البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : دوحة الشعر

 موضوع النقاش : بارك الله لكم في رمضان    قيّم
التقييم :
( من قبل 8 أعضاء )
 زهير 
9 - أغسطس - 2010
بارك الله لكم برمضان أخوتي الأكارم وأعاننا وإياكم على احتمال هذا الشهر الصعب (آب اللهاب) والذي أنزل فيه القرآن فقد كان أول رمضان في الإسلام رمضان آب عام 610ميلادي،  ولكنه لم يكن قد فرض الصيام فيه بعد.
(رمضان آب في أبوظبي) ذكرى ما مثلها ذكرى لمن عاشها وقد عشت مع أوابدها العام الفائت وتذكرت اليوم صور أصدقائي الصائمين من سكان أبوظبي فكانت هذه القصيدة (رمضان: آب أبوظبي)
الصوم صوم iiالعرب في  آبَ في iiأبوظبي
يـكـاد من iiيصومه يكشف عن وجه نبي
مـعـركـةٌ  بلا قنا وجـنـةٌ مـن iiلهب
ألـمَـحُ في iiنيرانها صوميَ  إذ أنا صبي
يـلـعب  فيها لاهيا والـجد  غير iiاللعب
أبـوظـبي iiأبوظبي أيـن دمـشق iiوأبي
وصـوم آب واحـد فـيك كصوم iiالحقب
رأيت من فتيانك iiال صيام  أقصى عجبي
مـن  مرهف iiمجرد ووادع  iiمــهـذب
يـذوب  في iiقميصه مـضـمخا  iiبالأدب
أغفو  وأصحو iiبينما أرسـمهم  عن iiكثب
حـقـيقة لا iiقصصا نـقرؤها  في iiالكتب
وصـورا  تلمع iiفي ذاكـرتـي iiكالذهب
 
 3  4  5  6  7 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
    كن أول من يقيّم
 
*د يحيى
15 - أغسطس - 2010
الشاعر المنبجي عمر أبو ريشة    ( من قبل 5 أعضاء )    قيّم
 
                          أمام الكعبة
أسألُ النفسَ خاشعاً: أتُرى **طهّرتُ بُردي من لُوثة الأدرانِ
كم صلاة ٍصلّيتُ لم يَتجاوزْ**   قُدْسُ آياتِها حدودَ لِساني
كم صيامٍ عانيتُ جُوعيَ فيهِ **  ونَسِيتُ الجِياعَ من إخواني
كم رجَمتُ الشيطانَ والقلبُ مني**مُرهَقٌ في حبائل الشيطان
ربِّ عفواً إنْ عِشتُ دينيَ ألفا         ظاً عِجافاً ولم أعِشْهُ معاني
أنا ياربِّ من بقايا سيوفٍ ** ثلّمَتْها مَضاربُ الحَدَثانِ
أنا من أمةٍ تجوسُ حِماها ** جاهلياتُها بِلا استئذانِ
*د يحيى
15 - أغسطس - 2010
يا حنظلة ساعة وساعة    ( من قبل 5 أعضاء )    قيّم
 
1- سمِع الأصمعي رجلاً يدعو ربَّه ويقول في دعائه : يا ذو الجلالِ والإكرام ، فقال الأصمعي : ما اسمُك ؟ فقال : ليث ، فقال الأصمعي:
        يُناجي ربَّه باللحن ليث ** لذاك إذا دعاه لا يُجابُ
 
2- قال الأصمعي : رأيت رجلاً من الأعراب وقد تعلّق بأستار الكعبة وهو يقول :
     يا ربّ إني سائلٌ كما تَرى ** مشتمِلٌ شُمَيلتي كما تَرى
     وشيختي جالسة فيما تَرى ** والبطنُ مني جائعٌ كما تَرى
                    فما تَرى يا ربَّنا فيما تَرى ؟
 
3- سمِع أبو يعقوب الخُزيميُّ منصورَ بنَ عَمّار ؛ صاحبَ المجالسِ، يقول في دعائه : اللهم اغفِرْ لأعظمنا ذنْباً ، وأقسانا قلباً ، وأقربِنا بالخطيئة عهداً ، وأشَدِّ نا على الدنيا حِرصاً ... فقال : امرأتي طالِقٌ إنْ كان دعا إلا لإبليس.
*د يحيى
15 - أغسطس - 2010
من أسرار كتاب الله الحق.    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار القرآن:  
 (347) - (‏فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ‏*‏ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ‏)  
(‏ الكهف‏:65‏ ـ‏66)

