البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : الإبداعية في الأدب(1)    قيّم
التقييم :
( من قبل 4 أعضاء )
 د يحيى 
28 - أكتوبر - 2010
 
الإبداعية في الأدب
 
    يرى بعض النقاد العرب أنه يحسن أن نترجم لفظ romanesque في الفرنسية وromantic في الإنكليزية و romantisch في الألمانية، بكلمة الإبداعي، نسبة إلى الإبداع، في حين أن مدلول هذا اللفظ لايفضي في هذه اللغات إلى معنى الإبداع وحده. بيد أنه من المناسب أن نتكئ على مصطلح «الإبداعية» romantisme لشيوعه وألفة الأقلام له، علماً بأن بعضهم يؤثرون مصطلح الابتداعية على الإبداعية.    
    الإبداعية في الأدب
    إن مصطلح romantisme مشتق، في الأساس من لفظ roman وكان تعبير romanesque يعني قديماً ما يُروى من قصص، باللغة المحكية الشعبية، المواكبة للغة اللاتينية، لغة الصفوة النبيلة العلمية، ثم ضاقت رقعة دلالته وأضحت مقصورة، منذ القرن الرابع عشر، على سير البطولة المروية شعراً ثم نثراً، غير أنه ظل مجهولاً غائباً عن المعاجم الأوربية كلها ولئن عرضت الأكاديمية الفرنسية له عام 1798، فقد اجتزأت بإيراده من دون أن تجلوه على نحو دقيق، ثم ظفر بمزيد من الدلالة الموضحة حين أورد الناقد الألماني فريدريك فون شليغل Frederic Von Schlegel مصطلح «الإبداعي» romantisch أي منهج يرفض الاتباعية ويناقضها، ويتراءى تياراً جديداً يستمد قوته من القومية. ومن هنا يمكن تفسير الدور المهم الذي نهضت به الإبداعية في ألمانية، ولدى أي بلد يتشوف إلى الوحدة - ولاسيما في إيطالية - إذ كان تعبير romanticismo يعني صفة الشعب الطامح إلى الوحدة والتحرر من النير النمسوي، ومن تعبير «الإبداعي» romanesque تحدر مصطلح «الإبداعية» على النحو الذي يرد فيما بعد.
    أما تعريف «الإبداعية» فيبدو صعباً، ملتوياً، عصيّاً على التحديد. فقد جاءت الإبداعية خصماً مخالفاً للاتباعية، كما لو أنها فوضى تواجه نظاماً واضحاً محدداً، ويرى دي بوا De Bois أن مصطلح الإبداعية، هو تعبير يلهج به الناس من دون أن يتاح لشخصين تكوين فكرة واحدة عنه. «إننا نشعر بالإبداعية - كما يؤكد سباستيان مرسييه Sébastien Mercier ولكن ليس في ميسورنا تحديدها وتعريفها على نحو واضح، فلايمكن إذن أن تحبس في قفص أي تعريف». وقد رأى الناقد الفرنسي غايتان بيكون Gaëtan Picon أن من الممكن تعريف الإبداعية وتحديدها بسماتها وملامحها الأكثر تناقضاً فيما بينها إذ من الميسور أن تُحدَّد الإبداعية برمزها الميتافيزيقي كما تحدد بعفويتها الخالية من أي فكرة مبطنة وبهيمنة «الأنا» le moi، كما بذوبان هذه الأنا ضمن سمو ديني أو اجتماعي، بذاتها النفسانية الصافية كما بمذاقها للشيء الصلب المتماسك وبحميميتها كما ببرقشتها الباهرة، وبمعاصرتها كما بانكفائها إلى الماضي، وبجرّها الإنسان إلى أرض دنياه كما بحرصها على انسلاخ روحه عن أرضه. ويلخص بيكون ذلك كله بقوله: «إن الإبداعية هي المجلى الفني للأديب الذي يستشعر فجأة أنه يحيا متعجلاً نافد الصبر ملتزماً العيش في عالم يدمر كل هيمنة تقليدية، حافزاً إياه على أن يعمل من دونها»، ومن قبل رأى  فكتور هوغو Victor Hugo [ر]: «أن الإبداعية هي أشبه ببستان من الشعر، من دون أية فاكهة محرمة، لأنها الفن الذي يسمح بكل شيء».
    نشأة الإبداعية 
