ميلودراما من فصل واحد أما العنقاء يا بني، فقد كانت من الطيور التي خلقها الله على أجمل صورة وجعل ريشها من جميع الألوان. وكانت في زمن أصحاب الرس، تأتي الى أطفالهم وصغارهم فتخطفهم وتغرب بهم نحو الجبل فتأكلهم. فشكوا ذلك الى نبيهم صالح عليه السلام، فدعا الله عليها فأهلكها وقطع عقبها ونسلها. وأما سؤالك عن الغول فقد قصر عنه علمي، وضاقت معرفتي في الكشف عن كنهه وحقيقته، وفوق كل ذي علم عليم. ثم أشار بيده الى قصر عظيم البنيان لم تقع عيني على مثله روعة وجمالا. عليه قبة رخامية صغيرة كخوذة مقاتل قديم، تخرج من فوّهتها شعلة من اللهب المتصاعد، واختفى الشيخ! وجدتُ نفسي عند باب القصر، كأن الريح حملتني إليه بسرعة البرق. طرقتُ الباب. لم أنتظر طويلا، فقد خرج إليّ رجل لم أتبيّن ملامحه جيّدا إلا أنه كان في ملابس النوم! وفي عينيه أثر النعاس. شعرتُ بحرج شديد. لكنني تذكرتُ الناس خلفي، والوقت يمضي. وقبل أن أتكلم بادرني بلهجة غاضبة: ما حاجتك؟ اضطربتُ هذه المرة، لكن الناس على أثري ولا وقت للتردد قلتُ: يا سيدي أضرعتني إليك الحاجة، ما حقيقة الغول! - إنصرف راشدا عافاك الله! - سيدي لستُ مخبولا، والناس ورائي يموج بعضهم في بعض يطلبون خبرالغول. - ورب الشاة والإبل ما أنت إلا ممسوس، ولولا أننا في عالم لا يحتمل الشر والعدوان لبطشتُ بك في هذه الليلة المنحوسة. - تلطّف بي يا سيدي، فأنا رجل طوى في سفره إليك العصور والأزمنة البعيدة، وليس في الوقت متسع كي أبدأ الحكاية من أولّها. - هل أنت زائر جديد؟ لكنك لم تخلع ثيابك بعد! - لا ياسيدي أنا من أهل الدنيا، لعلك تسمع مثلي تلك الأصوات البعيدة، إنهم يهرعون باتجاهنا والوقتُ لا يتسع لمزيد من الشرح التفصيل. فقد فتنتَ الناس بقولك: أيقتنلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال - والذي تعبد لم أفهم شيئا مما تقول، وقد أقلقتني وذهبت بنومي، وذكّرتني بترّهات الشعراء. هذا مسلك الأعمى، لكن بإسلوب سمج. لابأس، فهذا ضوء الصبح يمنعني من العودة الى السرير. - أنا في غاية الحرج. قرأتُ عن حبك للنساء وشغفك بالتنقل بين أحضان الجوار الحسان. - هذا أول الغيث. وماذا بعد في أوراقك الصفراء. - ما ترك الأول للآخر شيئا يا أمير الشعراء. ما أرانا نقول إلا معارا ومعادا من قولنا مكرورا - لا تكن منشدا في جوقة المهرجين. كم ترك الأول للآخر! هكذا يستقيم الكلام. هذه قافلة طويلة وأنا الآن في آخر الركب من نهاية العربة. لولا ذلك لكنتَ اليوم تقدح بالحجر طلبا للنار، ومسكنك الكهف ومركبك الحمير والبعارين. - يبدو أنك على دراية واسعة بما يحدث على الأرض؟ - بل نحن أعلم منكم بذلك. قبل أشهر مضت، حلّ بيننا ضيف يقول أنّه من أبناء القبيلة على هيئة درويش، يتكلّم بطريقة لم أفهم منها الكثير. حدثني طويلا عن القضية وطبيعة الصراع. بصراحة أعجبني كلامه، لكنه في حقيقة الأمر أقلقني كثيرا أيضا. - سألتك بالخريدة الفارعة التي حفظتُها لك وما انتهكتُ عذريّتها يوما لا تستطرد بالحديث، ليس عندنا ما يكفي من الوقت للكلام في مسائل جانبية لا تمس جوهر الموضوع! تركتُ الناس خلفي يموج بعضهم بالبعض الآخر. وهذه أصواتهم كما تسمع ترتفع مطالبة بشهادة منك وتصريح واضح لالبس فيه. لقد فتنت الناس كما أخبرتُك. وأنت المسؤول الآن عن إيجاد حل عادل ومنطقي يرضي جميع الأطراف المتنازعة. - ألم أقل لك لا تكن مهرّجا. هذا لا يليق برجل مثلك يزعم أنّه رائد قومه. إنّك كما أخبرتك آنفا، رجل تقصّ آثار العميان وتفكر بغبار أهل الأرض. بل جهلك مركّب! عن أيّ منطق تتحدّث؟ ألم تسمع يامنطقي بقاعدة: سالبة بانتفاء الموضوع. ومع هذا فالأمر سهل. بإمكانك أن تسأل أرسطو في القصر المجاور! - والبيت العتيق إنّها قضية حقيقية من صميم واقعنا، بل هي قضيتنا الكبرى منذ قرون! انظر الى الجموع الغفيرة الغاضبة المزمجرة، فيها البقال والكناس والنجار والحلاق والتاجر، وعلى رأس هؤلاء مشايخ الدين وأمراء المؤمنين والباحث والأستاذ الجامعي.انظر، و إسمع جيّدا. - والبيت المعمور لم أر شيئا، ولم أسمع! - لعلّ الضغط في أعالي السماء قد أصابك بالصمم، وازّاغ بصرك. - والله الواحد الأحد ما كان الغول( أبو أنياب) غير كلام ماجن يعربد في لحظة سكر! - لا أدري من أيّ الكذبتين أضحك، قسمك بالله وأنت الجاهلي عابد الوثن، أم من قولك: كلام ماجن. إتّق الله يا رجل، ولا تضحك على ذقون المشايخ! الجموع الغفيرة خلفي...... - يظهر أنك مصرّ على ما أنت عليه من العناد والجهل المركّب. لم تقرأ التاريخ جيّدا. ولم يخبرك محدّث ثقة بأني أول من كسر صنمه وبال على وجهه! - غضبا لنفسك وحرقة على أبيك الذي ما زلت إلى الآن تئنّ من عقدة الفشل في الأخذ بثأره، لا غضبا لله الواحد الأحد. - وهذه أخرى تكشف عورتك، وتفضح جهلك وما تزعمه من معرفة الأدب! لقد علمت العرب ألا كفء لحجر في دم، وإني لن أعتاض به جملا أو ناقة فاكتسب بذلك سبة الابد وفت العضد. لقد شفيتُ غليلي من قتلة أبي، ثأرا لم تعرفه الأمم السابقة ولا اللاحقة. ولقد شربتُ بقحف سيّدهم خمرا معتّقا وجعلتهم أمثولة في فم الزمان: قولا لدودان عبيد العصــا ماغرّكـم بالاسد الباســل يا أيها السـائـل عـن شأننـا ليس الذي يعلم كالجاهـل حلّت لي الخمروكنتُ امرأ عن شربها في شغل شاغل - الأصوات الغاضبة وصهيل الخيول، والجموع الغفيرة يتقدمها الباب العالي يحيط به الحراس والجنود، في صوت رجل واحد: الغول الغول. أللهم عليك بالغول وأتباع الغول وأنصار الغول، أللهم بدد شملهم، أللهم اجمع شملهم! اللهم فرّق جماعتهم، أللهم وحّد قلوبهم! أللهم اقطع نسلهم، أللهم اجعلهم عدد النجوم والحصى!! فجأة توقفت الأصوات، وتداخلت الشخوص، واستحالت الوجوه مرايا متعاكسة. صار الملك الضلّيل غولا، والجميع بين فكّيه أنيابا زرقاء. |