته وتدحضوا حجته بالكلام أو الكتابة إذا أنزلتموه منزلة عالم تخشون تبعته. وإلا فكان الأولى لكم أن تنفوه من البلاد كما كان هو يطلب ذلك . بل أصررتم على
عتوكم في تنكيله وزعمتم أن فراره من داركم مرة لنجاة نفسه كان زيادة في جناية وجريرته فزتم تجبراً عليه وظلماً. وكأني بكم معاشر السفهاء تقولون أن إهلاك نفس واحدة لسلامة
نفوس كثيرة محمدة يندب إليها. ولكن لو كان لكم بصيرة ورشد لعلمتم أن الاضطهاد والإجبار على شيء لا يزيد المضطهد وشيعته إلا كلفاً بما اضطهد عليه. ولاسيما إذا
علم نفسه أنه على الحق وأن خصمه القاهر له على ضلال. أو أنه متحل بالعلم والفضائل وقرينه عطل عنها فقد فاتكم على هذا العلم الديني والسياسي. وعرضتم عرضكم للقذف والتسويد. وذكركم للمقت والتنفيذ. ما دامت السماء والأرض أرضاً. وإن أخي رحمه الله وأن يكن قد مات فذكره لن يموت. وكلما ذكره ذاكر من أهل الرشد والبصيرة ذكر معه أيضاً سوء فعلكم وإفحاشكم وغلو جهلكم وشناعتكم وقد لعمري أخرج عنكم بموته من شيعتكم هذه المتوحمة على سفك الدم أكثر مما لو بقي حياً. وحسبك بالخواجه ميخائيل ميشاقه الأكرم وبغيره من ذوي الفضل والبراعة مثالاً. ألم تأخذكم يا
غلاط الأعناق رأفة في شبابه وجماله. ألم تتأثر قلوبكم التارزة لصفرة وجهه حين حجبتموه عن النور والهواء. وحين ذوت غضاضة جسمه وبضاضته. وحين لم يبق ترارته غير الجلد والعظم وبخلتم عليه أيضاً أن تطلقوه بهما. ألم تشفقوا عليه إذ رأيتم أنامله قد ضنيت لعوز ما كان يتمتع به حمر ديركم ولقد طالما والله أخذت القلم فخطت ما يعجب به الملوك.
ولقد طالما واللًه صعد المنبر فخطب فيكم ارتجالا والعرق يتصبب من جبينه ذاك الصليت. ولا شد ما ابكي سامعيه تذكيرا وتزهيداً. وطالما ألف وعرب لكم كتبا ركيكة وعلم حمقى رهبانكم وأخرجهم من ظلمات الجهل. ألم يغز وجوهكم
الصفيقة ما كان يترقرق في وجهه من ماء الحياة فكان أشد خفراً من مخدرة. وإنه كان عزيزا في أهله مكرما عند الأمراء محبباً إلى الخاصة والعامة. نزيه النفس . كريم الخلق
فصيح اللهجة. أنيس المحضة أمثله يحبس ست سنين ويذل وينكل ويموت والله يعلم بأي شيء مات.
 
ما بال الكنائس الفرنسوية والنمساوية والإنكليزية والمسكوبية والرومية الأرثوذكسية والرومية الملكية والقبطية واليعقوبية والنصطوية والدرزية والمتوالية والنصيرية واليهودية لا تفعل هذه الفظاعة والشناعة التي تفعلها الكنيسة الماورنية. أم هي وحدها على الحق والناس أجمعون على الباطل .
 
ألستم تزعمون أن ملك فرنسا هو مجير الدين وناصره. والناس من أهل مملكته الكاثوليكيين ما زالوا يطبعون كتبا ينددون فيها بعيوب رؤساء كنيستهم وقبائحهم وسفاهتهم وفحشهم وشراهتهم وإلحادهم . بل إن كثيرا منهم قد ألفوا تواريخ خاصة بما كان عليه الباباوات من الفسق والفجور وسوء التصرف. وبكفرهم بخلود النفس والوحي وبإلهية
المسيح.
فمنهم من قال إن البابا ارمديوس الثامن ويعرف بدوق صفوي رقي إلى درجة بابا وهو عامي.
 
