البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الجغرافية و الرحلات

 موضوع النقاش : من المدية إلى إسطنبول    قيّم
التقييم :
( من قبل 7 أعضاء )

رأي الوراق :

 لمياء 
15 - أغسطس - 2010
 
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،
 
من هذا المجلس شاء الله أن أعود إليكم أساتذتي بعد غياب طويل، لأبارك لكم مرة أخرى قدوم شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم والأمة الإسلامية بألف خير، وتقبل صيامكم وقيامكم وصالح أعمالكم، ولأشكر أيضا كل من سأل عني أو ذكرني، وتحية خاصة إلى أستاذنا أمير البيان زهير ظاظا الذي أهديه ملفي هذا، وإلى أستاذتي ضياء خانم سيدة المجالس، دكتورنا الشيخ يحيى الذي لم تنقطع تحياته لنا، شيخنا ياسين، أستاذنا أحمد عزو وأستاذنا هشام، الأستاذ عبد الحفيظ والأستاذ زين الدين، سفيرة السلام الأستاذة خولة،  الأستاذ عمر خلوف، الأستاذ عبد الرؤوف النويهي، الأستاذ صالح السعدي، الأستاذ محمد جميل والأستاذ جميل، ولكل سراة الوراق أساتذتنا الأفاضل الذين نسينا ذكرهم.
 
أما بعد،
 
 فقد أبى ملفي هذا إلا أن يكون عربون المحبة التي رسخت في قلبي لإسطنبول، المدينة الفاتنة، الساحرة بجمالها ودفئها وطيبة أهلها، المدينة الحلم، العصفور الطليق، السمكة السابحة في بحر مرمرة، الرغوة تتسرب من بين أناملك حين تظن أنك أمسكت بها، كل شيء يعجز المرء عن الإمساك به أو التخلص من ذكراه، كل شيء حين تظن أنك لم تر منها شيئا، الكل والجزء معا، الروح والجسد، المدينة التي تستعصي على الوصف ...
هكذا، لا  أطيل عليكم لأترككم مع حكايتي مع إسطنبول في الرحلة التي لم أحلم بها يوما، الهدية الثمينة من رئيس الجمهورية مع رفقة طيبة من الطلبة المتفوقين في شهادة البكالوريا، الرحلة التي لا أظنها تتكرر يوما، والحلم الذي انتهى سريعا ولم يخرج عن عادة الأحلام الجميلة...
 
من المدية سلام عليكم وعلى تراب إسطنبول.
 
المدية في 15 أوت 2010
 
 1  2  3 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
تشكردريم    كن أول من يقيّم
 
أسعد الله أوقاتكم،
شكرا لكم أستاذ تركي مروركم بملفنا المتواضع، عسى الله أن يوفقنا لنكون عند حسن ظنكم، وشكـرا مجددا لكم أستاذي زهير على ما تتحفوننا به من درر، أكرمكم الله وبارك لنا فيكم وفي علمكم.
وصوما خفيفا متقبلا إن شاء الله وإلى اللقاء.
*لمياء
27 - أغسطس - 2010
بين خير البقاع وشرها    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
الأربعاء 04/ 08/ 2010 
 
ثالث يوم في إسطنبول، لا تقولوا إنه اليوم السادس فليس كذلك، أنا أعرف العد جيدا وأعرف أمورا أخرى لا تعرفونها، وأعلم تماما كيف فارقنا الفندق صباحا وقد تجاوزت الساعة التاسعة، بعد أن استلمنا خمسين يورو من مسؤول المجموعة الجزائري، متجهين نحو البازار المصري الذي حدثتكم عنه من قبل.
ڤـــونايدن كانت دوما حاضرة، فقد كانت تحيتنا المميزة لإسطنبول الأوربية الجالسة على الضفة الأخرى، وكانت كلمتنا العجيبة التي تدخلنا إلى عوالم خيالية. إسطنبول على الرغم من كونها اليوم محمومة لم تتخلف عن استقبالنا على ضفة البوسفور كعادتها، العرق المتصبب من وجهها لا يزيدها إلا فتنة، وشعرها نصف المغطى مبتل، لابد أنها كانت تسبح قبل وصولنا لتطفئ النار المشتعلة داخلها، قدماها لا تزالان في الماء، أتصور لها زعنفة كزعانف الحوريات، زعنفة زرقاء لامعة.
من على الجسر أشعر بمزيج من الضآلة والنشوة، الزرقة تغزو ذهني والأمواج تتابع بانتظام إلى حدقة عيني، والقوارب أتصور أني أخيط الفتق الذي تفتحه على صفحة المياه، أتصور أن مدينتنا تنظر إليها كما ننظر، لكن بدفء وحنان.
قبل نزولنا من الباص، أعادت إيميت على مسامعنا برنامج اليوم، كانت الصبيحة مخصصة للتسوق في البازار المصري وسوق محمود باشا المجاور له، وكان علينا الالتقاء عند مخرج البازار قبل الساعة الثانية عشرة لزيارة قصر دولمه بهجت الذي مررنا عليه منذ قليل، قالت إن الموعد لا يمكن أن يؤجل كما لا يمكن للباص انتظار المتأخرين، هكذا فإن على المتأخر الانتظار إلى الرابعة والنصف مساء عند المكان المذكور ليمر عليه ليصطحبه.
كنت أعلم تماما ما أريد شراءه ولم أكن بحاجة للتجول طويلا في البازار، بمجرد نزولنا طلبت من رفيقتي لطيفة أن تدلني على محل كانت حدثتني عنه، ولم تمض نصف ساعة حتى فرغت من التسوق، لم أر مانعا من مرافقة لطيفة فقد كان لا يزال لدينا ساعة ونصف من الوقت الحر، تجولنا طويلا في البازار المصري الذي يمثل متاهة بامتياز، لا شيء جذب انتباهي من المعروضات، كل شيء مألوف، وأجمل ما في الأمر أن السقف يقينا أشعة الشمس القوية، صرنا ماهرتين في تجنب الباعة الذين لم نقابل في حياتنا من هو في مثل إزعاجهم، خاصة ممن يتحدثون اللغة العربية ويصرون على إدخالك محلاتهم حتى وإن كنت لا تريد شراء شيء. حين تتجول في البازار عليك أن تتخلى عن لباقتك قليلا وأن لا تلقي بالا للأصوات التي تدعوك من كل اتجاه وتحاول إغراءك برخيص وببلاش، وعليك أيضا أن تتذكر جيدا من أي باب دخلت وهذا ما لم يوصنا أحد بفعله. أكملنا سيرنا إلى أن وصلنا إلى سوق محمود باشا، كنت أشعر بالضجر من السير دون هدف لكن رفيقتي أصرت على التجول قليلا بعد، وهكذا رافقتها إلى أن انتهى بنا المطاف في مكان مجهول، المحلات كلها متشابهة، والصوامع عند خروجك إلى الطريق في كل مكان، أيقنت حينها أننا قد ضعنا لكن زميلتي كانت لا تزال مصرة على كونها تعرف الطريق، حاولت تصديقها، تركت لها توجيه دفتنا، لكنها كانت لا تحاول إلا خداع نفسها، أميل كثيرا لإلقاء اللوم عليها، للحديث عن غرورها وأنانيتها وطيشها متجاهلة كل ما يمكن أن أتصف به أنا أيضا من  غرور وطيش وأنانية، أميل لتحميلها ذنب ضلالنا لأنها أضاعت الورقة التي عليها اسم البازار، ولأنها ظلت مصرة على عدم سؤال أحد وعلى كونها تحفظ الطريق الذي سلكنا، وأنسى أنني أتحمل أيضا جزءا كبيرا من المسؤولية، ليس فقط لأني نسيت ورقتي في الباص وإنما لأني تركت لها الحرية كل هذا الوقت لتتسبب بضياعنا، سألومها على كل ما سيلحقني من ألم وحسرة فقط لأرتاح من الشعور بالذنب.
في ذروة الغضب الذي رافق إصرار لطيفة على معرفتها الطريق افترقنا، لم يتبق سوى نصف ساعة على موعدنا، وكان علينا إيجاد الطريق، سألت المارة عن موقع البازار بالإنجليزية فلم يفهمني أحد، سألت أصحاب بعض المحلات أيضا، لا أحد يتكلم غير  التركية، ولا أحد بإمكانه مساعدتي. كانت الشمس فوقي تجعلني أشتعل، أشعر بالحمى كإسطنبول الجالسة على الضفة، أشعر بأني ضائعة ووحيدة بعيدا عن أهلي وعن وطني، أحس برغبة شديدة في الصراخ.
بعد دقائق من المحاولات اليائسة التقيت عائلة خليجية، سعدت لأني أسمع العربية مجددا، وسألت إحدى النساء فأخبرتني أن أمشي في طريق مستقيم في اتجاه أشارت إليه، عملت بما قالت لكني انتبهت إلى أني أسير في المكان لأول مرة ومنّ الله علي بأن وجدت بائعا يتحدث اللغة الإنجليزية، سألته المساعدة فأعلمني أني أبعد عن وجهتي مسافة نصف ساعة مشيا وأني بجانب الـ Gran bazaarنظرت إلى ساعتي فعلمت أني لن أصل في الموعد أبدا، وركضت في الاتجاه الذي أشار إليه لأجدني في بازار آخر أذكر أننا مررنا به، عند المدخل وجدت سائحة بريطانية محجبة رفقة ابنتها، أخبرتها أني ضائعة وسألتها إن كانت تعرف المخرج، وسرعان ما جاء زوجها الذي أراني موقعي على الخريطة، لم أستطع حبس دموعي، وأيقنت أني لن أتمكن أبدا من العودة وحدي، رأفت السيدة لحالي وضمتني إليها، ووعدتني بعدم تركي وحيدة، ظل الزوج يقلب الخريطة بين يديه دون جدوى، وقرر أخيرا طلب المساعدة، لم أنتظر مع السيدة طويلا حتى لحقت بي رفيقتي لطيفة، الضحكات المرتسمة على وجهها كانت تشعرني بالغباء وبالمزيد من الاستياء، وكانت تقنعني بإيقاع كل اللوم عليها. عاد الزوج ومعه صائغ تركي في الخمسينيات من العمر سألني أن أعطيه بطاقة معلوماتي التي كان عليها أرقام الهواتف، كما استعلم مني عن اسم القائد وما  أعطانا من تعليمات، شعرت بالراحة أخيرا، وانتظرت السيد الذي اتصل بالفندق وبالدليل التركي وبأحد مسؤولي المجموعات جزائري، تحدثنا إلى هذا الأخير فقال إن آخر الباصات ستنطلق على الثانية عشرة والنصف وإنه لا يستطيع إعانتنا بشيء، وما علينا إلا إيجاد الطريق بأنفسنا وانتظار الحافلة إلى غاية المساء، لن أستطيع التعليق على هذا مهما حاولت، لهذا سأترك لكم إن شئتم أن تعلقوا بدلا مني سطرين...
 