   يمكن القول إن الحركة الإبداعية قد انطلقت أول ما انطلقت مع استدارة القرن التاسع عشر في ألمانية وإنكلترة قبل أن تنطلق في فرنسة وإيطالية حيث تأخرت إلى العقدين الثاني والثالث منه. ويعود الفضل في نشأتها إلى رواد مهدوا لها من مثل كنت، وغوته، وشيلر، وإلى دعاة مفوهين من أمثال الأخوين شليغل، ونوفاليس، وشلايرماخر الذين أصبحت ألمانية بفضلهم مركزاً لإشعاع الفكر الأدبي بعد أن كانت مجرد متلق سلبي في عهد الاتباعية الجديـدة [ر]. وربما كانت إنكلترة أول متلق لهذا الإشعاع الألماني الذي تلقفه كل من وردزورث Wordsworth وكولريدج Coleridge الذي أغناها بقراءة معمقة للتراث الأفلاطوني وما لبث هذا المد أن وصل فرنسة التي ظلت الاتباعية مهيمنة فيها أكثر من قرنين، مما جعل تفجر الإبداعية فيها مقروناً بالتوهج والعنف، وقد ساعد على تفجيرها، مدُّ الثورة الفرنسية ثم انسياح الملحمة البونابرتية التي طبعت أوربة بميسمها في مدى عشرين عاماً، وعلى الرغم من شعور الكراهية لعهد الإرهاب الذي خيم على الثورة بظله البغيض، فإن مبادئها ظلت ترفد الخيال وتمده بدمها الحار المتدفق في شرايين الأدب، محدثة صدعاً عميقاً في كيان الاتباعية، حتى لقد قال لودفيغ فيته Ludovic Vitet: إن الذوق الأدبي في فرنسة ينتظر أيضاً يومه الرابع عشر من تموز. بيد أنه لابد من التنويه بأن إرهاصات ممهدة للإبداعية سبقت ظهورها حركة ذات منهج واضح، وتجلت هذه الإرهاصات في مؤلفات تهيمن بين سطورها روح الإبداعية وبعض ملامحها المتميزة، ولعل أهم هذه المؤلفات ما كان أزجاه جان جاك روسو Jean Jacques Rousseau في روايته «هلوييز الجديدة» La nouvelle Héloïse و«الاعترافات» Les confessions، وقد بسط فيهما الموضوعات الرئيسة التي تزهو بها الإبداعية، في تصويره لبدوات العاطفة ومفاتن الطبيعة، وما أزجاه برناردان دي سان بيير Bernardin de St Pierre [ر]، في روايته «بول وفيرجيني» Paul et Virginie التي جلا فيها تيمة theme الاغترابية exotisme وأخيراً ما كان قد بسطه شاتوبريان Chateaubriand في كتابه «عبقرية المسيحية» Génie du Christianisme من تيمات روحية وعاطفية تسخو بها الإبداعية.
    ويمكن أن يعد ديوان «تأملات شعرية» Méditations poétiques للكاتب لامرتين Lamartine منبلجاً لفجر الإبداعية الفرنسية. وقد ساوق انطلاقها آنذاك، دعوة مُلِحَّة إلى الاطلاع على الآثار الأدبية الرفيعة في أوربة - ولاسيما في إنكلترة وألمانية اللتين تقدمتا فرنسة في تبني الإبداعية وقدمتا من الآثار الملهمة الشعرية والنثرية ما رفد الإبداعية الفرنسية بزاد شهي ومنهل عذب، متحت منه وتأثرت به لتتضوأ نجومها المتلامحة في سماء الأدب بألق جديد. وكالجداول التي تتجمع لتؤلف نهراً لجياً، فقد ائتلفت حركة مطردة متنامية، داعية إلى الإبداعية، غير أن هذه الحركة انبثقت، في البدء، مشتتة مكونة جزراً مترامية في منفسحها، تباعد السياسة والأهواء ما بين أتباعها، فكان بعضهم يجتمع حول صحيفة «الكونسرفاتور الأدبي» وبعضهم الآخر يضمه صالون «إِتيين دي لوكلوز» Étienne de Lecluse وانقسم مريدوها إلى فئتين تنطق بلسان الأولى صحيفة «ربة الشعر الفرنسية» La Muse Française ذات الاتجاه المعتدل، وتنطق بلسان الثانية صحيفة «الكوكب» Globe ذات الاتجاه التحرري، وبدا فكتور هوغو، كأنه الرئيس الموجه للإبداعية، وإذ إنها ترتكز على المسرح بصورة خاصة، فقد ألفى الإبداعيون أنه من الأجدى لهم أن يفوِّقوا سهام نقدهم إلى معقل الاتباعية التقليدية: المسرح. وكذلك ترادفت مقالات وبيانات شتى وقعها هوغو ودي شامب وسانت بوف، جلوا فيها منطلقات الإبداعية وأسسها، مركزين اهتمامهم على المسرح، ومع ذلك فلم يكن في جعبة الإبداعيين أثر مسرحي، يمكن أن يضاهي بنضجه وكماله مسرحية «السيد» Le Cid لكورنّي Corneille [ر] حتى وافى تاريخ 25 شباط 1830، وفيه تصدى هوغو بمسرحيته «هرناني» Hernani لقلعة الاتباعية وقواعدها المعروفة في المسرح، ولاسيما لقاعدة الوحدات الثلاث، وقد وسم تصديه العنيف بمعركة هرناني الناشبة ما بين مرحب منافح عنها، ومهاجم منتقد لها، وقد استلهم هوغو موضوعها الشائق من تاريخ إسبانية، واتسق له أن يستشرف بها ذروة الإبداع والروعة، بما يترقرق فيها من غنائية وماءٍ وطلاوة. وهكذا أضحى عام 1830 منعطفاً مهماً ضمن أبرز اتجاهات الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر وقمة باذخة تماثل - على حد قول لامرتين - قمة جبل شامخ بين منحدرين.
 