ومنهم من قال إن مجمع ياسيل إنما كان انعقاده لخلع البابا يوجين وإنهم حكموا عليه بالعصيان والارتشاء والشقاق والبدع ونكث اليمين.
 
ومنهم من قال أن البابا نيقولاس الأول كان قد حرم كنتيار مطران كولون لمخالفته له في المجمع الذي عقد في متز
سنة 864. فكتب المطران المذكور رسائل إلى جميع كنائسه يقول فيها. إن المولى نيقولاس الذي اتخذ له لقب بابا ويحسب نفسه أنه بابا وسلطان معاً وإن يكن قد حرمنا فقد علونا على سفاهته.
 
ومنهم من قال إن أمبروسيوس حاكم ميلان حصل على درجة مطران مع أنه كان غير صحيح الاعتقاد بدين النصارى.
 
ومنهم من قال إن البابا يوحنا الثامن أرسل نواباً من طرفه إلى القسطنطينية. فعقدوا ثم مجمعا اجتمع فيه أربعمائة أسقف وكلهم حكموا ببراءة فوتيوس وأنه جدير برتبة مطران.
 
ومنهم من قال إن البابا اسطفانوس السادس أمر بأن تنبش جثة فرموسيوس أسقف بورطو من القبر لأنه كان قد أثار شغبا
على سلفة البابا يوحنا الثامن ثم حكم عليه حالة كونه ميتا يقطع رأسه وثلاث من أصابعه وألقيت جثته في طيبر.
 
وأن البابا سرجيوس كان قد استوزر ثاودورة أم ماروزيا التي
تزوجت بمركيز طوكساني. وأنه أي البابا (*) ماروزيا هذه ولداً رباه عنده داخل قصره من دون محاشاة أحد من أهل رومية. ثم تزوجت ماروزيا بعد ذلك بهون ملك أولس وعملت على قتل البابا يوحنا العاشر لانه كان يهوى أختها. فخنقته بين فراشين واستبدت بالأمر. ثم احتالت أن ولت ليو هذه الرتبة ثم قتلته في السجن بعد أشهر . ثم ولت من بعده رجلا خامل الذكر فولي بعض سنين ثم عزلته ونصبت يوحنا الحادي عشر وهو ابنها من سرجيوس الثالث وكان قد أتي عليه أربع وعشرون سنة لا غير. وشرطت عليه أن لا يباشر من الأحكام إلا ما كان مختصا برتبة الباباوية. وإنها سمت زوجها ثم تزوجت بسلفها ملك لومباري وفوضت إليه الحكم . فقام أحد ولدها من زوجها الأول وشغب عليها أهل رومية وحبسها وابنها البابا في أنجلو. وإنه ولي بعده اسطفانوس الثامن. غير
إنه لما كان بغيضا عند الرومانيين لكونه من جرمانية شوهوا وجهه فلم يقدر بعدها على الظهور بين الناس. ثم انتخب ابن ولد ماروزيا المسمى اكطافيانوس وله من العمر ثماني عشرة سنة وسمي من بعد ذلك يوحنا الثاني عشر. وكان خليعا ماجنا فحاشا مستهترا منهمكا في اللذات وهوى النفس مولعا بركوب الخيل والفروسية. وإنما لم يخل ذلك بأمور الكنيسة لان اكثر الدول والكنائس كان على هذه الحال.
 