بقلم
الأستاذ الدكتور: زغلول راغب محمد النجار

هاتان الآيتان القرآنيتان الكريمتان جاءتا في بدايات النصف الثاني من سورة الكهف‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها مائة وعشر‏(110),‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي قصة أصحاب الكهف‏.
وهم فتية مؤمنون بربهم في زمن ساد فيه الشرك بالله‏,‏ وخوفا من أن يفتتنوا في دينهم فروا من جبروت حكامهم المشتركين‏,‏ ولجأوا إلي غار بجبل قريب من مدينتهم مكثوا فيه نياما لفترة امتدت إلي ثلاثمائة وتسع من السنين القمرية‏,‏ ثم بعثهم الله ـ سبحانه وتعالي ـ بعد تلك المدة الطويلة بمعجزة تشهد له ـ سبحانه ـ بطلاقة القدرة علي كل شيء‏,‏ ومن ذلك البعث بعد الموت‏.‏
ويدور المحور الرئيسي لسورة الكهف حول قضية العقيدة الإسلامية‏,‏ ومن ركائزها الإيمان بالله ـ تعالي ـ ربا واحدا أحدا‏,‏ فردا صمدا‏:
(‏ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ‏*‏ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ‏)                                (‏ الإخلاص‏:3-4)
‏ ومن هناك كانت ضرورة تنزيه الله ـ تعالي ـ عن الشريك والشبيه والمنازع والصاحبة والولد‏,‏ وعن غير ذلك من صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏.‏

من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في وصف القرآن الكريم
لقصة "عبدالله ونبيه موسي مع الخضر"

علي عادة القرآن الكريم في استعراضه للقصص فإنه يوصل قارئه مباشرة إلي الدروس المستقاة من القصة دون الدخول في تفاصيل الأسماء والأنساب والأماكن والأزمنة إلا في حدود ما يخدم الهدف من استعراض القصة ويظهر جانبا من جوانب الإعجاز فيها‏.‏
وتبدأ رواية القرآن الكريم عن هذه الواقعة يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في محكم كتابه‏:
   (‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ‏*‏ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً ‏*‏ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباًّ ‏* قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَباً ‏* قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ‏* فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ‏* قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ‏*‏ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ‏*‏ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ‏*‏ قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً ‏* قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً)                  (‏ الكهف‏:60‏- 70)
والسبب في هذا الموقف من قصة عبدالله ونبيه موسي ـ عليه السلام ـ يشرحه لنا حديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ الذي أخرجه البخاري عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول:
" إن موسي قام خطيبا في بني إسرائيل‏,‏ فسئل أي الناس أعلم؟ قال‏:‏ أنا‏,‏ فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه‏,‏ فأوحي الله إليه‏:‏ إن لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك‏,‏ قال موسي‏:‏ يارب‏!‏ كيف لي به قال‏:‏ تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم‏,‏ فأخذ حوتا فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع ابن نون ـ عليه السلام ـ حتي إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما‏,‏ واضطرب الحوت في الكتل فخرج منه فسقط في البحر‏,‏ فاتخذ سبيله في البحر سربا‏,‏ وأمسك الله عن الحوت جرية الماء‏,‏ فصار عليه مثل الطاق‏.‏ فلمل استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت‏,‏ فانطلقا بقية يومهما وليلتهما‏,‏ حتي إذا كان من الغد قال موسي لفتاه‏:‏
(فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباًّ)                  (‏ الكهف‏:62).‏
ولم يجد موسي النصب حتي جاوز المكان الذي أمره الله به‏,‏ قال له فتاه‏:
(‏قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَباً ‏)                                                                      (‏ الكهف‏:63).‏
قال‏:‏ فكان للحوت سربا‏.‏ ولموسي وفتاه عجبا‏,‏ فقال‏:
(‏قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً)                                   (‏ الكهف‏:64).‏
قال فرجعا يقصان أثرهما حتي انتهيا إلي الصخرة‏,‏ فإذا رجل مسجي بثوب‏,‏ فسلم عليه موسي‏,‏ فقال الخضر‏:‏ وأني بأرضك السلام؟ فقال‏:‏ أنا موسي‏.‏ قال‏:‏ موسي بني إسرائيل؟ قال نعم‏,‏ أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا..(‏ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)                                    (‏ الكهف‏:67).‏
يا موسي‏!‏ إني علي علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت‏,‏ وأنت علي علم من علم الله علمك الله لا أعلمه‏.‏
فقال موسي‏:(...‏ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً)                 (‏ الكهف‏:69)‏.
قال له الخضر‏: (..‏ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً)    (‏ الكهف‏:70).
فانطلقا يمشيان علي ساحل البحر‏,‏ فمرت سفينة فكلماهم أن يحملوهما‏,‏ فعرفوا الخضر‏,‏ فحملوهما بغير نول‏,‏ فلما ركبا في السفينة لم يفاجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم‏,‏ فقال له موسي‏:‏ قد حملونا بغير نول فعمدت إلي سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها‏!‏ لقد جئت شيئا إمرا‏.‏"
‏(‏ قال‏:‏ وقال رسول الله ـ صلي الله عليه وعلي آله‏:‏ فكانت الأولي من موسي نسيانا‏,‏ قال‏:‏ وجاء عصفور‏,‏ فوقع علي حرف السفنية فنقر في البحر نقرة أو نقرتين‏,‏ فقال له الخضر‏:‏ ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر‏,‏ ثم خرجا من السفنية فبينما هم يمشيان علي الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه‏,‏ فاقتلعه بيده فقتله‏,‏ فقال له موسي‏:
(...‏ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ‏*‏ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)                                                             (‏ الكهف‏:74-75).
قال‏:‏ وهذا أشد من الأولي(‏قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً ‏* فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ‏...)                                                               (‏ الكهف‏:76-77).‏
أي مائلا فقال الخضر بيده‏(‏ فأقامه‏)‏ فقال موسي‏:‏ قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا‏
  (...‏لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ‏*‏ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً)                                                              (‏ الكهف‏:77-78).‏
فقال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ‏:‏وددنا أن موسي كان صبر حتي يقص الله علينا من خبرهما      (‏ أخرجه البخاري في صحيحة عن ابن عباس عن أبي بن كعب‏)‏ وجاء التأويل في تفسير تلك الأحداث الثلاثة بقول القرآن الكريم علي لسان الخضر ـ عليه السلام ـ‏:
(‏أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ‏*‏ وَأَمَّا الغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ‏*‏ فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً *‏ وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً)                                                                      (‏ الكهف‏:79‏ـ‏82).‏