 
حين سمعت السيدة البريطانية وزوجها ما حدث معنا عرضا علينا البقاء برفقتنا حتى الرابعة مساء، شكرتهما كثيرا محاولة وقف دموعي التي لم ترد أن تجف وأخبرتهما أننا بخير وأن بإمكانهما تركنا، وودعناهما لنبقى قليلا مع الصائغ الذي عرض علينا إيصالنا إلى الميتروباص لعلنا نصل قبل مغادرة آخر الحافلات التي كانت تفصلنا عنها عشر دقائق، خشينا أن نتيه هذه المرة ونصل إلى منطقة أخرى وفضلنا أن لا نغامر بركوب الميترو، وجلسنا في المحل إلى أن ارتحنا قليلا ثم طلبنا من السيد أن يرسم لنا الطريق على ورقة وأن يكتب لنا كلا من اسم البازار المصري وسوق محمود باشا باللغة التركية، لم يقصر الرجل معنا أبدا ورسم لنا طريقنا وشرحه لنا باللغة الإنجليزية ثم بالفرنسية لما علم أننا نتكلمها، وودعنا بعد أن أعطانا بطاقته، وشكرناه كثيرا على مساعدته الثمينة.
مشينا في الطريق الذي أرشدنا إليه السيد Garbis مستعينتين برسمه إلى أن وصلنا أخيرا إلى مقصدنا، لم نجد لا حافلة ولا شخصا نعرفه، وجلسنا على مقاعد بجانب مجسم للفن الحديث عليه عون أمن ننتظر المساء، طلبت مني لطيفة أن أقرأ لها شيئا من القرآن نستعين به على غربتنا، الشمس فوقنا كانت حارقة وما كدت أتلو ثمنين من سورة البقرة حتى شعرت برأسي يكاد ينفجر. انتبهت إلى المسجد المقابل، المسجد الجديد (جامع يني) الذي توجهنا إليه لنصلي الظهر جماعة ولنمضي ما تبقى من الوقت.
قبل إقامة الصلاة تلا أحدهم المعوذتين وسورة الإخلاص إن لم تخني ذاكرتي تلاوة حسنة وأذكارا لا أذكرها، ثم قال: سورة الفاتحة، وسمعنا تكبيرة الإحرام من دون إقامة!؟ وبعد أن قضيت الصلاة سمعنا نفس الصوت يسبح الله تعالى بصيغة جميلة ثم يختم بـ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى المـُرْسَلِينَ وَالحَمْدِ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) (الآية)، لا أدري إن كان هذا الإمام أم المؤذن فأنا لأول مرة أسمع شيئا مشابها، ولا أدري إن كان هذا يحصل عند كل صلاة.
مر الوقت في الجامع بسرعة، فقد تعرفنا على سيدة مغربية رفقة ابنتها التي تكبرني بعام من كازابلانكا الدار البيضاء، وعلى سيدة بريطانية لطيفة رفقة عائلتها، والتقينا أخيرا بعائلة جزائرية معنا في الرحلة استأنسنا برفقتهم جميعا. كان قد بقي ساعة من الوقت حين قررت لطيفة تركي لتعود إلى البازار بعد أن ملت الجلوس، لم أرافقها هذه المرة، الجلوس في بيت الله يشعرني براحة أكبر، كما أني لا أحب الأسواق ولم أعد أطيق المشي فيها بعد ما حصل. عندما أذكر ذلك الشعور بالضياع أفكر في اللحظات التي نعيشها في حياتنا بعيدا عن الله وبعيدا عن الحق، أفكر أن ضياعنا هذا لا شيء مقارنة بذلك الضلال ومع هذا يفعل فينا ما يفعل، وأدعو الله أن يهدينا إلى ما يحب ويرضى، وأن يهدينا الصراط المستقيم.
في ساحة الجامع رأيت إسطنبول أخرى لم أعرفها من قبل، إسطنبول يتقاطر منها ماء الوضوء لتتقاطر معه سيئاتها، مدينة لا تفرغ مساجدها ولا يتوقف مرتادوها عن ذكر الله.
بعد عودة الباص على الخامسة مساء وبضع دقائق توجهنا إلى الفندق لنرتاح، حدثتني بعض الفتيات عن القصر الذي تخلفت عن زيارته، منهن من قالت إنه كان رائعا، ومنهن من أبدت انزعاجا من فخامته المبالغ فيها، شكت فتاة أخرى من الحرارة بالداخل، ولما سألتها إن لم يكن هنالك مكيفات التفت إلينا أحد الفتية وقال إنها كانت موجودة، كان الأغلبية مجمعين على جمال القصر، وكنت أميل لتصديق أنه ليس كذلك لأعزي نفسي بأنه لم يفتني شيء مهم.
في المساء خرجنا مع قائدنا إلى مركز تجاري بجوار الفندق، لن أحدثكم عنه الآن، ويكفيني من هذا اليوم أني رأيت إسطنبول في غير رداء فتنتها مؤمنة قانتة، مطمئنة باسمة لا تكاد تظهر عليها آثار الحمى.
 