    وفيما عدا مسرحية «هرناني» الناجحة، فإن إسهام الإبداعيين، في ميدان المسرح جاء متخلفاً قاصراً عن مطاولة ما أنتجه رواد المسرح الاتباعي الأوائل حتى لقد بدت مسرحية «بورغراف» Burgraves لهوغو باهتة، حائلة اللون، إن وضعت في قَرَنٍ واحد مع هرناني، بيد أن الرواية الإبداعية، أتمت ما قصر عنه المسرح الإبداعي، فقد ترادفت، في القرن التاسع عشر، روايات شتى، تفوق بجودتها الآثار المسرحية الإبداعية، حتى لقد دعي هذا القرن بقرن الرواية، وتأتّى لها أن تغري كثيراً من الشعراء والمسرحيين النابهين ليردوا منهلها، كلامرتين وهوغو ـ وحسب المرء أن يشير إلى رواية «البؤساء» Les Misérables لهوغو، وحسبها أن تغري الناقد سانت بوف، بأن يدلي أيضاً بدلوه ويغترف بروايته «الشهوة» Volupté من خضم الرواية الزاخر. هكذا انفسحت طريق الإبداعية الفرنسية رحبة لاحبة أمام ستاندال Stendhal وفكتور هوغو ولامرتين وألفرد دي موسيه Alfred de Musset وألفرد دي فيني Alfred de Vigny وجورج صاند George Sand وسانت بوف وغيرهم، يسهم كل منهم في المجال المؤهل له، في ميادين الشعر والمسرح والرواية والنقد.
 
    وتتصف الإبداعية في بقية البلدان الأوربية، ولاسيما في ألمانية وإنكلترة، بأنها لم تلق عنتاً يماثل ما لقيته الإبداعية في فرنسة، ولم تتسم بمثل حدتها، إذ لم يتسق لها، فيما هي تناجز الاتباعية، أن تظفر بمعركة كمعركة «هرناني» وما أثارته من رهج وجلبة، وقد برزت ملامحها العامة، في هذين البلدين، قبل أن تؤتي الإبداعية الفرنسية أكلها وثمارها، ففي ألمانية، هيمن طيفا غوته وشيلر، في البدء، ثم أتى هولدرلين Holderlin [ر] ونوفاليس Novalis [ر] وهاينة Heine [ر] ليغنوا الإبداعية الألمانية ويهبوا لها آفاقاً من غوارب الخيال المجنح، وفيضاً من العاطفة المتدفقة. أما في إنكلترة فقد طغى طيف شكسبير، بمسرحه الخصب المتنوع، المترع بنزوات الأهواء ولهب العواطف، ثم اشرأب من بين أعلام الإبداعية الإنكليزية، وردزورث وكولردج وكيتس Keats، لتنسم العاطفة المرهفة في أشعارهم، وشق والتر سكوت Walter Scott طريق الرواية التاريخية النابضة بالصور المعبرة الحية، وترادفت روايات الشقيقات شارلوت وإميلي وآن برونتي Charlotte, Emily and Anne Brontë شوامخ بين آثار الرواية الإنكليزية الإبداعية بما يترقرق فيها من حساسية وعاطفة.
    ولقد كان ثمة فوارق مميزة تتصف بها مظاهر الإبداعية الأوربية، إذ كان ما يفرق ما بين الإبداعيين أكثر مما يجمع ما بينهم، فقد اتصفت علاقات بعضهم ببعض، بطابع الخصومة، ولاسيما في إنكلترة، لهذا بدت الإبداعية الأوربية في مجملها ممثلة بموقفها السلبي الرافض، أكثر مما هي ممثلة بخصائصها الإيجابية، ومع ذلك فقد كان ثمة روابط وموضوعات مشتركة، تأتلف متناغمة، في مثاقفة متبادلة، فارضة نفسها على الأذواق أمداً طويلاً، لتجعل من آثار بعض النابهين من أدباء الإبداعية، مهوى نظر كل من ينشد المتعة الأدبية الخالصة في كل عصر.
    منطلقات الإبداعية وملامحها العامة
    الحساسية الجديدة واكتشاف الذات: كتب الناقد سينانكور Senancour عام 1804 «إن الأديب الإبداعي قمين، وحده، بأن ينفض الحساسية الجديدة في الأدب» معبراً بهذه الكلمة عما يمكن أن تفصح عنه طبيعة الإبداعية ومنطلقاتها وتوقها إلى إعطاء الخيال حقه من السمو، قبل أن تضحي مدرسة جمالية في الأدب. ذلك أن الإبداعية تستمد قوتها وتسترفد إمكاناتها غير المحدودة من اكتشافها لمفهوم الذات النفسانية Subjectivité ويفسر هذا التصعيد للذات، في التجربة الإبداعية، ازدهار أدب السيرة الذاتية (أدب المذكرات واليوميات والاعترافات، والرسائل الحميمية الزاخرة بالمشاعر) ويمكن أن يفسر بروز هذه الأنا الذاتية بالأوضاع التي جعلت من مرحلة ما بعد الثورة مرحلة أزمات وجدانية، حملت معها حساسيات مستجدة وتغيرات عميقة في علاقات الناس جميعاً. هكذا تمتاز إذن الحساسية العاطفية بأهميتها، ضمن السيكولوجية الإبداعية، فالحب، مثلاً ليس عملية عقلية منطقية، ولانزوة شهوانية عارضة، بل هو إلهام رباني مقدس ـ كما كان يحلو لموسيه أن يردد ـ آخذاً بمدرسة الإبداعيين الألمان، الذين يرون أن الحب هو دين السعادة الأرضية، وعلى الرغم من أن الحب يجتلب بذور الألم الذي يبتلى به العشاق المعاميد، فإن لأحزان الحب ومواجده جانبها الإيجابي المؤثر، الفاعل. هكذا وجد موسيه وأضرابه من الشعراء الإبداعيين، أن الألم العظيم يخلق الرجل العظيم، فنضح بدموعه السخينة الرطيبة شعره الشجي.
 