وهذا هو تفسير ما أشكل فهمه علي عبدالله ونبيه موسي بن عمران في مواقفه الثلاثة مع العبد الصالح المسمي بالخضر والذي أعطاه الله ـ تعالي ـ علما لم يتوفر للنبي موسي بن عمران ـ عليه السلام ـ فالسفينة إنما خرقها الخضر ليبعيبها لأنهم كانوا يمرون علي ملك من الظلمة يأخذ كل سفينة جيدة صالحة غصبا فأراد الخضر أن يصيبها بعيب مؤقت لرد ذلك الملك الغاصب عنها‏,‏ وأما الغلام الذي قتله الخضر فكان سيدعو في كبره إلي الكفر بالله‏,‏ وأبواه كانا مؤمنين‏,‏ فأراد الله ـ تعالي ـ أن يبدلهما بغلام أتقي الله منه وأبربهما‏        (‏ولايقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له‏).‏ وأما الجدار المتهالك الذي أقامه الخضر كان لغلامين يتمين في المدينة‏,‏ وكان تحته مال مدفون لهما‏,‏ حفظه الله ـ تعالي ـ لهما بصلاح أبيهما‏,‏ وفي ذلك دليل علي أن صلاح الآباء يصل للأبناء ولو بعد عدد من الأجيال‏,‏ وفي الآية الكريمة دليل علي إمكان إطلاق القرية علي المدينة والعكس‏.‏
وفي قول القرآن الكريم علي لسان الخضر ـ عليه السلام ـ:
(رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً)         (الكهف‏:82).
أي أن هذا الذي فعلته في تلك المواقف الثلاثة إنما هو من رحمة الله ـ تعالي ـ بعباده‏,‏ وما فعلته عن أمري‏,‏ لأن الله ـ تعالي ـ أمرني به‏,‏ ووقفت عليه‏,‏ وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر ـ عليه السلام ـ مع دلالة ما تقدم علي ذلك من قول الحق ـ تبارك وتعالي ـ‏:
(‏فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً).‏
وإن كان البعض قد ذهب إلي الاعتقاد بأنه كان وليا من الصالحين‏,‏ والله ـ تعالي ـ أعلي وأعلم‏.‏ وفي صحيح البخاري‏,‏ عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ إنما سمي الخضر لأنه جلس علي فروة فإذا هي تهتز من تحته خضراء والمراد بالفروة هنا الحشيش اليابس‏,‏ وهو الهشيم من النبات‏,‏ وقيل المراد بذلك وجه الأرض‏.‏ وفي التأكيد علي حقيقة الغيب وعلي ضخامة حجم العلم اللدني الذي وهبه الله ـ تعالي ـ لهذا العبد الصالح المسمي باسم الخضر ما نقله ابن جرير عن أبي بن كعب‏,‏ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال‏:‏ كان النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه‏,‏ فقال ذات يوم‏:‏ رحمة الله علينا وعلي موسي لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب‏,‏ لكنه قال‏:
(..‏ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً).‏
وهذا الواقعة من سيرة عبدالله ونبيه موسي ابن عمران‏,‏ جاءت في سورة الكهف فقط من كل القرآن الكريم‏,‏ وفي الآيات‏(60‏ ـ‏82)‏ من هذه الصورة المباركة‏.‏ والقرآن الكريم لم يحدد المكان الذي وقعت فيه تلك الواقعة إلا بوصف أنه عند مجمع البحرين‏,‏ ولم يحدد تاريخ وقوعها هل كان في مصر‏,‏ أم في شبه جزيرة سيناء‏,‏ أم في شرق الأردن‏,‏ وفي كل تلك المناطق مجامع للبحرين منها التقاء فرعي النيل‏(‏ فرع رشيد وفرع دمياط‏),‏ وفي شبه جزيرة سيناء هناك التقاء كل من خليج السويس وخليج العقبة‏,‏ وفي الأردن هناك التقاء نهر الأردن بالبحر الميت‏,‏ وأغلب الظن أن الواقعة تمت في شبه جزيرة سيناء أثناء التيه حول خليج العقبة وذلك لأن فتي موسي يوشع بن نون لم يرد له ذكر في جميع أحداث موسي مع فرعون مصر‏,‏ ولكنه قاد بني إسرائيل بعد وفاة كل من هارون وموسي ـ عليهما السلام‏,‏ ويبدو أن الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا كان في الجزء الشمالي الغربي من شبه الجزيرة العربية لأنه لم يكن هناك ملوك في مصر بجوار الفرعون‏,‏ ولم يكن هناك ملوك كذلك في شبه جزيرة سيناء‏,‏ ولا في شرق الأردن‏.
 كذلك لم يذكر القرآن الكريم اسم العبد الصالح الذي لقيه النبي موسي وطلب منه أن يتبعه لعله أن يعلمه مما علم رشدا‏,‏ ولولا أن رسولنا ـ صلي الله عليه وسلم ـ قد سماه لنا كما سمي لنا فتي موسي ـ عليهما السلام ـ ما كان أمامنا من وسيلة إلي معرفة ذلك‏.
*د يحيى
15 - أغسطس - 2010
التكملة    ( من قبل 4 أعضاء )    قيّم
 
