بين خير البقاع وشرها كن أول من يقيّم
رأي الوراق :
الأربعاء 04/ 08/ 2010
ثالث يوم في إسطنبول، لا تقولوا إنه اليوم السادس فليس كذلك، أنا أعرف العد جيدا وأعرف أمورا أخرى لا تعرفونها، وأعلم تماما كيف فارقنا الفندق صباحا وقد تجاوزت الساعة التاسعة، بعد أن استلمنا خمسين يورو من مسؤول المجموعة الجزائري، متجهين نحو البازار المصري الذي حدثتكم عنه من قبل.
ڤـــونايدن كانت دوما حاضرة، فقد كانت تحيتنا المميزة لإسطنبول الأوربية الجالسة على الضفة الأخرى، وكانت كلمتنا العجيبة التي تدخلنا إلى عوالم خيالية. إسطنبول على الرغم من كونها اليوم محمومة لم تتخلف عن استقبالنا على ضفة البوسفور كعادتها، العرق المتصبب من وجهها لا يزيدها إلا فتنة، وشعرها نصف المغطى مبتل، لابد أنها كانت تسبح قبل وصولنا لتطفئ النار المشتعلة داخلها، قدماها لا تزالان في الماء، أتصور لها زعنفة كزعانف الحوريات، زعنفة زرقاء لامعة.
من على الجسر أشعر بمزيج من الضآلة والنشوة، الزرقة تغزو ذهني والأمواج تتابع بانتظام إلى حدقة عيني، والقوارب أتصور أني أخيط الفتق الذي تفتحه على صفحة المياه، أتصور أن مدينتنا تنظر إليها كما ننظر، لكن بدفء وحنان.
قبل نزولنا من الباص، أعادت إيميت على مسامعنا برنامج اليوم، كانت الصبيحة مخصصة للتسوق في البازار المصري وسوق محمود باشا المجاور له، وكان علينا الالتقاء عند مخرج البازار قبل الساعة الثانية عشرة لزيارة قصر دولمه بهجت الذي مررنا عليه منذ قليل، قالت إن الموعد لا يمكن أن يؤجل كما لا يمكن للباص انتظار المتأخرين، هكذا فإن على المتأخر الانتظار إلى الرابعة والنصف مساء عند المكان المذكور ليمر عليه ليصطحبه.
كنت أعلم تماما ما أريد شراءه ولم أكن بحاجة للتجول طويلا في البازار، بمجرد نزولنا طلبت من رفيقتي لطيفة أن تدلني على محل كانت حدثتني عنه، ولم تمض نصف ساعة حتى فرغت من التسوق، لم أر مانعا من مرافقة لطيفة فقد كان لا يزال لدينا ساعة ونصف من الوقت الحر، تجولنا طويلا في البازار المصري الذي يمثل متاهة بامتياز، لا شيء جذب انتباهي من المعروضات، كل شيء مألوف، وأجمل ما في الأمر أن السقف يقينا أشعة الشمس القوية، صرنا ماهرتين في تجنب الباعة الذين لم نقابل في حياتنا من هو في مثل إزعاجهم، خاصة ممن يتحدثون اللغة العربية ويصرون على إدخالك محلاتهم حتى وإن كنت لا تريد شراء شيء. حين تتجول في البازار عليك أن تتخلى عن لباقتك قليلا وأن لا تلقي بالا للأصوات التي تدعوك من كل اتجاه وتحاول إغراءك برخيص وببلاش، وعليك أيضا أن تتذكر جيدا من أي باب دخلت وهذا ما لم يوصنا أحد بفعله. أكملنا سيرنا إلى أن وصلنا إلى سوق محمود باشا، كنت أشعر بالضجر من السير دون هدف لكن رفيقتي أصرت على التجول قليلا بعد، وهكذا رافقتها إلى أن انتهى بنا المطاف في مكان مجهول، المحلات كلها متشابهة، والصوامع عند خروجك إلى الطريق في كل مكان، أيقنت حينها أننا قد ضعنا لكن زميلتي كانت لا تزال مصرة على كونها تعرف الطريق، حاولت تصديقها، تركت لها توجيه دفتنا، لكنها كانت لا تحاول إلا خداع نفسها، أميل كثيرا لإلقاء اللوم عليها، للحديث عن غرورها وأنانيتها وطيشها متجاهلة كل ما يمكن أن أتصف به أنا أيضا من غرور وطيش وأنانية، أميل لتحميلها ذنب ضلالنا لأنها أضاعت الورقة التي عليها اسم البازار، ولأنها ظلت مصرة على عدم سؤال أحد وعلى كونها تحفظ الطريق الذي سلكنا، وأنسى أنني أتحمل أيضا جزءا كبيرا من المسؤولية، ليس فقط لأني نسيت ورقتي في الباص وإنما لأني تركت لها الحرية كل هذا الوقت لتتسبب بضياعنا، سألومها على كل ما سيلحقني من ألم وحسرة فقط لأرتاح من الشعور بالذنب.