*لمياء
27 - أغسطس - 2010
في تل العرائس ...    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
الخميس 05/08/2010 
 
في الباص الذي لم أحدثكم عنه من قبل أجلس مع إحدى رفيقاتي، أربعون طالبا فيه من مناطق مختلفة من وطننا الشاسع، من الجزائر العاصمة، سكيكدة في أقصى الشرق، سيدي بلعباس في أقصى الغرب و المدية في الوسط، أربعون ليس فيهم إلا عشرة من الذكور، أربعون إخوة يؤطرهم القائد كمال رفقة أساتذة معه ومرشدة تركية اسمها إيميت (أمل)،،، فوج واحد، فوج ليس ككل الأفواج.
في طريقنا إلى تل العرائس يجمعنا حديث لا ينتهي، مواضيع شتى، لهجات مختلفة مجتمعة في لسان الجزائر، وضحك وسرور لا ينقطع، أغبط نفسي على هذه اللحظات بقدر ما أخشى الإدمان عليها والتعلق المفرط بها، أحتفظ بها في ذاكرتي وفي قلبي، وأحتفظ بصورة رفاقنا وقد ارتسمت على وجوههم ضحكات إسطنبول الفتية، إسطنبول النضرة التي لم يستطع الزمن أن ينقص شيئا من ألقها، إسطنبول في أعين جيل يخطو أولى خطواته في الحياة.
السماء لا تزال تغشيها الغمامات الحمراء، والأرض الحجرية لا أستطيع تصديق كون المطر ما يبللها، لا شك في أنها أمطرت في الصباح الباكر قبل استيقاظنا، ولولا أن الحرارة لم تشتد بعد لكانت الأرض جفت تماما. من على التل تتجلى إسطنبول مرة واحدة، تتجلى في صورة كلية ساحرة، عروسا يزفها إلينا موكب الأمواج، جوهرة بل زهرة قوية الأريج... لا عجب أن يحتار فيك الجميع يا إسطنبول، فلولا ريشك رأيته لجزمت أنك حورية، تتمثل كل يوم في صورة مختلفة عند خروجها من الماء.
اللون الأخضر حولنا يشعرني بالانصهار في روح المكان، يشعرني بأنني الورقة تتدحرج عليها قطرات الندى، بأنني الأزهار الحمراء مجتمعة لترسم علم تركيا على بساط الأعشاب، وبأني نسمة طليقة ألثم كل برعم، كل جذع، وكل نسمة من نسمات الهواء... حين أتيت إلى تركيا لم أكن أعلم أني سأغرم باللون الأخضر والأزرق معا، ولم أكن أعلم أنهما لغة الحياة حين تتكلم، اليوم في جولتنا التي أتمنى أن لا تنتهي، أحمد الله أني لم أتخلف عن موعدي معها، ومع إسطنبول التي تشرب من نبعها الذي لا ينضب ماؤه.
كان أول ما فعلناه قبل افتراقنا في مدخل التل أخذ صورة جماعية، بعدها سرنا مجموعات بين الحدائق، نلتقط الصور تارة ونتأمل روعة المناظر أخرى إلى أن وصلنا إلى مكان ثبتت فيه أدوات رياضية، لم ننصرف حتى عرفنا وظيفة كل أداة و جربناها، وحتى شعرنا بأشعة الشمس التي ألقت عنها ثوب الغمام حارقة، لنجد أنفسنا بالجوار من ألعاب الأطفال. فوقنا كان الفتية جالسين على الحشيش، مع هذا لم نهتم أنا وإيمان رفيقتي إن كانوا سيسخرون منا ورحنا نجرب الأراجيح الصغيرة، وسرعان ما لحقت بنا فتيات من فوجنا ومن أفواج أخرى. إسطنبول كانت أمامنا في مشهد لا يمكن وصفه، وليس يفصلنا عنها إلا المياه التي تبدو إلى الأسفل هادئة، يخيل إلي أنها أم تنام إلى جوار صغيرها، على فراش من المياه تنام، قريرة العين، نوقظها بتحيتنا المعتادة، بصوت أعلى لعله يصلها، ڤــونــايدن إسطنبــول.
لم نترك مكانا في التل لم تطأه أقدامنا، مشينا في كل الممرات صعودا وهبوطا، وألقينا السلام على كل زهرة وكل شجرة وكل نبتة حية، لم نضع ولا دقيقة في المقاهي أو المطاعم مع هذا لم يكن الوقت كافيا وتمنينا لو أن الزمن يتوقف لنبقى وقتا أطول، الزمن مع ذلك لم يتوقف، كان أنانيا أو لعله كان يؤدي عمله فقط ولم يتوقف، ونحن مع استمتاعنا غادرنا التل، وودعناه لنركب القارب ومياه مرمرة إلى جزر الأميرات.
جزر الأميرات كما تقول إيميت هي الجزر التي كن يقضين فيها العطل، وكما يقول أحد المؤطرين الجزر التي كن ينفين إليها، أما بالنسبة لنا فهي الجزر التي لن نزور منها إلا جزيرة واحدة (نطْلَعْ فِيها على جولة بالـحَنطور)، لم نتساءل عن (الحنطور) طويلا حتى أضافت أنه ما نسميه في الجزائر (الكَالِيش)، بترقيق كل الحروف على خلاف نطق إيميت المضحك للكلمة بالتفخيم، ولمن لا يعرف اللفظين فهي العربة التي يجرها حصانان، والتي وقفنا في انتظار دورنا لركوبها  لكثرة عددنا ساعة كاملة. عند صعودنا إلى العربة كان أول ما لاحظناه الرائحة المنبعثة من الخيول، أسوء رائحة شممناها في كل الرحلة بحيث يصعب علي المرور عليها دون ذكرها، خاصة حين أذكر تعليقات لطيفة عنها وأميرة التي كانت الوحيدة التي تشكو من لسعات الذباب؟!
كانت جولتنا سريعة ورائعة، استمتعنا فيها بمشاهدة المناظر الطبيعية الخلابة بعيدا عن التلوث وأدخنة السيارات التي يمنع قيادتها في الجزيرة، إلا ما كان منها حكوميا كسيارة الإسعاف والإطفاء، وبالهندسة المعمارية الأوربية التي تميزها البيوت الخشبية الجميلة، إلى أن وصلنا أخيرا إلى مطعم ميلانو المطل على البحر لنتناول الغداء رفقة النوارس، وما كدنا ننتهي حتى أسرعنا لنلحق بمركبنا الذي ينطلق على الرابعة والنصف مساء ولا ينتظر أحدا كما أخبرتنا إيميت مرات عديدة.
في طريق عودتنا رافقنا رذاذ المطر إلى أن ركبنا الباص متجهين نحو الفندق، لم أكن متعبة فشرعت بتوضيب أغراضي لنغادر في اليوم الموالي، وسهرت مساء في غرفة بشرى التبسية (نسبة إلى ولاية التبسة) التي تعرفت عليها منذ يومين، نتلو القرآن حتى الساعة الواحدة والربع ليلا، هنا أستسمحكم عذرا لأتوقف عن الكتابة، ولأعود إليكم مجددا لأعطي لليلتنا الأخيرة في via port حقها، إلى لقاء قريب، تحياتي...
*لمياء
31 - أغسطس - 2010
في وداع الـvia port ....    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
ليلة الخميس 05/08/2010  
 