ولكن الهدف من استعراض تلك الحلقة من سيرة النبي موسى مع العبد الصالح هو عدد من الدروس الأخلاقية والسلوكية التي يمكن ايجازها فيما يلي‏:‏
‏(1)‏ ضرورة التواضع وعدم الاغترار بما يحصّل الإنسان من العلم‏؛‏ لأن علم الإنسان ـ مهما اتسعت دوائره فهو علم محدود بحدود قدرات الإنسان الذهنية والحسية‏،‏ وبحدود مكانه من الكون‏، وحدود زمانه‏،‏ ومن ثم فإنه لا يشكل ذرة في علم الله المحيط بكل شيء‏.‏
‏(2)‏ من هنا كانت ضرورة التفريق بين المعارف المكتسبة بواسطة حواس الإنسان وقدرات عقله‏، والعلم الذي يهبه الله ـ سبحانه وتعالى ـ لعبد من عباده والذي يعرفه باسم العلم الموهوب‏،‏ وهو جزء من علم الله اللدنّي يطلع به من يشاء من عباده على شيء من الغيب بالقدْر الذي يشاء‏؛ لحكمة يعلمها هو ـ سبحانه ـ ومن هنا فإن تصرفات من يوهبون شيئاً من هذا العلم اللدني قد تبدو في ظاهرها متعارضة مع المنطق العقلي؛ نظراً لمحدودية قدرات الإنسان‏.‏ ومن هنا فإنها لاتفهم إلا بعد إدراك ما وراءها من الحكمة المغيبة عنا‏.‏
‏(3)‏ ضرورة الاستفادة من الأمور الغائبة عنا بشيء من الأدب الذي لاجزم فيه‏، حتى لو كان ذلك في طلب العلم الراشد من أهله‏.‏
‏(4)‏ ضرورة الإيمان بالغيب ـ وهو من حقائق الوجود‏،‏ وضرورة التفريق بين الغيب المرحلي الذي يمكن للإنسان الوصول إليه بشيء من البحث والمجاهدة والغيوب المطلقة التي لا يعلمها الا الله أو يطلع على قدر منها من يرتضي من أنبيائه وأوليائه الصالحين‏.‏
‏(5)‏ ضرورة الرضا بقضاء الله وقدره‏؛‏ لأن الله ـ تعالى ـ لا يقضي لعباده المؤمنين إلا بخير‏، حتي لو بدا ظاهر القضاء أو القدر في غير مصلحة الإنسان‏،‏ فإن باطنه بالقطع في مصلحته‏.‏
‏(6)‏ ضرورة التسليم بأن الله ـ تعالى ـ قادر علي كل شيء‏,‏ وأن إرادته نافذة في كل شيء‏، وأنه لاراد لقضائه‏.‏ ومن هنا كانت ضرورة رد الأمر في كل شيء إلى الله‏، فهو ـ تعالى ـ رب هذا الكون ومليكه‏، ومدبره أمره‏، وميسر كل شيء فيه‏.‏
‏(7)‏ إن من واجبات العبد المؤمن تنفيذ أوامر الله ـ تعالى ـ مهما كلفة ذلك من وقت وجهد‏.‏
‏(8)‏ التسليم بأن الإنسان معرّض للنسيان‏، وبأن من الواجب إكرام الصالحين من عباد الله‏.‏
‏(9)‏ اليقين بأن صلاح الوالدين يصل إلى ذراريهما إلى عدد من الأجيال المتتابعة‏.‏
‏(10)‏ وهذه الدروس هي وجه من أوجه الاعجاز الاعتقادي والأخلاقي والسلوكي في كتاب الله‏,‏ كما أن ذكر الواقعة هو وجه من أوجه الاعجاز الإنبائي والتاريخي في هذا الكتاب العزيز‏.
*د يحيى
15 - أغسطس - 2010
استنتاجان....    ( من قبل 4 أعضاء )    قيّم
 
