جلال الصمت و .. جماله من وحي المأساة العراقية في الوثائق السرية الأمريكية "حين لا يتسع المقام للكلام، أو يجل الحال عن المقال؛ يكون الصمت أجل وأجمل". هذا ما تمثل في ذاكرتي ليلة البارحة وأنا أتابع على قناة (الجزيرة) برنامجاً حول الوثائق الأمريكية السرية التي أُفرج عنها أخيراً، وبالتقسيط كما هي عادتهم، عن الفضائح والفظائع التي ارتكبوها بحق العراقيين، ومن جملتها إدارة نوري المالكي رئيس الوزراء لفرق اعتقالات بإشراف مباشر منه، ودور إيران الفعال في احتضان ورعاية فرق الموت. ليس من السهل أن يكتب المرء عن مأساته قبل أن يشفى منها. ولكن.. كيف؟ ومتى؟! وهكذا أظل أعاني وأنزف كلما اضطررت للكتابة أو الحديث عن مأساتنا المتنوعة الأشكال والألوان والروائح والطعوم و........ الطعون! ولما كان الحال أجل من كل ما يقال، وكل ما يكتب وينشر عنه، أجدني كثيراً ما ألجأ إلى الصمت تعبيراً عن الرفض والألم والمرارة.. والسحق الداخلي إلى حد الانفجار والتشظي غير المعلن وفي كل اتجاه! وأتذكر الشيخ عبد الحليم بسماية، ذلك الجزائري الذي لم يجد - بعد أن طال ليل الاحتلال الفرنسي لبلاده عشرات السنين دون بارقة من أمل - غير الصمت العميق يلجأ إليه تعبيراً عن كل ما يريد أن يفعل أو يقول! كنت متوزعاً وممزقاً ليلة أمس، وشريط مأساتي يعرض أمام نواظري، بين أن أقول وبين أن لا أقول! ثم.. وجدت حلاً وسطاً، ومن الجزائر أيضاً بلد الفظائع والفضائح الاستعمارية المريعة، والتضحيات الوطنية الباهظة، التي لم يجد بعد التحرير من دفع ثمنها كأفراد إلا التشرد أو التخفي أو التسكع والضياع، دعك من المعتقلات والسجون والإعدامات! كل ذلك بتهمة "حب الوطن"، كما هو شأن أحرار العراق اليوم الذين قاوموا المحتل، لا يمكن أن يتجرأ أحدهم ليعلن عن شرفه الباذخ دون أن يسارع للكتابة عنه إلى الجهات المعنية متبرع لوجه "الوطن الغالي": إرهابي خذوه! هذا وسيأتي زمن ليس منكم ببعيد، يفتخر فيه كل متخاذل ومخذل وخوان أنه – هو لا غيره – الذي فجر صاعق المقاومة، ولولاه لما تحرر العراق العظيم! في رواية جزائرية وجدت الحل الوسط.. في معرض للرسم في باريس يقف (الراوي) يتأمل في لوحة لم يفهمها! لوحة "تمثل شباكاً بحرية محملة بأحذية بمقاييس وأشكال مختلفة تبدو عتيقة ومنتفخة بالماء المتقاطر منها". أخبرته المشرفة على المعرض أن هذه اللوحة رسمت "تخليداً لضحايا مظاهرات 17 أكتوبر 1961 ، خرجوا في باريس في مظاهرة مسالمة مع عائلاتهم للمطالبة برفع حظر التجول المفروض على الجزائريين". مظاهرة مسالمة طبقاً لديمقراطية الأقوياء.. لكن انظروا ماذا كانت النتيجة!!! "ألقى البوليس الفرنسي بالعشرات منهم موثوقي الأطراف في نهر السين. مات الكثير منهم غرقاً، وظلت جثثهم وأحذية بعضهم تطفو على الماء لعدة أيام، لكون معظمهم لا يعرف السباحة" - وبعد...؟! - وبعد؟!!.. "كان البوليس يستوقف الواحد منهم سائلاً (محمد.. أتعرف السباحة؟) وغالباً ما يجيب المسكين (لا) كما لو كان يدفع