    المرأة والطبيعة، مجلىً للإبداعية: لاريب أن المرأة هي مصدرٌ رئيسٌ أساسيٌ لإلهام الشاعر، تثير فيه أعمق ما يمور في جوانحه من مشاعر، بيد أن السعادة التي ترفض المرأةُ أن تهبها له، أحياناً تحملُه على أن ينشدها في الطبيعة نفسها، ولربما بدت المرأة والطبيعة متماثلتين، في إثارة مواجع الحزن والأسى لديه على نحو ما عبر عنه جيداً هوغو في قصيدته «حزن أولامبيو» Tristesse d'Olympio التي يفصح فيها البطل عن خيبته المريرة من المرأة والطبيعة معاً، فلاعجب إذن أن تخلق الإبداعية نموذجاً جديداً للبطل، مخالفاً لنموذج البطل في الاتباعية، إذ يتراءى في الإبداعية فيما هو يجتر آلامه، منفرداً وحيداً، كما يتراءى وجوده سلسلة من التمرد والنضال، لأن نهاية هذا الوجود واشيةٌ بالإخفاق، الذي تفرضه لعنة قاسية شرسة، وتظل الطبيعة بعد هذا كله، الملاذ الأخير الذي يفزع إليه الشاعر الحزين، ويجد فيه سلواناً عما ألفاه في الحياة من إحباط، وما لقيه من المرأة من صد وهجران، ها هي ذي الطبيعة إذن تناديه وتخلص له، على النحو الذي عبر عنه لامرتين بقوله: «ها هي ذي الطبيعة ماثلة أمامك، إنها تحبك وتدعوك» وحين تأخذ الأرض زخرفها مُمْرعة زاهيةً، فإنها تعلِّم الشاعر أيضاً وتلهمه: «إن نبضة واحدة من غابة ربيعية - كما يقول وردزورث - كفيلة بأن تعلمنا عن الإنسان، وعن الخير والشر، أضعاف ما يعلمنا إياه الحكماء كافة».
 
    نشدان الاغتراب: إن في ميسور المرء أن يتساءل عما إذا كان النموذج الصادق الأمثل للبطل الإبداعي هو الأديب نفسه، عاكساً طيفه المهوم في صقال مرآة كلماته، إنه طيف الصدى أو المجوسي الذي يمثل في بعض قصائد هوغو، أو طيف رسول الآلهة الذي وصفه هولدرلين، إنه الطيف المزود برسالة سلمية إنسانية اجتماعية، والداعي إلى نشدان آفاق موحية خلابة، هذا هو ما يمكن أن يدعى بنشدان الاغتراب في المكان والزمان والحنين إليهما، فاغتراب المكان يتجلى في وصف الأراضي البكْر القصية (أمريكة أو الشرق البعيد)، أما اغتراب الزمان فيتجلى في الانكفاء، إلى آداب القرون الوسطى خاصة، ينسرح إليها الخيال، ويستمد من أحداثها وأساطيرها صوره وتهاويله الآسرة الساحرة. وكان من الطبيعي أن يرفض الإبداعيون، فيما هم يفزعون إلى هذا المنهل الزاخر من الإلهام، جميع الأُطُر الجامدة الاتباعية، المنافية لروح العصر، ساخرين من الأسلوب المصقول المستحصد، والقوالب الجاهزة المعدَّة، والكلمات والألفاظ المتأنقة الجوفاء، مؤثرين على ذلك كلِّه أسلوباً طيِّعاً سهلاً، يترقرق عذوبة وسلاسةً وتعابيرَ شعبيةً تعانق نبضات القلب.
      «هرناني»، على الإبداعية، ناشداً في الحركة البرناسية، أفقاً واعداً موحياً.
   
