على عتبة إسطنبول ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
رأي الوراق :
السبت 31/07/2010
موعدنا الثامنة صباحا، هكذا قالت إيميت آخر مرة ... بعد تناول الفطور، اجتمعنا في صالة الفندق لأخذ مصروفنا لهذا اليوم، عشرون يورو، ثم توجهنا كل مجموعة إلى الحافلة المخصصة لها، وكما هو متوقع لم ننطلق إلا بعد أن تجاوزت الساعة التاسعة والنصف، متجهين إلى شبه الجزيرة التاريخية.
ڤُونَـــــــايْدِنْ (Günaydın)، هكذا نستهل صباحنا، صباح الفل والقشطة والياسمين وكل خير في هذه الكلمة الوحيدة التي ننطقها كلنا مع بعض.
بعد إخبارنا عن برنامجنا لليوم تشرح لنا مرشدتنا أصل تسمية إسطنبول، وتعطينا نبذة تاريخية عنها، لا تنتظروا مني نقل ما قالت فلست هنا اليوم لأعطيكم درسا في التاريخ، الكتب كفيلة بذلك والحاج ڤوڤل أيضا، ماذا كان ليفعل جيلنا الكسول من دونك يا ڤوڤل؟!
على الطريق، تعرفنا إيميت على الأماكن التي نمر بها، قصر دولمة بهجت الذي سكنه آخرالسلاطين العثمانيين وشهد موت الرئيس مصطفى كمال أتاتورك، بشكتاش، جامع مراد -إن لم أخطئ في اسمه-، توب هانة المشهورة بالأرجيلة، القرية السوداء التي لم تعد قرية كما هو حال بقية قرى إسطنبول، هذا ما قالت إيميت، إن مررتم بهذه المنطقة وسمعتم كلمة "كُويْ" فهذا يعني قرية باللغة التركية، كلمة أخرى ندخلها قاموسنا التركي الفارغ إلا من ڤُونَايْدِنْ وتَشَكُّرَدِريم (شكرا).
بعد المرور بجسر ڤَلَتَه (Galata) وصيادي السمك الهواة الذين تركناهم عليه، قصر توب كابي، السوق المصري وجامع أمين نو أو أمان الأمين كما تقول قصة تسميته، تحكي لنا إيميت عن "بيزاس" وتاريخ المنطقة الذي يرجع إلى آلاف السنين قبل الميلاد كما تشير إليه آخر الحفريات، ونحن نمر على صور المدينة القديم، مقابل بلاد العميان، مقابل بحر مرمرة ومياهه المتلألئة، القوارب البعيدة التي تشق صفحته، والناس على ضفته بين سباح وصياد، أتصور كل هذا، أبدأ بالتصديق شيئا فشيئا أني في إسطنبول.
بدخولنا إلى منطقة السلطان أحمد وتجاوزنا لأرستا بازار، صار بإمكاننا رؤية جامع السلطان يسارا وإلى اليمين أيا صوفيا التي فهمت من إيميت أننا لن ندخلها، لن أحدثكم عن خيبة الأمل التي شعرت بها، خيبة أمل واحدة كانت كفيلة بأن أمضي يوما خارج إسطنبول التي دخلتها منذ قليل، وقد كانت تلك خيبة الأمل المطلوبة، هكذا فقد يومي طعمه.
بوصولنا إلى منطقة معينة لا تستطيع السيارات تجاوزها ننزل من الباص متجهين إلى الهيبودروم أو ساحة الألعاب كما تسمى، نتبع مرشدتنا التي تسير بخطى سريعة وشمسيتها الصينية البنفسجية اللون، قالت أن أحدا إلى الآن لا يملك شمسية مشابهة، لهذا فستكون مرجعنا لمعرفة مكان تجمعنا، نسير وراءها بسرعة تجعل التفاصيل لا مرئية، وتبعدني أكثر فأكثر عن إسطنبول التي صرت على عتبتها. أحاول أن لا أرى آيا صوفيا كلما التفت حولي، أتناسى وجودها، أتناسى وجودي على أبوابها.