في ذروة الغضب الذي رافق إصرار لطيفة على معرفتها الطريق افترقنا، لم يتبق سوى نصف ساعة على موعدنا، وكان علينا إيجاد الطريق، سألت المارة عن موقع البازار بالإنجليزية فلم يفهمني أحد، سألت أصحاب بعض المحلات أيضا، لا أحد يتكلم غير التركية، ولا أحد بإمكانه مساعدتي. كانت الشمس فوقي تجعلني أشتعل، أشعر بالحمى كإسطنبول الجالسة على الضفة، أشعر بأني ضائعة ووحيدة بعيدا عن أهلي وعن وطني، أحس برغبة شديدة في الصراخ.
بعد دقائق من المحاولات اليائسة التقيت عائلة خليجية، سعدت لأني أسمع العربية مجددا، وسألت إحدى النساء فأخبرتني أن أمشي في طريق مستقيم في اتجاه أشارت إليه، عملت بما قالت لكني انتبهت إلى أني أسير في المكان لأول مرة ومنّ الله علي بأن وجدت بائعا يتحدث اللغة الإنجليزية، سألته المساعدة فأعلمني أني أبعد عن وجهتي مسافة نصف ساعة مشيا وأني بجانب الـ Gran bazaarنظرت إلى ساعتي فعلمت أني لن أصل في الموعد أبدا، وركضت في الاتجاه الذي أشار إليه لأجدني في بازار آخر أذكر أننا مررنا به، عند المدخل وجدت سائحة بريطانية محجبة رفقة ابنتها، أخبرتها أني ضائعة وسألتها إن كانت تعرف المخرج، وسرعان ما جاء زوجها الذي أراني موقعي على الخريطة، لم أستطع حبس دموعي، وأيقنت أني لن أتمكن أبدا من العودة وحدي، رأفت السيدة لحالي وضمتني إليها، ووعدتني بعدم تركي وحيدة، ظل الزوج يقلب الخريطة بين يديه دون جدوى، وقرر أخيرا طلب المساعدة، لم أنتظر مع السيدة طويلا حتى لحقت بي رفيقتي لطيفة، الضحكات المرتسمة على وجهها كانت تشعرني بالغباء وبالمزيد من الاستياء، وكانت تقنعني بإيقاع كل اللوم عليها. عاد الزوج ومعه صائغ تركي في الخمسينيات من العمر سألني أن أعطيه بطاقة معلوماتي التي كان عليها أرقام الهواتف، كما استعلم مني عن اسم القائد وما أعطانا من تعليمات، شعرت بالراحة أخيرا، وانتظرت السيد الذي اتصل بالفندق وبالدليل التركي وبأحد مسؤولي المجموعات جزائري، تحدثنا إلى هذا الأخير فقال إن آخر الباصات ستنطلق على الثانية عشرة والنصف وإنه لا يستطيع إعانتنا بشيء، وما علينا إلا إيجاد الطريق بأنفسنا وانتظار الحافلة إلى غاية المساء، لن أستطيع التعليق على هذا مهما حاولت، لهذا سأترك لكم إن شئتم أن تعلقوا بدلا مني سطرين...
حين سمعت السيدة البريطانية وزوجها ما حدث معنا عرضا علينا البقاء برفقتنا حتى الرابعة مساء، شكرتهما كثيرا محاولة وقف دموعي التي لم ترد أن تجف وأخبرتهما أننا بخير وأن بإمكانهما تركنا، وودعناهما لنبقى قليلا مع الصائغ الذي عرض علينا إيصالنا إلى الميتروباص لعلنا نصل قبل مغادرة آخر الحافلات التي كانت تفصلنا عنها عشر دقائق، خشينا أن نتيه هذه المرة ونصل إلى منطقة أخرى وفضلنا أن لا نغامر بركوب الميترو، وجلسنا في المحل إلى أن ارتحنا قليلا ثم طلبنا من السيد أن يرسم لنا الطريق على ورقة وأن يكتب لنا كلا من اسم البازار المصري وسوق محمود باشا باللغة التركية، لم يقصر الرجل معنا أبدا ورسم لنا طريقنا وشرحه لنا باللغة الإنجليزية ثم بالفرنسية لما علم أننا نتكلمها، وودعنا بعد أن أعطانا بطاقته، وشكرناه كثيرا على مساعدته الثمينة.