وأن أوثو الإمبراطور لما علم أن هذا البابا قد أضمر العصيان وكان أهل إيطاليا قد استدعوا حضوره لإصلاح ما اختل من أحوالهم توجه من بافيا إلى رومية. وبعد أن استتب له الأمر في المدينة عقد مجمعا حضر فيه البابا بنفسه وكثير من أمراء جرمانية ورومية وأربعون أسقفا وسبعة عشر كردينالاً وذلك في كنيسة مار بطرس. وشكى البابا بحضرتهم أجمعين أنه فسق بعدة نساء وخصوصا أيتنت التي ماتت وهي نفساء. وأنه قلد مطرانية طودى لغلام كان سنه عشر سنين لا غير. وأنه كان يبيع الرتب والدرجات الكنائسية بيعا وسمل عيني أشبينه في المعمودية سملاً.
وجبّ أي خصى أحد الكرادلة أو الكردينالات جباً. ثم قتله. وأنه لم يكن يؤمن بالمسيح وغير ذلك مما أوجب على الإمبراطور خلعه ونصب ليو الثامن في مكانه. إلا أنه لم يكد
الإمبراطور يخرج من رومية حتى هاج البابا عليه أهل المدينة. وعقد مجمعا خلع فيه ليو الثامن وأمر بقطع يد الكردينال الذي كتب الشكوى عليه. وقطع أيضا لسان الكاتب الذي كان يقيد الحوادث وأنفه واثنتين من أصابعه. ثم قتل البابا يوحنا الثاني عشر وهو معانق لامرأة . وكان القاتل له على ما قيل زوجها.
 
ثم أن القنصل كريستنيوس ابن البابا يوحنا العاشر من ماروزيا جيش أهل رومية على اوثو الثاني وسجن بندكتوس وكان من حزب الإمبراطور فمات في السجن . فلما بلغ ذلك مسامع أوثو وليّ يوحنا الرابع عشر. فقام عليه بونيفاس السابع الذي كان ولي الرئاسة من قبل القنصل وقتله. وبقي القنصل مستقلاً بتدبير الأمور ومباشرة الأحكام إلى أن قام غريغوريوس ابن أخت الإمبراطور وخلع اوثو
الثالث. ثم احتال عليه الإمبراطور وضرب عنقه وأمر بأن تعلق جثته من القدمين.
وسملت عينا البابا يوحنا الخامس عشر الذي أنتخبه الرومانيون وقطع أنفه ثم رمي به من
ذروة قلعة صانت أنجلو. ثم عرضت الرئاسة الباباوية على البيع فاشتراها كل من بندكتوس الثامن ويوحنا التاسع عشر واحداً بعد واحد. وكانا أخوي مركيز طوسكاني ثم
اشتريت لولد سنه عشر سنين وهو بندكتوس التاسع. ثم انتخب باباوان آخران وكان أحدهما يكفّر الآخر ويحرمه. ثم اصطلحا على أن يتقاسما دخل الكنيسة فيما بينهما وأن يعيش كل منهما مع سرّيته.
 
ومنهم من قال أن كنيسة رومية أصدرت مرة منشوراً حكمت فيه على بعض ملوك فرنسا بان يطلق امرأته ويباشر دواعي التوبة سبع سنين.
وإنه لما شهر المنشور في المملكة سقطت حرمة الملك من عيون الناس فتجنبته الخاصة والعامة حتى لم يبق عنده غير خادمين.
ومنهم من قال إن البابا غريغوريوس السابع عقد مجمعاً في رومية على آنري الرابع سلطان جرمانية وقال فيه. قد خلعت آنري عن ولاية النمسا وإيطاليا وأعفيت جميع النصارى من الطاعة له ونقضت عهدهم له. ولست آذن لأحد في أن يخدمه باعتبار أنه ملك ذو سلطان. وأن آنري لما ضاق بذلك ذرعاً اضطر إلى الذهاب إلى رومية. فلما قدم على البابا وجده خاليا بالكنتس ماتيلدة في كانوزا فوقف السلطان يستأذن في الدخول لدى الباب ولم يكن معه أحد يخفره. فلما دخل المقام
الأول اعترضه بعض حشم البابا ونزعوا عنه حلته الملكية وألبسوه ثوباً من الشعر. ووقف أيضاً ينتظر الأذن في صحن القصر حافياً وكان ذلك في قلب الشتاء . ثم ألزم أن يصوم
ثلاثة أيام قبل تقبيل قدم البابا. فلما انقضت الأيام الثلاثة دخل به إلى مجلس البابا فوعده بالعفو بشرط أن ينتظر ما يحكم به عليه في مجلس اغوسبرغ. إلى أن قال ثم مات البابا
المذكور وخلفه رئيس دير سُمَّي اوربانوس الثاني. وكان مثل سلفه في العتو والتجبر. فمن ثم جعل يحرض ابني آنري على قتال أبيهما. وهذه ثاني مرة هاج البابا فيها الأبناء على
آبائهم. فقاما عليه وأودعاه السجن ثم فرَّ منه ومات في لياج مسكينا ذليلاً.
 