لم أعد أذكر ماذا رأيت تماما في الهيبودروم الذي شعرت فيه بالعجز المطلق عن الملاحظة، في ساحته التي كانت ميدانا للفروسية في القسطنطينية القديمة، مجرد صور سطحية تستقبلها عيناي، أما فؤادي فكان فارغا من كل شيء، لم أعد أذكر إلا المساحات الخضراء التي كانت تملأ عيني، المسلة المصرية برموزها الهيروغليفية المبهمة الممجدة للفرعون، عمود قسطنطين أو المسلة المحاطة التي بقيت في مكانها على الرغم من الجميع بموازاة جارتها المصرية، (غَصْبًا عَنّكْ أَنَا مَرْكوزة هُونْ) هذا ما تتصور مرشدتنا أنها تقوله، وبالطبع العمود الأفعواني البرونزي اليتيم بينهما. بعد ربع ساعة من الوقت الحر للتصوير تجمعنا عند بوابة مسجد السلطان أحمد، كان أسفي من عدم زيارة آيا صوفيا يغطي على كل شيء ويجرد الأماكن من هويتها وروحها أيضا، ربما فتح الجامع ذراعيه لاستقبالي وأنا غارقة في شعوري ذاك، ربما ابتسمت لي بوابته، ورحبت بي ساحته وأقواسه، لكني كنت في غفلة عن كل هذا.
دخلنا ساحة الجامع سوية وجلسنا في أحد أركانه نسمع حكاية بنائه، حكاية الجامع الأزرق كما يسميه الأوربيون، قصة معمار سنان الذي لازال اسمه يتكرر على مسامعنا منذ الصباح، وتحفته التي لا نملك أمامها إلا الشعور بالانبهار. بعد انتهاء الحكاية ندخل المسجد بعد خلع نعالنا ووضعها في أكياس بلاستيكية، الجميع يفعل ذلك، والنساء غير المحجبات يوتين بقماش يتسترن به، المشهد من الداخل فوق الوصف، القبب الموضونة على الأعمدة، السقف المزين بالآيات القرآنية والزخارف النباتية، الإضاءة الفريدة التي تصنعها النوافذ، الأقواس، البلاط الأزرق المزخرف، كل هذا منصهر ليشكل وحدة يستحيل تجزئتها، وذائب في لوحة ناطقة.
في المسجد تجتمع كل الأجناس وتزدحم، البعض منبهر بروعة المعمار، والبعض منشغل بالتصوير كرفيقاتي، البعض يدخل المسجد لأول مرة، وقلة يؤدون تحية المسجد من النساء والرجال، أجلس لأقرأ بعض الآيات من القرآن الكريم إلى أن أنتبه إلى أن وقتنا الحر شارف على الانتهاء وأخرج مع زميلة لي إلى ساحة السلطان أحمد، التقطنا بعض الصور بجانب النافورة التي تتوسط الميدان، وتمشينا قليلا في المتنزه قبل أن نعود لنتجمع مجددا ونركب الباص متجهين إلى المطعم لنتناول الغداء والساعة قد قاربت الثالثة مساء، والجوع آخر شيء يمكنني الشعور أو التفكير به.
في المساء، قضينا ما تبقى لنا من الوقت في مركز جواهر، ثاني أكبر مركز تجاري في تركيا. والحقيقة أن ذلك كان مضيعة للوقت ومضيعة للطاقة التي كنت لا أزال أحتفظ بها، زرت جميع الطوابق بما في ذلك المخصص للسيارات، لم أكن مجنونة لأشتري شيئا من المركز بأسعاره الخيالية -على الأقل بالنسبة لنا- ولم أجد شيئا لأشتريه، هكذا مر الوقت وأنا أصعد وأهبط من طابق إلى آخر باستعمال السلم العادي في البداية وفي الأخير السلم المتحرك بعد أن تعبت من السير، حين عدنا إلى الحافلة شعرت برغبة لا تقاوم في النوم، حاولت تجاهلها قليلا إلى أن غفوت لأجدنا على بوابة الفندق حين أيقظتني زميلتي لطيفة، لم أغفل هذه المرة أيضا عن تأمل البوسفور، تركته في ذاكرتي، على بساط من حرير، لأقول له ولكم في يوم آخر، ڤُونَــــــايْدِنْ.
|