تمنيت لو أن بإمكاني التوقف عند هذا القدر من الكتابة ونسيان كل ما عشناه معا في إسطنبول، تمنيت لو يفارق طيفها خيالي لأرتاح منها قليلا، لكن الوقت بات متأخرا كثيرا للتراجع. تحاصرني الذكرى من كل مكان، بالرغم من احتراسي وحذري، هاهي تطبق علي فكيها كما تفعل في كل مرة، لتمنعني من نسيان كون هذه آخر ليلة لنا في via port معا، آخر ليلة نسهر فيها إلى أن يأمرنا المؤطرون بالصعود إلى غرفنا وقد قاربت الساعة منتصف الليل، آخر ليلة لأنظر في وجه كل طالب أملي الكبير وخيالي الذي رسم لكل شخص حكاية...
بعد تناول العشاء جلست في الصالة مع بعض رفيقاتي، كنا اتفقنا على قراءة القرآن معا لكن الكثيرات تخلفن عن الموعد وخرجن إلى المركز التجاري المجاور للفندق. يجعلني هوسهن بالتسوق في حيرة من أمري، فلا شيء مما وجدنا في الأسواق تقريبا لا يوجد عندنا في الجزائر وبأسعار أقل أيضا، ولو كان الأمر بيدي لما زرت في كل الرحلة السوق إلا مرة وحيدة لاقتناء بعض التذكارات.
كنا ننتظر المتأخرات لما بدأ جمع من الطلاب يغنون ويهتفون بحياة الرئيس أمام عدسة المصور الذي رافقنا، ألحانهم كانت تصر على تذكيري بالعد التنازلي الذي صار قلبي ينبض على إيقاعه، يومان وليلة غير هذه في فندق آخر ثم السلام على إسطنبول وعلى أيامنا الجميلة فيها، وساعات قليلة لن تكون كافية لأشبع من via port ولأشفى منه تماما ومن كل وجه و شبح وكل شخص سأدخله حكايتي من دون إذنه فقط لأن الذكرى لم تستشرني حين قررتْ أن تجعله جزءا من إسطنبول التي أحب.
بعد ساعتين من الانتظار قررت الصعود إلى غرفتي لأنام، الصخب في الأسفل كان يجعل مخططنا مستحيلا، كما لم يكن بإمكاننا الشروع في التلاوة دون بشرى هدية تْبَسَّة التي لن أنساها ما حييت. حين لقيتها لأول مرة لم أكن أعلم إلى أي مدى سأصير متعلقة بصالة الفندق التي لم أجلس فيها إلا بعد مرور يومين من وصولنا، ولم أكن أظن أبدا أني سأتخلى عن هدوء غرفتي وعن قلمي ودفتري لأكون قطعة من لوحة الفسيفساء التي نصنعها. بشرى فعلت كل هذا بلمسة سحرية من كلامها الحلو ولهجتها التي جعلتني أظنها تونسية، فعلت هذا وأكثر بقصصها الطريفة وروحها الشفافة وشخصيتها الفريدة، وجعلتني  أترك هدوئي وجديتي لأمزح وأضحك في أغلب الأوقات.
لم أجلس في غرفتي طويلا حتى سمعت جرس الباب، لا داعي لأخبركم أنها بشرى التي جعلتني أعود على الرغم من النعاس الذي يثقل جفني لنتلو القرآن في الشرفة، لم تجلس معنا إلا فتاتان بعد انسحاب البقية، ولم أكد أفرغ من القراءة حتى جاء أحد المسؤولين يطلب منا العودة إلى غرفنا، صعدت مع رفيقتي إلى غرفتها للمرة الثانية لنسهر مع كلام الله تعالى، وهكذا لم أتركها إلا والساعة الواحدة والربع ليلا، ولا يزال لدينا من المواضيع التي نتمنى طرقها الكثير. شعرت بأني سندريلا تتسلل ليلا لتركب المصعد مع أني لم أكن من فقد حذاءه مسرعا بل صاحبتي التي أوصلتني إليه، ودخلت بهدوء إلى الغرفة لأجد التلفاز مشتعلا وأسماء نائمة كحمل وديع، قاومت التعب قليلا لأكتب لكم بعض الكلمات، كتبت أن المرء إما أن يكون نفسه وإما أن يكون لا شيء، أنه لا يعرف ذاته إلا من خلال المحيطين به، ولا يعرفها تمام المعرفة أحيانا إلا حين يبتعد عن كل من يعرف وكل ما يعرف، وكتبت أن الإنسان حين يتعود رؤية الشيء كثيرا يصير لا يراه ولا يرى قيمته، العادة عدوة الإنسان، ولذلك كان عليه عيش كل تجربة كأنه يعيشها لأول مرة، ولذلك كنت سعيدة لأني أجدد علاقتي بالأشياء من حولي وأشعر أني أكتشفها لأول مرة.
لن أطيل عليكم كثيرا، إلى يوم آخر، سلاما من الـvia port  ، وسلاما على تراب إسطنبول.
 
*لمياء
31 - أغسطس - 2010
آه ما أصعب وداعك ...    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
الجمعة 06/08/2010 
 