مشينا في الطريق الذي أرشدنا إليه السيد Garbis مستعينتين برسمه إلى أن وصلنا أخيرا إلى مقصدنا، لم نجد لا حافلة ولا شخصا نعرفه، وجلسنا على مقاعد بجانب مجسم للفن الحديث عليه عون أمن ننتظر المساء، طلبت مني لطيفة أن أقرأ لها شيئا من القرآن نستعين به على غربتنا، الشمس فوقنا كانت حارقة وما كدت أتلو ثمنين من سورة البقرة حتى شعرت برأسي يكاد ينفجر. انتبهت إلى المسجد المقابل، المسجد الجديد (جامع يني) الذي توجهنا إليه لنصلي الظهر جماعة ولنمضي ما تبقى من الوقت.
قبل إقامة الصلاة تلا أحدهم المعوذتين وسورة الإخلاص إن لم تخني ذاكرتي تلاوة حسنة وأذكارا لا أذكرها، ثم قال: سورة الفاتحة، وسمعنا تكبيرة الإحرام من دون إقامة!؟ وبعد أن قضيت الصلاة سمعنا نفس الصوت يسبح الله تعالى بصيغة جميلة ثم يختم بـ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى المـُرْسَلِينَ وَالحَمْدِ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) (الآية)، لا أدري إن كان هذا الإمام أم المؤذن فأنا لأول مرة أسمع شيئا مشابها، ولا أدري إن كان هذا يحصل عند كل صلاة.
مر الوقت في الجامع بسرعة، فقد تعرفنا على سيدة مغربية رفقة ابنتها التي تكبرني بعام من كازابلانكا الدار البيضاء، وعلى سيدة بريطانية لطيفة رفقة عائلتها، والتقينا أخيرا بعائلة جزائرية معنا في الرحلة استأنسنا برفقتهم جميعا. كان قد بقي ساعة من الوقت حين قررت لطيفة تركي لتعود إلى البازار بعد أن ملت الجلوس، لم أرافقها هذه المرة، الجلوس في بيت الله يشعرني براحة أكبر، كما أني لا أحب الأسواق ولم أعد أطيق المشي فيها بعد ما حصل. عندما أذكر ذلك الشعور بالضياع أفكر في اللحظات التي نعيشها في حياتنا بعيدا عن الله وبعيدا عن الحق، أفكر أن ضياعنا هذا لا شيء مقارنة بذلك الضلال ومع هذا يفعل فينا ما يفعل، وأدعو الله أن يهدينا إلى ما يحب ويرضى، وأن يهدينا الصراط المستقيم.
في ساحة الجامع رأيت إسطنبول أخرى لم أعرفها من قبل، إسطنبول يتقاطر منها ماء الوضوء لتتقاطر معه سيئاتها، مدينة لا تفرغ مساجدها ولا يتوقف مرتادوها عن ذكر الله.
بعد عودة الباص على الخامسة مساء وبضع دقائق توجهنا إلى الفندق لنرتاح، حدثتني بعض الفتيات عن القصر الذي تخلفت عن زيارته، منهن من قالت إنه كان رائعا، ومنهن من أبدت انزعاجا من فخامته المبالغ فيها، شكت فتاة أخرى من الحرارة بالداخل، ولما سألتها إن لم يكن هنالك مكيفات التفت إلينا أحد الفتية وقال إنها كانت موجودة، كان الأغلبية مجمعين على جمال القصر، وكنت أميل لتصديق أنه ليس كذلك لأعزي نفسي بأنه لم يفتني شيء مهم.
في المساء خرجنا مع قائدنا إلى مركز تجاري بجوار الفندق، لن أحدثكم عنه الآن، ويكفيني من هذا اليوم أني رأيت إسطنبول في غير رداء فتنتها مؤمنة قانتة، مطمئنة باسمة لا تكاد تظهر عليها آثار الحمى.
|