  
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
الإبداعية في الموسيقا    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 

الإبداعية في الموسيقى
 
    كان الكتاب والمفكرون الألمان أول من أطلق مصطلح الإبداعية في نهاية القرن الثامن عشر على الإبداع الموسيقي المتميز. فقد أعطى جان بول ريختر (J.P.Richter (1763 - 1825، وفريدريك شْليغل (Fr.Schlegel (1772 - 1829 أهمية كبيرة للموسيقى في تحديد مفهوم الفن الإبداعي. فهي، أي الموسيقى، تعبر عن النبضات المباشرة للحياة الإنسانية الداخلية المشحونة بصراعات متنوعة وعنيفة أحياناً ناجمة عن المشاعر الذاتية. وأعرب لودفيغ تيك L.Tieck (1773 - 1853) في أعمال له مختلفة مثل «آلام وبهجات موسيقية» عن وحدة الفنون، غير أن الموسيقى وحدها، كما يراها، هي التعبير الأسمى للروحانيات الإنسانية. وقد تأثر بهذه الأفكار كبار موسيقيي القرن التاسع عشر بدءاً من شومان Schumann حتى مالر[ر] Mahler (أحد أعلام «مابعد الإبداعية» Postromanticism). وقد أكد مفكرون آخرون أن على الفن أن يحطم الحقيقة، وأن الفنون التشخيصية Figurative arts والأدب والشعر تتجه نحو سمو الحقيقة والواقع، إلا أن وسائلها محدودة. وكان جدل عنيف بين الاتباعية والإبداعية يتمثل في تناقض غوته وشيلر Goethe _ Schiller الذي أذكاه الأخوان شليغل. وكان غوته يتطلع إلى استخلاص حل لهذا التضاد بين الاتباعية والإبداعية في تمازج بينهما، وكان ينظر إلى موسيقى بتهوفن[ر] Beethoven بقلق واضطراب. وقد قال مرة باقتضاب: الاتباعية هي العافية، والإبداعية هي المرض.
 
    وبظهور الإبداعية بدأ عصر جديد في تاريخ الفكر الإنساني برزت آثاره في الفن والأدب والفلسفة والسياسة. ولم يكن في وسع أي شعب في أوربة تجاهل هذا الحدث الجليل أو تجنبه. وكان أن بدأت الإبداعية بالشعر فالتصوير فالموسيقى التي عُدت من أقوى التعابير الفنية.
 
    ويرى الكاتب والناقد الموسيقي ألفْرد أينشتاين (A.Enstein (1880 - 1952 أن في الموسيقى الإبداعية نقائض كثيرة وكبيرة منها: عدم اعتراف بعض الإبداعيين، مثل برليوز Berlioz، بالسالفين عدا اثنين منهم هما: غلوك Gluck وبتهوفن، ويرى كذلك أن استعرا ض البراعة الفنية في الأداء virtuosity يدل على أن هذه البراعة تتطلب اتصالاً جماهيرياً واسعاً في حين تنزع الإبداعية إلى الانطوائية الذاتية. ولقد اتصف فاغنر[ر] Wagner بفرديته وتركزه حول ذاته، وحرص فيردي[ر] Verdi على أن تكون جذور فنه نابعة من وطنه. ومع ذلك، فقد تألق الاثنان وبلغا قمة الإبداع في عالم الأوبرا، وكان مندلسون[ر] Mendelssohn رائداً في الوضوح والتناسق، يبغض الخلل الذي يعتري الانسجام[ر] harmony والانحراف عن القواعد بلا ضرورة، فكان إبداعياً في منحى اتباعي، في حين كان برليوز يمقت اتباع القواعد الصارمة المقيّدة. ومن أهم النقائض أيضاً في نظر أينشتاين، ولع الإبداعيين كافة بالقِدم والعصور القصيّة، في حين جاءت الإبداعية ثورة على القديم، ولاسيما سالفتها الاتباعية، وإلحاحاً على الشعور والانفعالات الإنسانية والقومية.
 