حين يقترب موعد الفراق، يصير كل شيء في عينك مختلفا، وديعا، ومألوفا حتى لتشعر بارتباط لا تفسير له به، بتعلق بكل من حولك وما حولك، بالمكان الذي يحتويك، وبكل ما عشته من لحظات، الحلو منها والمر على حد سواء. هكذا فتحت عيني هذا اليوم على غرفة مليئة بالحب والألفة، على أشعة الشمس لأراها تلثم لآخر مرة اللوحات الخمسة المعلقة على الحائط، على يميني لوحة الياسمين الأبيض وقد عكست كل الأشعة الآتية من النافذة المقابلة، تحييني بابتسامة عريضة، وتذكرني بياسمينتي التي تركتها في البيت، أسماء لا تزال في سريرها يساري، لا أدري إن كانت تقاسمني ما أشعر به، أتخيلها زهرة قرنفل حمراء، هكذا قررت أن أراها في هذا اليوم.
ربما يحسن بي أن أحدثكم عن السلالم أيضا، لا يمكنني القول إني وجدتها كما لا يمكن أن أقول إني لم أفعل، كانت تلك سلالم النجدة، لم أدر حين نزلت فيها أين المخرج، نزلت إلى طابق أو طابقين تحت الأرض، وصلت إلى باب نصف مقفل، من مكاني كنت أسمع بوضوح أصوات العمال ورنين أدواتهم المعدنية، خشيت أن يراني أحدهم، وعدت أدراجي لأستقل المصعد. بعد تناول فطور الصباح وتسليم مفاتيح الغرف اجتمعنا في صالة الفندق، أشعرني هذا الفراق المصغر باقتراب وداع إسطنبول، مع هذا تناسيت كل شيء، وتأملت مرة أخرى الـvia port متسائلة إن كان سيشتاق إلينا مثلما سنفعل. في الحافلة تبادلنا عناوين البريد وأرقام الهواتف، كل شيء كان يوحي إلى  أننا سنفترق، وكل شيء كان يوحي أيضا إلى أننا صرنا عائلة واحدة.
 وصلنا إلى متحف توب كابي، القصر المقابل لأيا صوفيا، والساعة حوالي الحادية عشرة صباحا، حدثتنا إيميت عن تاريخ بنائه وعن هندسته غير المتكلفة مقارنة بهندسة قصر ضلمة بهجت الفاخر، فالسلاطين العثمانيون لم يكونوا بحاجة إلى إظهار شأنهم من خلال الترف والزخارف في فترة قوتهم، على عكس الرجل المريض الذي كان بأمس الحاجة لإظهار قوته الضائعة للشعب وللعدو من خلال العمران والمقتنيات الثمينة، وحدثتنا كذلك عن أبواب القصر وعن أقسامه ووظائفها المختلفة، إلى أن دخلنا أخيرا من الباب الرئيسي لتقابلنا حدائق القصر المطلة على بحر مرمرة يمينا. كان أول ما اطلعنا عليه قسم الأمانات المقدسة، بعد تجاوز باب السعادة، وقفنا عندها في حيرة، بين تصديق نسبتها إلى أصحابها وعدم ذلك، وبين محاولة التصوير وأخذ الحيطة من عون الأمن المراقب، ثم خرجنا لنجد أنفسنا في قاعة يجلس فيها قارئ القرآن الذي تملأ تلاوته المكان، كنت أظن أن خللا بالتسجيل هو ما يمنعني من فهم ما يقوله لكني حين وقفت بين يديه أيقنت أني لا أفهم فعلا شيئا مما يقول، إلا بعض الكلمات التي جعلتني أجزم أنه يقرأ بالعربية، أما سوى ذلك فلم أكن لأعرفه لولا الشاشة التي بجانبه، وقد كتبت عليها ترجمة ما يقرأ من آيات إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، مشيرة إلى أنه يتلو سورة يوسف، وأما صوته فكان حسنا وكانت صيغته جميلة، مما جعلني أرتاب إن كنت لا أعرف لغتي أم أنه هو الذي لا يقرأ بها. اتجهنا بعد ذلك إلى قسم المجوهرات والسيوف ثم ألبسة السلاطين العثمانيين التي لفت انتباهنا حجمها الكبير جدا، والذي يبدو من خلاله أن حجم العثمانيين ضعف حجمنا تقريبا، ثم جلسنا في حديقة القصر قليلا إلى أن اجتمعنا كلنا واتجهنا نحو جامع السلطان أحمد لأداء صلاة الجمعة. حين دخلت المسجد كان ممتلئا عن آخره، صعدت الأدراج إلى الطابق الأعلى الذي كان هو الآخر ممتلئا وبالكاد وجدت مكانا لأصلي، جلست أستمع الخطبة التركية التي لم أفهم منها إلا آيات الصيام والأدعية بالعربية، ثم قمنا نصلي، لم يرتج الجامع إثر تكبير المصلين كما اعتاد أن يفعل، وكان الإمام الوحيد الذي سمعنا تكبيره!
بعد صلاة الجمعة تناولنا الغداء في مطعم لا أذكر اسمه، ثم اتجهنا إلى السوق الكبير gran bazaar الذي سبق وأن تهت فيه، كنا قد استلمنا صباحا آخر مصروف لنا، ثلاثين يورو، وكانت لا تزال لدي بعض الليرات التي أردت التخلص منها قبل مغادرتنا، لم أتأخر كثيرا في البازار، اشتريت ما أنا بحاجة إليه وخرجت لأجد إيميت تدخن بجوار الباب السابع; باب بايزيد، كان موعد مغادرتنا بعد ساعة كاملة فآثرت العودة إلى الباص الذي أرشدتني إلى مكانه، بعد زمن لحقني بعض رفقتنا، كان الوقت لا يزال مبكرا، اتجهنا إلى مسجد مجاور جلسنا في حديقة عند مدخله، إلى أن حان موعد الإنطلاق واكتشفنا ضياع أحد الفتيان، انتظرنا عودته ساعة أخرى لم تترك إيميت فيها الهاتف للحظة، حتى علمت مكانه من رجل شرطة كان قد ترك رسالة في الفندق وذهبت لإحضاره. حين ذهبنا إلى الفندق الجديد كان الليل قد أسدل ستائره، كنا موزعين على ثلاثة فنادق، via port, titanicو mariott، تعشينا كلنا في التيتانيك ثم تركنا رفاقنا لنحل ضيوفا على فندق ماريوط، الإرهاق كان قد نال مني تماما، ولم أكد أستحم حتى استسلمت للنعاس.
لا أدري كيف صار ذكر إسطنبول في حلقي غصة، يخنقني كلما اقترب موعد الفراق، أتصور أن طعمه سيكون شيئا لم أتذوق مرارته من قبل، ربما حامضا أيضا، وربما لن أستطيع وصفه لكم أبدا، سأترككم اليوم إلى يوم آخر أتمنى أن لا يأتي أو أن لا ينقضي أبدا، إلى حين اللقاء، سلامي....
 
*لمياء
4 - سبتمبر - 2010
آخر جولة ....    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
السبت 07/08/2010  
 