عنه شبهة. وعندها يكتفي البوليس بدفعه من الجسر نحو (السين). كان السؤال لمجرد توفير جهد شد أطرافه بربطة عنقه"! يقول (الراوي): "حتماً هذا الرسام تعمد رسم ما يتركه الموتى. فالشباك عذابنا لا الجثة. تعمد أن يضعك أمام أحذية أكثر بؤساً من أصحابها، مهملة (..) مثقلة بما علق بها من أوحال الحياة. تلك الأحذية التي تتبلل وتهترئ بفعل الماء، كما تتحلل جثة. إنها سيرة حياة الأشياء التي تروي بأسمالها سيرة حياة أصحابها". ويستمر في استعراض أحاسيسه ومشاعره التي نبعت من بين ركام المشهد: "قضيت السهرة متأملاً في أقدار أحذية الذين رحلوا، هؤلاء الذين انتعلوها بدون أن يدروا أنهم ينتعلون حذاءهم يومها لمشوارهم الأخير. ما توقعوا أن تخونهم أحذيتهم لحظة غرق. طبعاً، ما كانت قوارب نجاة، ولكنهم تمسكوا بها كقارَب. أحذية من زوج وأخرى من واحدة، مشت مسافات لا أحد يعرف وجهتها، ثم لفظت أنفاسها الأخيرة عندما فارقت أقدام أصحابها. كانوا يومها ثلاثين ألف متظاهر (وستين ألف فردة حذاء). سيق منهم اثنا عشر ألفاً إلى المعتقلات والملاعب التي حجزت لإيوائهم. غير أن (السين) الذي عانى دائماً من علة النسيان، ما عاد يعرف بالتحديد من غرق يومها منهم. رحت أتصور ضفاف السين بعد ليلة غرق فيها كل هؤلاء البؤساء، وتركوا أحذيتهم يتسلى المارة باستنطاقها. فهذه عليها آثار جير وأخرى آثار وحل وثالثة... ماذا ترى كان يعمل صاحبها، أدهاناً؟ أم بناءً؟ أم زبالاً؟ أم عاملاً في طوابير الأيدي السمر العاملة على تركيب سيارات (بيجو)؟ فلا مهنة غير هذه كان يمارسها الجزائري آنذاك في فرنسا. أحذية كان لأصحابها آمال بسيطة ذهبت مع الفردة الأخرى. فردة ما عادت حذاءً، إنها ذلك الأمل الخالي من الرجاء، كصَدَفة أفرغت ما في جوفها، مرمية على الشاطئ. ذلك أن المحار لا يصبح أصدافاً فارغة من الحياة، إلا عندما يشطر إلى نصفين، ويتبعثر فرادى على الشاطئ"([1]). هذه الإيحاءات التي تعج بالألم، وتنضح بالمأساة، وتجيش بالحرائق، وتنطق بالرفض، وتعود بالذاكرة لا أدري أإلى الماضي البعيد بكل ما فيه من عذاب؟ أم إلى الحاضر التعيس بكل ما فيه من خسارات، وكأننا ننتقل من احتلال إلى احتلال، وما بينهما شعارات جوفاء كتلك الأصداف التي أفرغت ثم شطرت نصفين لتتكوم على شاطئ مأساتنا. هذه الإيحاءات بكل ما فيها كانت من وقفة لدقائق أمام أحذية في لوحة معلقة على جدار صامت. فماذا عساي أن أقول وأنا أقف منذ سبع سنين ونيف في محراب لوحة مأساتي....؟ بكل ما فيها من حركة وحياة وعنف وضجيج تتتابع صورها سريعة خاطفة مخطوفة أمامي، وأنا في وسط حرائقها ودخانها وصراخها وألمها، وما زالت ضحاياها حتى اللحظة تتساقط من حولي بالمئات والألوف!!! ترى! هل قلت شيئاً؟ أم أنا صامت - كما أردت ووعدت - منذ أن تكلمت وإلى الآن؟ لا أدري! السبت 23/10/2010 [1]- رواية (عابر سرير) للكاتبة الجزائرية الشهيرة أحلام مستغانمي، ص58-61 . منشورات أحلام مستغانمي، بيروت – لبنان ، الطبعة الثالثة ، 2004 |