    في الفكر الموسيقي الإبداعي الألماني عنصران مهمان هما: الأدبي - الموسيقي - والجمالي - الفلسفي. ويمثل هوفمان (E.T.Hoffmann (1776 - 1822 العنصر الأول وهو يُعد الناقد والملهم الأول في الإبداعية الموسيقية. في حين تعود أولى البصمات إلى شوبارت (Ch.F.D.Schubart (1739 - 1791 في كتاباته حول العنصر الجمالي الفلسفي التي نشرت عام 1806 بعد وفاته. وهوفمان، وهو الشاعر والكاتب والمصور والمؤلف الموسيقي وقائد الأوركسترا، الذي أبدع «أقاصيص هوفمان» الشهيرة كان ينشر نقده الأدبي بالاسم المستعار “Kapellmeister Kreisler”. وقد ألهمت أقاصيص هوفمان هذه أوفنباخ[ر] J.Offenbach في مؤلفته التي تحمل كذلك اسم «أقاصيص هوفمان». وكان هوفمان مصدر وحي لشومان في مؤلفته الموسيقية «Kreisleriana» وكان يصف بتهوفن بأنه ثوري لاذع ومتقلب في تعامله مع العالم الخارجي، ومغلق في دخيلته. ثم وصفه أيضاً بأنه «أب للإبداعية» وأشرك معه موتسارت[ر] Mozart بهذا اللقب وذلك بسبب أعمال موتسارت في القسم الأخير من عمله وفيها السمفونيات الأربع الأخيرة والفانتازيات، وقداس الموتى Requiem . وكان هوفمان يحاول أيضاً إيجاد الأسس الأولية للإبداعية في أعمال كل من هايدن[ر] Haydn وغلوك[ر] وباخ[ر] J.S.Bach ، وبصورة أقل عند هندل[ر] Händel الذي يعد «النموذج الباروكي» baroque style الحقيقي. وفي الواقع، فإن المشكلة عند هوفمان لم تكن في تعريف «الأسلوب الإبداعي» لدى تعريفه الأسلوب الباروكي أو الروكوكي Rococo، وإنما في التنقيب، في اللغة الموسيقية السابقة عند السلف، عن تلك السمات «التعبيرية» المميزة التي تعود إلى المضمون في العمل الموسيقي وليس إلى الصيغة أو الشكل form. ويرى الإبداعيون مثل هوفمان وزملائه أن الموسيقى هي لغة الطبيعة الأصيلة: فقد ولدت من الصوت الصادر عن الطبيعة الذي أعطى العالم معالم الحياة. وهذا المفهوم أساس في مذهب الإبداعية وساد كل القرن التاسع عشر حتى عتبة القرن العشرين. ويجعل هوفمان أيضاً السيادة المطلقة للموسيقى الآلية المتحررة من التلاحم الهجين مع الكلمة، ويؤكد أن هذه الموسيقى هي السرمدية في موضوعها وهي الأكثر إبداعية من سائر الفنون. وقد تأثر شومان بهذه الآراء وظهر ذلك في كتاباته النقدية والموسيقية، فكان من الأوائل الذين كشفوا عبقرية كل من شوبان[ر] Chopin، ومندلسون، وليست[ر] Liszt، وبرليوز، وبرامز[ر] Brahms الشاب وقتئذ، وكان يعني أن هؤلاء هم الذين ستلمع أسماؤهم في الإبداعية الموسيقية الأوربية. وكان شومان قد أسس عام 1834 أول مجلة موسيقية هي Neue Zeitschrift für Musik وتبحث في الإبداعية الموسيقية باتجاه مبرمج، وكان يحرر فيها بأسماء مستعارة مختلفة، استخدم بعضها في مؤلفاته لآلة البيانو. ويُعد شومان علماً في تاريخ الإبداعية الموسيقية، وممثلاً لـ «ألمانية الفتية» Junges Deutschland مثلما عُد برليوز ممثل «فرنسة الشابة» الذي حملت سمفونيته «الخيالية» fantastique (عام 1830) برنامجاً أدبياً - موسيقياً متماثلاً مع أفكار هوفمان وشومان وغيرهما. ويصف هيغل (G.F.Hegel (1770 - 1831 الموسيقى في كتاباته «دروس في الجماليات» قائلاً: «إن العمارة فن رمزي لأن مظهرها الخارجي لاينسحب على ما في داخلها. ومع أن الموسيقى والتصوير والشعر هي فنون إبداعية، وأنها تصور المشاعر الروحية الإنسانية، فإن الموسيقى وحدها هي التي يمكنها التعبير عن السريرة الداخلية الخالصة التي تعطي نفسها منها وإليها. وهي لاتبدو ملموسة للعيان كالنحت والتصوير لأنها ترفض ذلك، فهي تتحرك في ذاتيتها سواء من الناحية الداخلية أو الخارجية». وقد نتجت من هذا التعريف الهيغلي توابع كثيرة للحركة الإبداعية مثل «الانطباعية» impressionism، و«الاتباعية الجديدة» neoclassicism.
 
    أثرت الثورة الفرنسية في تاريخ الحضارة الأوربية وفي الصلة بين الفرد والمجتمع وتحرر الشخصية الإنسانية وسعيها إلى الحرية الكاملة. كانت موسيقى المنفعة أو المناسبات هي السائدة قبل الثورة، إذ كانت تؤلَّف بناء على طلب خاص أو من أجل مناسبة خاصة. ومع أن باخ، مثلاً، كان من أعظم الموسيقيين المبدعين في الحقبة الاتباعية، إلا أنه لم يكن أكثرهم استقلالاً أو تحرراً. ولاتعد مؤلفاته أعمالاً فنية حرة، فقد كتب معظمها لتلبية غرض ما، ومع أن مؤلفاته لآلة الكلافسان clavecin [ر.البيانو] مثل «الكلافير المعدّل» the well - tempered clavier أو «ابتكارات» inventions كانت أعمالاً فنية حرة إلى حد ما، إلا أنها تختلف كلياً عن المعنى المقصود الذي ألّف فيه شوبان قطعه الموسيقية للبيانو مثل «الاستهلال» prélude. كان باخ يعد مؤلفاته تلك قطعاً موسيقية ترمي إلى غاية تعليمية أو ترفيهية، إذ كان يمارس التأليف لعصره ومن أجل النبلاء وجماعات المصلين وكان يتقاضى أجراً مقابل ذلك. ويوصف أغلب موسيقيي القرن الثامن عشر بهذه الظاهرة، مثل هايدن وموتسارت، وقد شذّ بتهوفن عنها، فبدلاً من أن يضع نفسه في خدمة الأرستقراطيين، جعل الأرستقراطية في خدمته, وبذلك كان أول من ابتدع مبدأ «الفن للفن»، إذ لم تكن مؤلفاته في «السوناتا» مثلاً أو لآلات منفردة قطعاً ترفيهية، بل كانت أمثلة فنية خالصة.
كانت أعماله قدوة في الحركة الإبداعية التي غزت أوربة في القرن التاسع عشر.
 