سلمنا مفاتيح الغرف على الساعة العاشرة صباحا، وجلسنا في انتظار الباص في صالة مريوط التي لم تتسع لنا ولحقائبنا، بعد فترة قصيرة جاء أحد عمال الاستقبال يطلب منا إخراجها وتخفيض أصواتنا، خرجنا مع الحقائب وجلسنا في الحديقة أمام الفندق، كنت مع قائدنا الجزائري كمال وزوجه وبعض رفاقنا من حفظة القرآن، تلونا بعض الآيات من كتاب الله الكريم منبهين إلى أحكام التجويد ومخارج الحروف حينا، ومتناقشين حول إعراب كلمة أو سبب كتابتها بهذا الشكل في الرسم العثماني آخر، ولم نشعر بمرور الوقت حتى وصل الباص الذي كان متأخرا على غير عادته بسبب مشكل طارئ في التنسيق مع رفاقنا الذين بقوا في الفيا بورت، الساعة كانت الثانية زوالا، فتوجهنا إلى فندق التيتانيك لنصطحب بقية الأصحاب ونتغدى سوية هناك، وهكذا لم نبدأ جولتنا إلا والساعة الثالثة مساءً.
تأملت معالم الطريق لآخر مرة، النباتات التي نسقت على جانبيه بنظام بديع، لتصور العلم التركي في كل شبر، ولترسم لوحات لونية جميلة، أعمدة الكهرباء والمصابيح أيضا وعليها طوق من الأزهار، فكرت في أن هذا المشهد وحده يستحق أن تكتب عنه صفحات كاملة، مشيدة بالرقي الثقافي وعناية الدولة من خلال ما يعكسه من نظافة ونظام، حتى لتحسب نفسك في بلد أوربي حقا. لا داعي لأذكر هنا أحوال الطرق عندنا في بلادنا لأنها في هذه الحالة لم تعد تسمى طرقا، ولا حاجة للقول أن شعبنا يحتاج إلى الكثير من التربية، وإن كنت لا أغفل هنا كوننا في مدينة سياحية بالدرجة الأولى، ولكن ما حال السياحة عندنا أيضا؟
البوسفور كان كما عودنا، غير أن سحره كان هذه المرة مختلفا، ربما لأننا لم نعتد رؤيته في هذا الوقت من النهار، أو ربما لأنها آخر مرة نمتع أعيننا بمنظره، كان شارباه مفتولان وكتفاه عريضان، ووسام التاريخ على صدره يلمع في افتخار، لكنه في نفس الوقت كان رقيقا، يخفي وراء ابتسامته شيئا في قلبه من الفراق، هكذا رأيته، لأني تمنيت لو يحمل عني هذا الفراق الرهيب الذي بدأت أدخنته تخرج من صدري بعد أن حبستها زمنا لأخنق بها العبرات. تركت مقعدي واقتربت من النافذة لأترك له ابتسامة أخيرة، وقبلة وداع وإبرة، ليخيط ما تتركه عليه القوارب من جراح، ثم عدت إلى مكاني محاولة إخفاء دموعي.
حين وصلنا إلى "تقسيم" تركت الجماعة وتسوقهم وقصدت جامع مراد باشا القريب لأداء صلاة الظهر، كلمة آبتيست كانت كافية ليدلني رجل تركي عجوز على مكان الوضوء، فالمساجد التي مررنا بها في كل رحلتنا -ما عدى جامع السلطان أحمد- لا تحتوي مكانا مخصصا لوضوء النساء، وهكذا نضطر في كل مرة إلى دخول الحمامات العمومية بمقابل لنتوضأ.
في المصلى كانت امرأة تركية وحيدة في مقتبل العمر تصلي، أتمنى فقط لو أعلم سر حفاوة ترحيبها بي حين علمت أني من الجزائر وكذلك هو شأن كل الأتراك الذين قابلناهم، سر هذه المحبة الكبيرة التي يكنونها لنا والتي تجعلني فضولية لأعلم ما يعرفونه عن وطني وشعبي، وفي نفس الوقت معجبة بمشاعر المودة التي يكنونها للمسلمين عامة، والتي تجعلنا نفهم بعضنا دون حاجة لمعرفة كلمة من حديثهم.
حين عدت إلى المجموعة، كان الوقت الحر قد انقضى فركبنا الباص لنتجه نحو شارع الاستقلال أين كان لا يزال بانتظارنا المزيد من التسوق، نزلنا ليكون أول ما يقابلنا نصب تذكاري للرئيس مصطفى كمال أتاتورك الذي أعفتنا إيميت من الحديث عن إنجازاته هذه المرة لضيق الوقت. تبعنا إيميت التي راحت تمشي بسرعة وهي تخبرنا عن الأماكن التي نشاهدها في الشارع بعد أن طلبت منا الحذر والانتباه لأغراضنا بسبب الازدحام، تجاوزنا فندق مرمرة ومحلات الزهور لندخل الشارع الذي تتوسطه سكتا ميترو، مررنا بالمحلات التجارية والمطاعم والمقاهي والمكتبات التي  على جانبي الشارع بسرعة وبثانوية لا أذكر اسمها، لنتفاجأ بحشد من المتظاهرين المنادين بسقوط حزب العدالة والتنمية ورئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان.  أخبرتنا إيميت أن المظاهرات بسبب استفتاء سيقام في الثاني عشر من سبتمبر لتعديل الدستور،  وأن الشعب ساخط لأن أردوغان يريد لنفسه ولحزبه السلطة المطلقة، وأضافت إن أردوغان ليس الشخصية التي كسبت تقديرنا بتأييد القضية الفلسطينية ولكن هو أيضا الشخص الذي باع  مؤسسات الدولة للخواص ولا يزال يعقد الصفقات مع الجانب الإسرائيلي. أبدى قائدنا شكوكه حول ما أخبرتنا به مرشدتنا بسبب الميول التي تظهرها للعلمانية وتقديرها لشخص أتاتورك، وتابعنا سيرنا لنصل إلى مكان التسوق بعد مرورنا بفرقة موسيقية غجرية وقد التف حولها جمع من الناس بجوار أحد المطاعم، هناك أعطتنا إيميت نصف ساعة من الوقت الحر وعادت هي إلى مكان التجمع المتفق عليه. فضلت أنا وبعض الفتيات الرجوع معها، ليس خوفا من الضياع فقط ولكن لأننا لم نجد ما يجذب اهتمامنا في السوق، وطلبنا منها ترجمة ما كتب باللغة التركية على المطويات التي كان يوزعها المتظاهرون. في أحدها رسم كاريكاتوري يصور رمز العدالة المرأة المعصوبة العينين حاملة بيدها اليمنى سيفا وباليسرى الميزان، وبجوارها أردوغان وهو يضع لها في شرابها منوما ويقول أنا صاحبك، وصور أخرى ساخرة وتعليقات سياسية وشعارات ضد الحزب.
 أخبرْنا إيميت عما نعرفه عن الحكومة التركية وحدثناها عن الأوضاع السياسية عندنا وعن مظاهراتنا السلمية كيف تتحول إلى (حُڤْرَة) وقمع ونحن نرى أعوان الأمن واقفين بجوار المتظاهرين من غير محاولة إسكاتهم أو تفريقهم، إلى أن مررنا بكنيسة حسبناها من بعيد مسجدا بسبب قبتها وسألناها إن كان بإمكاننا دخولها، طلبت منا إيميت الانتظار قليلا وهي تدخن سيجارتها الرقيقة، ثم قالت لنا بعد أن استنكرت إحدى رفيقاتنا طلبنا إنها مسلمة وإنها تدخل أحيانا إلى الكنيسة وتقرأ الفاتحة. وقفنا تتأمل اللوحة المرسومة فوق الباب وفيها قد وقفت مريم العذراء باسطة كفيها وعند قدميها رجلان، أحدهما يحمل زنبقة والآخر مطرقة، ثم دخلنا بعد أن طلبت منا مرشدتنا التزام الصمت ونحن نعلق على لافتة تشير إلى منع ارتداء قبعة، متجاهلات الأنظار التي وجهت نحونا فور دخولنا بسبب الحجاب الذي نرتديه.
 الإضاءة في الداخل كانت خافتة والشموع متفرقة في أنحاء المكان، جعلتني الشموع الكثيرة المشتعلة يمينا أتجه إليها مباشرة لأتأمل ما بجانبها من لوحات وتماثيل. في الزاوية عند المدخل مكان لبيع كتب الدين، ثم ثقوب مستطيلة في الحائط بعرض أربعين سنتمترا تقريبا وطول ثمانين وسمك عشرين، وقد وضعت فيها شموع بيضاء طويلة مثبتة على حصى صغيرة وقد غمر أسفلها الماء، ثم تمثال راهب يحمل المسيح الرضيع بين يديه، ولوحة في الجدار المقابل بجوار مصطبة ومنبر، وقد جلس فيها المسيح عليه السلام مع اثنين من أصحابه على مائدة الطعام، إضافة إلى لوحات أخرى للعذراء وعيسى عليه السلام. اختفت إيميت لحظة لتعود ومعها كتاب صغير وشمعة أشعلتها ووضعتها وهي تقرأ الفاتحة، ثم قالت لنا: (ادعين الله إن شئتن، النصارى يتجهون في دعائهم إلى النور، والنور هو واحد وهو الله)، ذكرني قولها بأن الله نور السماوات والأرض، مع هذا لم أستطع أن أفعل مثلها، واتجهت مع رفيقاتي إلى الباب أين نبهنا عون أمن أن نلتزم الصمت ونحن مغادرات بسبب استفسار رفيقتي عن شيء. فكرت في أني دخلت ضريحا لأول مرة في إسطنبول ودعوت الله وحده، فما يضيرني أن أدعو الله وأنا أدخل كنسية لأول مرة أيضا في حياتي، هممت بالدعاء لما شاهدت تمثال المسيح مصلوبا أمامي، شعرت بالاشمئزاز، وسرت رعشة في كل جسدي، استدرت إلى المخرج لكي لا أرى الصليب، ودعوت الله أن يهدي عباده إلى سواء السبيل.
بعد خروجنا تمشينا مع إيميت إلى أن وصلنا إلى مدخل الشارع مقابل نصب أتاتورك، تحدثنا مع رفاقنا حول مواضيع شتى ووصفنا لبقية أصحابنا الكنيسة التي زرناها، وروينا النكت والتقطنا الصور مع مرشدتنا ومظلتها المميزة، ثم غادرنا بعد أن قضينا لحظات لا تنسى لنكتشف مكان آخر سهرة لنا.
لا تنتظروا مني أن أخبركم الآن عن سهرتنا الأخيرة في إسطنبول ولا عما همسته آخر مرة في أذني، فأنا لن أخبركم الآن في أي صورة رأيتها، لن أخبركم عن صوتها الذي سمعتها، ولن أخبركم كم دمعة ذرفت حين تركتها... سيكون عليكم الانتظار لأني لست مستعدة بعد للمغادرة، لا تستعجلوا إتمام الحكاية، لأني أشك أن تكون لها نهاية أبدا...
 