ومنهم من قال أن آنري السادس ولد فريدريك الثاني سار إلى رومية ليتوج البابا سيلستانوس. ولما كان الإمبراطور مطأطئا لتقبيل قدمه وعلى رأسه تاج الملك رفع البابا رجله ورفس بها التاج عن رأسه فوقع على الأرض وكان سن البابا وقتئذ ستاً وثمانين سنة.
 
ومنهم من قال إن بعض الباباوات وأظنه اينوصنت الثالث حرم الملك لويس وأباه. غير أن مطارين فرنسا نسخوا حكمه وأمروا بإلغائه. وأن البابا اينوصنت الرابع عقد المجمع الثالث عشر = لخلع= الإمبراطور فريدريك الثاني وذلك في سنة 1345 وحكم عليه فيه بكفره وبأنه كان يتسرى بجواري مسلمات. فناضل عن الإمبراطور خطباؤه وحزبه وردَّوا على البابا أنه افتض بنتاً وارتشى غير مرة. ومنهم من قال إن البابا المذكور أغرى طبيب الإمبراطور المشار إليه بأن يدس له السم في طعامه.
وأن البابا لوقيوس الثاني ولي مرة حصار رومية بنفسه
ومات من رمية حجر على رأسه.
وأن البابا إكليمنضوس الخامس عسر كان يجول في فينا وليون لجمع المال ومعه عشيقته.
وإن راهباً من الدومينيقيين سم الإمبراطور آنري عن أمر البابا وذلك في القربان
 
وأنه في سنة 1200 تزاحم باباوان على الرئاسة وجمع كل
منهما حزبه للقتال وعلى راية كل صور المفاتيح. وأن أحدهما تصرف في آنية كنيسة مار بطرس وأنفقها في أهبة الحرب.
 
وأن البابا أوربانوس كان يعذب كل من خالفه من الكرادلة
أو الكردينالات وفي ذلك الوقت أنكرت دولة فرنسا رئاسة البابا واستبدت أساقفتها بأمور رعيتهم.
 
ومنهم من قال إن البابا يوحنا الثالث والعشرين شكي بأنه سم وباع الوظائف الكنائسية وقتل عدة أبرياء. وأنه كان كافراً ولوطياً معاً. فمن ثم خلع بحضرة الإمبراطور.
إلى غير ذلك مما يضيق عنه هذا الكتاب فإني لم أضعه في الدين وإنما أوردت ما مرّ بك على سبيل الاستطراد.
((عودة إلى قصة أسعد))
فإن كان ما قاله هؤلاء المؤلفون من الفرنساويين حقاً كان أبرّ من هؤلاء الأئمة وأتقى. إذا لم يُشْكَ قط بأنه لاط أو زنى أو سم أحداً أو هاج الأبناء على آبائهم ليقتلوه. أو أنه اختلس آنية الكنائس أو طغى وتجبر على سلطانه أو ارتشى. وإنما هي مماحكات جرت بينه وبين بطركه على أشياء غير مقيسة ولا معدودة ولا موزونة ولا مكيلة. فأنت تقول
مثلاً إن دركات قنوبين المؤدية إلى سجَّين ثلاث. وهو قال ثلاثمائة. وأنا أقول ثلاثة آلاف.
فما مدخل السجن هنا والعذاب. وإن كان ما قالوه كذباً وافتراء كان ذلك أدعى إلى تنكيلهم والاقتصاص منهم. لافترائهم على أحبار الله وخلفائه فواحش لن يستطيع عباد الفتيش أن يأتوا بأفظع منها. مع أنا لم نر أحد منهم عُذب أو نفي  أو استفز من داره أو أنف من محضره. بل قد طبعت كتبهم المرة بعد المرة. وسعرها في الأسواق كسعر كتب العلم.
ولعل قائلا يقول إن عرضك هذا موجه إلى البطرك المتولي الآن وهو من أهل الفضل والمكارم وليس هو الذي سجن أخاك وقتله وإنما سلفه.
 قلت عندي علم ذلك. غير أنه ما دام هو يعتقد بأن ما فعله سلفه كان صواباً فهو شريك له ولا يلبث أن يعامل من يقتدي بأخي معاملة سلفه. وكذلك يعم اللوم جميع المطارنة والأساقفة والقسيسين والرهبان إن كانوا يصوبون ما فعله البطرك المتوفى. وكنت أود لو أختم هذا العرض بعتاب أوجهه إلى حضرة المطران بولس مسعد ابن خالي وخال أخي وكاتب أسرار البطرك. ولكني خشيت الآن من الإطالة. وفيما قلت ما يغني اللبيب.
 