    وللحركة الإبداعية في الفنون، ولاسيما الموسيقية منها، صفات خاصة. فقد ظهر فيها معنى جديد للطبيعة ومشاهدها. وبدا ذلك واضحاً في التصوير والموسيقى. فالفنان الإبداعي لايُعنى بالتفاصيل الجزئية الموجودة في المشاهد الطبيعية كالصورة الضوئية (الفوتوغرافية) بل ما يعنيه هو إبراز عالمه العاطفي عن طريق رؤيته لتلك المشاهد. ويمكن تعرف ذلك بالعودة إلى أوراتوريو oratorio «الخَلْق» أو «الفصول» لهايدن، وأوبرا «القنّاص» Der Freischütz لفيبر[ر] Weber. ففي عملي هايدن تُسمع أصوات الحيوانات من صياح الديكة إلى زئير الأسود، وتفهم إيحاءات الشروق والغروب والأمطار والعواصف، بينما تبدو القدرة العالية لدى فيبر على التعبير عن روح الطبيعة وإظهار أجواء الغابات المظلمة في صور صوتية ويكون هذا الإبداع دليل عبقرية خاصة وإنجازاً استقى منه معظم الإبداعيين.
 
    والصفة الثانية التي ظهرت في الإبداعية الموسيقية، نتيجة المحاولات الشخصية، هي الحرية في استخدام «التنافرات الصوتية» dissonances في الانسجام التي أدّت إلى «التلوينية» chromatism الفاغنرية التي مهدت، بدورها، السبيل إلى «اللامقامية» atonality في القرن العشرين. وهكذا أصبح القلق والاضطراب الانسجامي يستقران في الأعماق النفسية مقابل الراحة والهدوء النغميين اللذين ارتكزت عليهما الاتباعية. وغدت التنافرات لغة متفقاً عليها في عالم الأصوات، وكذلك في الألوان للتعبير عن الأحداث الذاتية لـ «الأنا» عند الناس.
 
    ثم إن الإبداعيين اكتشفوا في عالم السمفونية وموسيقى الآلات أشياء مخالفة لرؤى القرن السالف لهم، وتعد هذه صفة ثالثة للإبداعية في الموسيقى. كانت السوناتا أو السمفونية، بحسب التقليد الاتباعي، تبدأ بعرض اللحن الأساسي مباشرة، أما الإبداعيون، فيفضلون تقديمه بعد تمهيد، ليساعد المستمع على ولوج عالم الخيال. وكان مندلسون منفّذاً لمخطط بتهوفن في السمفونية، فهو يمثل اتجاهاً إبداعياً ـ اتباعياً، بعكس شوبرت[ر] Schubert الذي كان اتباعياً - إبداعياً. أما شومان فقد فاقت سمفونياته أعمال مندلسون في هذا المضمار حيوية ونضارة، كما ازدادت ابتعاداً عن الأنماط التقليدية.
 
    وتختلف مظاهر الإبداعية عند برليوز عنها عند شومان أو مندلسون في النظرة إلى مادة العمل الفني، مع أنه كان من المعجبين ببتهوفن مثلهما، فسمفونيته «الخيالية» هي أكثر مؤلفاته حيوية وإثارة لأنها تنزع إلى تصوير موسيقي أودع فيه حبه وهواه لمحبوبته. وما يمتاز به برليوز، ممثلاً للحركة الإبداعية الفرنسية، هو جرأته في ترك المستمع مشدوهاً تحت تأثير التنافر الانسجامي في موسيقاه. أما ليست، مبدع «القصيد السمفوني» symphonic poem [ر. الصيغ الموسيقية] فإن موسيقاه الآلية وثيقة الصلة بالأدب إذ إنها ثمرة ثقافته الأدبية الواسعة. وكان برامز متمسكاً بقوميته، شديد الحرص على اتباع أصول الموسيقى الألمانية كما وضعها أسلافه باخ وبتهوفن وشوبرت.
 
    أما الصفة الرابعة فتتمثل بتطور الآلات الموسيقية المختلفة على نحو ملحوظ في العصر الإبداعي، فقد أصبح البيانو الآلة الموسيقية المفضلة لدى الموسيقيين من حيث التعبير عن الأحاسيس والمشاعر الشخصية الدفينة، وتألقت مكانته وعظم انبهار الجماهير به. ولم يفت انتباه أي مؤلف موسيقي إبداعي أن يكتب قطعاً موسيقية خاصة بهذه الآلة، سواء كانت بصورة منفردة solo أم مرافقة بمصاحبة بضعة آلات أخرى أم مع الأوركسترا الكاملة. وكان شوبان قمة في إيداع البيانو أشجانه ومشاعره الذاتية الحساسة. واستحوذت آلة الكمان أيضاً على اهتمام الموسيقيين، ولاغرو في ذلك إذ إنها عماد الأوركسترا السمفونية. وقد أدت العوامل السابقة إلى العناية بالبراعة والإبداع في الأداء الفني المنفرد solist، وازداد التنافس حدة بين التعبير الشخصي والتألق الاستعراضي، فظهر عازفون مهرة مبدعون في العزف على البيانو مثل شوبان وليست، وفي العزف على الكمان مثل باغانيني[ر] Paganini وذلك إضافة إلى كونهم مؤلفين موسيقيين.
   