*لمياء
12 - سبتمبر - 2010
شكرا لك    كن أول من يقيّم
 
شكرا لك ايتها الاخت الكريمة  على وصفك الجميل  لهذه الرحله الرائعه
لقد قرأت  ما كتبتينه هنا  ولم اجدني الا وانا اسير معك خطوة بخطوه واشعر وكما لو كنت انا من ذهب.
لك مودتي
صفي الدين
13 - سبتمبر - 2010
شكرا لكم جميعا    كن أول من يقيّم
 
 
شكرا للأخ صفي الدين وشكرا لكل من تفضل بقراءة كلماتي على بساطتها، أتمنى أن تنال رضاكم، وأترككم مع الفصل الأخير من الرحلة، إلى حين اللقاء، سلامي إلى الجميع وامتناني. 
 
*لمياء
14 - سبتمبر - 2010
من إسطنبول إلى المدية ...هدية للأستاذ عبد الحفيظ والأخت ندى...    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
 
مساء السبت-الأحد 07-08/08/2010  
 
غادرنا شارع الاستقلال ولما تغرب الشمس بعد وتوجهنا إلى مكان سهرتنا التركية الأخيرة، حين وصلنا كان الظلام قد غطى كل شيء تقريبا، كل شيء إلا عينيها البارقتين اللتين ظلتا ترقباننا... نزلنا لنكتشف أول مطعم تغدينا فيه في إسطنبول، المطعم الذي فاتني حفظ اسمه، وكل ما أعلم عنه الآن هو كونه مطعما ومقهى وبارا في نفس الوقت...
صعدنا السلالم إلى مكان مخصص للسهرات الموسيقية، جلست مع بعض رفيقاتنا بالقرب من المنصة، ورحنا نسترجع ما حدث في يومنا هذا إلى أن وضع الطعام ودخل العازفون. كان بطني يؤلمني بفعل القلق الذي لا أعلم سببه، وهكذالم أستطع أكل شيء ولم يدخل جوفي غير الماء ولقيمات معدودة بعد أخذ الدواء، تأملت العازفين وهم يداعبون آلاتهم ببراعة، ضارب الطبل بجانبنا تجلس بجواره مغنية تضرب على الدف وقد وقف إلى يمينها عازف قانون تكاد تحسبه واسيني الأعرج لشدة الشبه بينهما، ثم عازف آلة نفخية بالقرب من عازف الكمان، وفي الكواليس، كان يجلس تقني الصوت، الشاب الوحيد في الفرقة.
كنت أحدث صاحبتي لما لمحت خيالا أسود بارقا يمر بسرعة في الكواليس، أطلت النظر لعلي أستبين حقيقة الأمر لكني لم أستطع إلا معرفة كونها امرأة، نظرت إلى زوجة القائد التي كانت جالسة معنا وأخبرتها ما رأيت، صمتت للحظة ثم جالت ببصرها في المكان وعادت إلي لتقول مترددة: أتظنين أنها .....؟ قلت: نعم. قالت: هذا ما كان ينقصنا!  
بقيت أنظر إلى تقني الصوت والرجل الذي كان يحدثه ويطلب منه نقل تعليمات للعازفين، أرقب أي شيء من شأنه أن يبدد شكوكي، أفكر في ما سأفعله إن كان ما أظن صحيحا، إلى أن قطعت رفيقتي أفكاري وأعادتني إلى طاولة العشاء، لم نكن نفهم شيئا من الغناء التركي ولا نتفاعل معه مطلقا، وتمنينا لو تتوقف الموسيقى لنصنع سهرتنا الأخيرة كما نشاء... بعد وضع التحلية تفاجأنا بدخول مغنية تركية شقراء في ثوب أسود طويل ضيق، غادرت القاعة فور دخولها ولم أعد إلا بعد مرور حوالي نصف ساعة لأجدها لم يبق فيها إلا بعض الطلبة لا أعرفهم، كان أصحابنا قد اجتمعوا خارج المطعم، استفسرت عن السبب فأخبرتني رفيقتي أن مغنية أخرى انضمت إلى صاحبتها بلباس أسوء من الأول، وقالت وهي تخفي ابتسامة ماكرة: أتعلمين ماذا قال لنا العمال؟ قلت: لا. قالت: كانوا سيدخلون راقصة. لم أتعجب من ذلك كثيرا وأخبرتها بما رأيت فأضافت: كان هذا قبل دخول المغنية الأولى، قالوا إنهم سيدخلون راقصة، لم نسكت على ذلك طبعا، قال لهم المسؤول الذي كان معنا أننا لا نريدها...وماذا قالوا؟ ...تعجبوا من طلبنا وقالوا إننا مسلمون متعصبون حين قلنا أن ديننا يرفض شيئا مماثلا، قالوا إنهم أيضا مسلمون ولا يجدون في ذلك حرجا...ثم استبدلوا الراقصة بالمغنية التي رأيت أو ربما كانت هي نفسها.... حمدت الله أني لم أحضر شيئا من هذا، وبقيت مع بعض رفاقنا نتحدث إلى أن ركبنا الباص لنتوجه نحو مطار مصطفى كمال أتاتورك والساعة الحادية عشرة ليلا.
كل شيء بالنسبة إلي انتهى، لا شيء كان بإمكانه أن يجمعنا لنعيش هذه اللحظات السعيدة مجددا، كنت أعلم هذا جيدا، كل شخص سيذهب في سبيله، سيكون الهاتف والشبكة العنكبوتية كذبة جميلة لندعي أننا لا نزال عائلة لا يفرق شملها، الجميع سيرحلون، كإسطنبول التي رحلت قبل أن أودعها، لم أستطع رؤيتها في الظلام حين تركتني، عيناها فقط كانتا حاضرتين، تختفيان وتظهران حين أيأس من عودتهما، تختفيان وتظهران، إسطنبول انسحبت بلا مقدمات، صمتت فجأة ولم أعد أسمع صوتها، تركتني وحيدة أنادي عليها ليرتد إلي صدى صوتي، تركتني أتخيل ثوبها الأسود، أتخيلها ترفل في ذيولها، أتخيلها تعود إلى مرمرة، تبتعد لتغوص في الماء أكثر فأكثر، شال مسدل على كتفيها، شعرها تتلاعب به نسائم عليلة، لم تلتفت أبدا، لم تتراجع، لم تفكر في التراجع، لم تفكر في وداعي، وتركتني وحيدة كما جئت إليها وحيدة.
المصابيح كانت ترسم مدينة أخرى غير التي أعرف، مدينة لا تختلف في نظري عن أي مدينة كبيرة لا تنام محلاتها، مطاعمها ومقاهيها، مدينة غريبة عني. تركتنا إيميت بعد أن أحببناها وألفناها ونحن نهتف باسمها، تركنا بيلات سائق الباص في المطار ليكون آخر ما يجمعنا هتاف باسمه ممتزج بصوت بوق الحافلة، وجلسنا ننتظر موعد إقلاعنا بعد تسجيل حقائبنا ومرورنا بمراقة الجوازات. كان الإرهاق والفراق قد نالا من الجميع، وكان علينا الانتظار حتى الساعة الثالثة وعشرين دقيقة لنغادر تراب تركيا في جو كئيب هادئ.
لم أذرف دمعة واحدة، تماسكت ولم ألتفت للوراء لأول مرة في حياتي، استسلمت للوداع، فارقت الكثيرين ممن أعرف دون كلمة أخيرة، وركبت الطائرة التي أعادتني إلى وطني، ركبت الليل البهيم وغفوت قليلا لأجدني بعد تناول فطور الصباح في مطار هواري بو مدين والساعة الخامسة إلا دقائق صباحا.
لم يكن والدي قد وصل بعد لاصطحابي، ودعت بعض رفاقنا وأنا بالكاد أستطيع حبس دموعي، ودعت قائدنا كمال وزوجه، وعدت إلى قاعة الانتظار متعجبة من كوني لا أزال مستيقظة ولم أنم إلا ساعة أو ربما أقل في الطائرة، بعد مجيء والدي مر كل شيء بسرعة كما لو أني لم أفارق المدية مطلقا، وصلت إلى البيت على التاسعة صباحا لأجد إخوتي لا يزالون نياما وأمي مستعدة للذهاب إلى العمل، شعرت بخيبة أمل كبيرة وأنا أرى حيّنا، البيوت الفوضوية، الشارع الذي يملؤه ألف حفرة وحفرة، وفهمت أن علي التعود هذه المرة على فراق إسطنبول.
أمضيت النهار كله نائمة، نمت من الساعة العاشرة صباحا حتى أيقظتني والدتي وقت صلاة العصر، ثم من العاشرة مساء حتى العاشرة من الصباح الموالي، ثم أمضيت الظهيرة أيضا نائمة، ولم أتناول أول وجبة لي إلا مساء اليوم الثاني من عودتي إلى البيت، كانت إسطنبول تأبى مفارقتي للحظة، أحييها ڤونايدن في كل صباح، أنظر من النافذة لعلي أرها، أستعيد صوتها الدافئ، أتذكر أوقاتنا الغالية فيها مع رفاقنا، أحاول نسيانها وترفض هي ذلك، أزورها في كل ليلة، وأستيقظ لأعلم أنه كان حلما جميلا، حلما كما كانت أيامي الحلوة فيها.
هكذا، لم أجد لحكاية حبها نهاية، وهكذا لم أستطع أن أضع في نهاية السطر نقطة لأودعها...
 