___________
* سقط كلمات في هذه الفقرة تعرف بداهة من سيرة ماروزيا الزوجة غير الشرعية للبابا سرجيوس وأم البابا يوحنا الحادي عشر وجدة البابا يوحنا الثاني عشر حكم عليها بالسجن لمدة خمسين عاما بتهمة تدبيرها مقتل البابا يوحنا العاشر، وأخبارها مشهورة جدا
 
 
*زهير
4 - ديسمبر - 2010
وكأين من قرية كانت آمنة مطمئنة ...    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
من مواعظ التاريخ : البذخ والترف سبب سقوط الدول .
-       قرأت في مقدمة ( رسالة الغفران ) لكاتبها : د. علي شلق = هذه الكلمة القيِّمة .
-   (( منذ أن أولع المتوكل بكل زخرف للحياة وبهرج للعمران كان ذلك حريا أن يشير إلى بدء النهاية لحكومة بني العباس وإن كان غير واحد من أصحاب النظر في تقلبات الأقدار يردون بدء الانحدار للساعة التي بدل فيها المعتصم عرب العصر وفرسه بالأتراك .
-   عهد المتوكل الباذخ انفتح على عصر الدويلات ومعنى ذلك أن الانفلات الاقتصادي أدى إلى اتساع الهوة بين طبقات الشعب ونتج عن ذلك ازدياد عدد الفقراء والمحرومين وتجمعت خيرات الأمة في يد فئة قليلة معظمها من الحكام فمن الحتمي المنتظر أن تتعدد الانتفاضات والثورات وأن يقطف الثائرون الطامحون ثمار الاستقلال بمقاطعات متميزة عن عاصمة الدولة بغداد وأن يمكنوا لهم بالفعل ركائز الحكم والسياسة والتفرد مانحين الشبح الذي في بغداد سلطة اسمية )) .
-   لعلَّ من مشاهد التاريخ الواجبِ تدبُّرَها : مشاهد سقوط الدول بدْءًا بدولة المتوكل ، ثم دولة الأيوبيين في مصر ، ثم دولة بني الأحمر في الأندلس ، ثم دولة الإسلام في الهند ، وكل هذه الدول التي سادت ثم بادت كان من الأسباب الرئيسة لسقوطها : الانغماس في الترف والبذخ وفحش صور اللهو والعبث بين ذوي مقاليد الحكم فيها .
-   وأرشد إلى قراءة الجزء الرابع من كتاب ( تاريخ دولة الإسلام في الأندلس ) لـ : محمد عبد الله عنان - غفر الله لنا وله ! - وجزاه خيرًا .
*محمود العسكري
7 - ديسمبر - 2010
هذا آخر العهد بك    كن أول من يقيّم
 