    وكان الاعتناء بالألوان القومية من أبرز صفات الإبداعية. ففي بداية القرن الثامن عشر، لم تعترف أوربة إلا بقوميتين موسيقيتين هما: الإيطالية والفرنسية. وفي منتصف القرن، تغيرت الحال وظهرت قومية موسيقية ثالثة هي الألمانية، وذلك بفضل أعمال كبار الموسيقيين الذي عاشوا في فيينة وبرلين والمدن الألمانية الأخرى الكبيرة. فكان هايدن أول من وضع أسس الموسيقى الألمانية لما لرباعياته quatuors وسمفونياته من أهمية بالغة نالت شهرة في جميع أنحاء أوربة. ثم كان موتسارت فبتهوفن، وأصبح الثلاثة يمثلون الموسيقى الألمانية في كل مكان. ومع أن الموسيقى الإيطالية، ولاسيما الغنائية والأوبرالية منها، كانت في القرنين السابع عشر والثامن عشر بمنزلة موسيقى عالمية، فإنه لم يكن في أوربة أي تعصب قومي ضدها. وقد انتشرت الأغنية الشعبية كذلك وأصبحت ذات أهمية كبيرة في موسيقى الإبداعيين مثل فيبر ومندلسون وشومان وبرامز، كما اعتمد شوبان الطابع القومي البولوني في ألحانه، مع أنه عاش زهاء عقدين من الزمان في باريس، ولم تتأثر موسيقاه بالطابع الفرنسي الذي كان عالمياً آنذاك. وفي بداية العصر الإبداعي، استأثرت ألمانية بالزعامة الموسيقية الآلية في أوربة، وعندما اتخذت كل دولة أوربية كياناً مستقلاً لها، ظهرت سمات قومية موسيقية خاصة في كل منها، وكانت إنكلترة آخر من اندفع متأثراً بالقومية الموسيقية، أما أمريكة، فلم يكن لديها أية موسيقى قومية أصيلة.
 
    وقد بلغ فن الغناء في الحركة الإبداعية المثل الأعلى في وحدة التكامل بين النص والموسيقى على الرغم من اختلاف آراء بعض الكتّاب والمفكرين. وكان شوبرت أول الأعلام في عالم أغنية الليد lied [ر. الأغنية]. وكانت الأوبرا الألمانية قد خطت أولى خطواتها مع موتسارت وبتهوفن ثم مع هوفمان، ولكنها ترسخت مع فيبر في أوبراه «القنّاص» (عام 1821) التي عُدّت الأوبرا الأولى في الحركة الإبداعية الألمانية.
 
    وابتدعت الأوبرا الإبداعية ما يسمى بالمشاهد الموسيقية الدرامية، فنقلت مهمة التعبير إلى الأوركسترا وازدادت أهمية الجانب السمفوني وتقلص دور الغناء فيها. ويبدو ذلك واضحاً في أعمال فاغنر الدرامية الموسيقية. إلا أن الأوبرا الإيطالية تشبثت بضرورة هيمنة الجانب الغنائي فيها ولو أنها مزجت في كثير من الأحيان بين المصاحبة السمفونية والخطوط الغنائية كما في بعض أعمال فيردي الأخيرة.
 
    وعلى أية حال، فقد أثرت الإبداعية في نظرة الموسيقيين إلى الأوبرا، وغدا لها مؤلفون مختصون، الأمر الذي لم يكن قائماً في العصر الاتباعي، إذ كان من المفترض أن يكون نتاج المؤلف الموسيقي آنذاك متنوعاً من موسيقى آلية وأوبرالية ودينية وغيرها. ومع الإبداعية بدا أن الاختصاص الموسيقي في التأليف للصيغ والأشكال الموسيقية أصبح مألوفاً وإن تطرق إلى صيغ أخرى مختلفة. فكان تشايكوفسكي[ر] Tchaikowsky مبدعاً في الباليه[ر] ballet، ولم يغامر فاغنر وفيردي في عالم السمفونية و«الحوارية»[ر] و(الكونشرتو) concerto ووقف شوبان نفسه للبيانو، ولم يخاطر برامز بالغوص في عالم الأوبرا.
 
    وكانت الأوبريت operette [ر. الأوبرا] من نتاج الحركة الإبداعية أيضاً. وقد اتصفت بالخفة والمرح والسخرية من المجتمع التقليدي, وأصبح أوفنباخ[ر] Offenbach خير مبدع في هذا النوع الفني الذي أراد الحفاظ فيه على الأساليب الفرنسية القديمة الطروب.
حسني الحريري
*د يحيى
29 - أكتوبر - 2010
المقامات    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
http://www.youtube.com/watch?v=XPHJN607oZo
*د يحيى
29 - أكتوبر - 2010