*لمياء
14 - سبتمبر - 2010
الفصل الأخير ....هدية لأستاذتي الغالية ضياء    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
أتساءل أحيانا إن كانت إسطنبول ما يشغل بالي حقا، إن كانت هي ما يملك قلبي وجوارحي، إن كنت حقا مفتونة بها، أو أنها ليست إلا مسرحا للذكريات التي لم أشف منها وعنوانا لكل ما أحببت ومن أحببت في رحلتي. أتساءل إن كانت فعلا بذلك السحر الذي أتصور أنها تملك، ما يهمس في قلبي كل صباح ليجعلني صبية حالمة، صبية تفتح عينيها لترى كل شيء كما لو أنها تراه لأول مرة...
 
أتصور إسطنبول من دون إيميت، من دون صوتها القوي، لهجتها الحلوة، والسيجارة التي تدخنها في انتظار عودتنا. أتصورها من غير كمال قائدنا وهو ينادي: فوج أربعة ... فوج أربعة...من دون بيلات سائق الباص الذي اصطلح الفتية على تسميته مهنّد، كمهند المسلسل الذي لم أتابعه يوما، إسطنبول لم تعرف رفاقنا، نكتهم، طرائفهم، شخصياتهم المختلفة. لم تعرف بقية الطلاب الذين لم أحتك بهم يوما، وأولئك الذين كتب لنا القدر أن نعيش ذكرى عابرة معا، والذين كنت أراهم وأتخيل لهم قصصا من حيث لا يرونني ولا يشعرون بوجودي. هل كانت إسطنبول ستكون بهذه الفتنة لو لم أرها بعيونهم؟ وهل كنت سأراها لولاهم؟
 
لابد أن كثيرين ممن عرفت نسوني الآن، بيلات، هل تراه يذكر أني سألته يوما إن كان يتحدث الإنجليزية، كنت أريد سؤاله حينها كيف يمكنني الوصول إلى المسجد الذي مررنا به، أجابني بكلمة واحدة: إيتلْيانو، وفهم رفيقه قصدي فسألني إن كنت أريد الصلاة وقد أشار بيديه محاكيا التكبير ثم دلني على طريق الجامع، أعلم أنه لم يعد يذكر من ذلك شيئا، وأتساءل لماذا لا أزال أذكره. لا أزال أذكر الفتاة السكيكدية التي كانت تردد حين يطلب القائد منا شيئا: واه الهوّاري واه، كنت أتساءل من الهواري هذا، لم يكن الهواري الذي عرفني عليه جواد، الفتى الذي عرض أن يبيعني خمسة كيلوغرامات من النعاس حين كنا ننتظر موعد انطلاقنا بمطار تركيا، الهواري الذي قال إنه سيفارق فندق الخمس نجوم ليعود إلى بيته الذي وصفه بنجمة وهلال، هذا كان هواري مختلفا، كانت لديه لحية، لكنه لم يكن الفتى ذا اللحية الذي كان يزغرد كالنساء، الهواري كان كمال قائدنا كما أرادته السكيكدية أن يكون، هي وصاحبتها القبائلية التي لن تذكرني هي الأخرى على الأرجح...
 
أتذكر الأستاذين الجامعيين من باتنة حين طلبا مني التقاط صورة لهما في يالووا، طلبت منهما أن يقولا (بغريـر) بدل (شيز)، وأخبراني أنهم يسمون البغرير (فطائر جزائرية) عندهم (الغْرايف) لكنها كلمة لا يتطلب نطقها الابتسام، أتذكر المرتين الوحيدتين التي تحدثت فيهما الفرنسية أثناء تواجدي بتركيا، في إحداهما سألت صائغا تركيا إن كان يعرف مكان مكتب البريد لأني كنت بحاجة إلى طوابع وأظرفة، تعجب من طلاقة لساني وراح يسألني عن وطني وأين تعلمت الفرنسية، ثم سألني عن مدة تواجدنا بإسطنبول وإن كنت لا أشعر بالحرارة بسبب الخمار الذي أضعه، كنت أشعر بالحر طبعا وكان العرق يتصبب من وجهي، لكني قلت أن الأمر عادي جدا وهي مسألة تعود لا أكثر، أخبري أنه مسلم وأن اسمه فاروق، رجل في الخمسين من العمر، لم يرشدني إلى مكتب البريد الذي قال إنه بعيد جدا، وكذلك لم تفعل إيميت حين سألتها، وقالت إن التكنولوجيا الرقمية جعلتها تنسى البريد العادي تماما، فاحتفظت ببطاقات البريد لنفسي، لأهديها حين أعود إلى الوطن.
 
لم يبق لي من ذلك كله إلا الذكرى، ذكرى جعلتني أعيش منذ عودتي في عالم آخر، أسترجع منظر البوسفور من الجسر الذي كنا نعبره كل يوم، القبب والصوامع التي تقابلنا، خليج القرن الذهبي ومرمرة، تل العرائس، يالووا، أستعيد كل خطوة خطوتها وكل كلمة نطقتها وكل ابتسامة تركتها لإسطنبول لعلها تتذكرني... اليوم، أطوي صفحة هذه الرحلة الخيالية لأعود إلى حياتي، أتركها ترتاح في صندوق الذكريات الذي يحمله قلبي، أتركها لأرتاح منها قليلا، ولأقول لها مرة أخيرة  ڤونــــايدن إسطنــبول، ڤونــــايدن يا حورية مرمرة...
 
في الأخير تحياتي إلى الجميع، وسلاما على ترابك إسطنبول...
 
-تمت-
 
المدية في 14/09/2010  
*لمياء
14 - سبتمبر - 2010
 1  2  3