نعم، البذخ والترف من أسباب سقوط الدول دون شك. ومن أسباب سقوط الدول أيضا تسييس الدين وفقا للأمزجة والأهواء، أو جعل السياسة تتخلق بأخلاق الأطماع، وان لا شيء منها محرم، وذلك بفصلها عن روح الدين الحنيف.
هذا فراق بيني وبينك:
عبد الملك بن مروان، الذي كان لا يفارق المسجد قبل توليه الخلافة لدرجة أن لقبه عبد الله بن عمر(ر) بحمامة المسجد، والذي كان من أكثر الناس علما وفقها، وأبرعهم أدبا، وأحسنهم في شبيبته والمصحف في حجره، لعبت به السياسة، أو لعب هو بها لدرجة انه لما جاءته الخلافة بعد أبيه، وكان المصحف في حجرة أطبقه، وقال: " هذا فراق بيني وبينك " " الكهف: 78 "..(الكامل في اللغة والأدب للمبرد).
وعبد الملك أول من أمر أن يقال على المنابر: اللهم أصلح عبدك وخليفتك، فلما بويع له تغيرت أموره في باب الدين. ( المنتظم... لابن الجوزي).
في أحسن التأويلات لقول عبد الملك للمصحف : "هذا فراق بيني وبينك" أن يقال: عنى بقوله إنه سيفرغ لشؤون الرعية، وإنه لن يتمكن من مرافقة المصحف مثل أول، لانشغاله بأمور رعيته، ولا يعني بأنه سيخالف المصحف إلى ما تقتضيه مصالح البيت المرواني الأموي الحاكم. ولنفترض صحة هذا التأويل ونتساءل: لمّا قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد بن العاص، وهو أموي مثله ومن أقربائه القرباء ومن الطبقة الثانية من تابعي المدينة، لماذا قتله بيده بعد أن أمّنه؟! وهل يجوز الغدر في كتاب الله؟! فما معنى خطاب عبد الملك للمصحف : " هذا فراق بيني وبينك"إذن؟! أو في رواية أخرى لابن الجوزي في المنتظم: " هذا آخر العهد بك" ؟! هل هو فراق المشتغل بأمور الرعية، أم هو الذب عن حياض المُلك والسيطرة؟!
ولو كانت الخلافة، أو المُلك، أو الإمارة عن مشورة، وعن رضا حقيقي من المسلمين، لحقّ لولي الأمر عقاب الطامع الخارج على الدولة بحد السيف. فالطامع في حكم الناس دون رغبة منهم ينال جزاءه، ولا تثريب على ولي الأمر إن عاقب في مثل هذه الحال. ويبقى نوع العقاب وشدته وطريقته لا تخرج بحال عن المعقول، ولا يجوز أن تتأثر بالضغائن والأحقاد والأطماع الشخصية أبدا. أما وهذا الفريق من البيت الأموي، أو غيره من البيوتات، يرى أحقيته بالخلافة، وذاك الفريق من نفس البيت يرى نفسه أحق بها من غيره، ثم يقتتلان، أو يكيد بعضهم بعضا، فماذا على المسلمين أن يفعلوا؟! أجيب: ليس عليهم أن يفعلوا شيئا، فهم لا يملكون حرية الرأي أو القول مع الأمن على الأنفس والأموال، ولا يمكنهم إلا إبداء النصح إن قدروا عليه،؛ ولكنهم يمكنهم أن يقولوا باطمئنان:" اللي بتجوز أمي، هو عمي"، كما درجت العامة على هذا القول. وإذا كان ذلك كذلك، فسوف تظل الرعية في واد، ويظل الحكام في واد آخر.
إن ما دفعني إلى الكتابة عن عبد الملك بن مروان؛ مستقيا ما أكتبه من كتب تراثنا العربي الإسلامي هو ذلك النزاع بين الجماعات والأحزاب، من متدينين، وليبراليين ، وعلمانيين، وغيرهم في أيامنا، في هل يجوز فصل الدين عن الدولة وسياستها أو لا يجوز؟ وما معنى الدين ، وما معنى الدولة المدنية ، وما معنى الدولة الدينية؟ ولهذا حديث يأتي إن شاء الله تعالى.
 
*ياسين الشيخ سليمان
7 - ديسمبر - 2010
 1  2  3