اجتماع واقتصاد، وسياسة :
" لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ "{قريش106/1}
" إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ" {106/2}
" فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ" {106/3}
" الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ" {106/4}
" هذه الآيات تشير إلى استتباب الأمن وانتفاء الخوف ، وهما أساس الحرية السياسية . ووفرة الأقوات وسهولة التبادل ، وهما أساس الحرية الاقتصادية " ( نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم ، للشيخ محمد الغزالي ، ص 542).
" تنبيه: في قوله تعالى: { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } ، ربط بين النعمة وموجبها، كالربط بين السبب والمسبب.
ففيه بيان لموجب عبادة الله تعالى وحده، وحقه في ذلك على عباده جميعاً، وليس خاصاً بقريش. وهذا الحق قرره أول لفظ في القرآن، وأول نداء في المصحف، فالأول قوله تعالى:

ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }[الفاتحة: 2]، كأنه يقول هو سبحانه مستحق للحمد، لأنه رب العالمين، أي خالفهم ورازقهم، وراحمهم إلى آخره.والثاني:يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ }
[البقرة: 21]. ثم بين الموجب بقوله:ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[البقرة: 21].
ثم عدد عليهم نعمه بقوله:
ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ }[البقرة: 22].
فهذه النعم تعادل الإطعام من جوع، والأمن من خوف، في حق قريش، ومن ذلك قوله تعالى:
إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ }[الكوثر: 1-2].
وقد بين تعالى أن الشكر يزيد النعم والكفر يذهبها، إلا ما كان استدراجاً، فقال في شكر النعمة:
لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }[إبراهيم: 7]. وقال في الكفران وعواقبه:وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }[النحل: 112].
وبهذه المناسبة إن على كل مسلم أفراداً وجماعات، أن يقابلوا نعم الله بالشكر، وأن يشكروها بالطاعة والعبادة لله، وأن يحذروا كفران النعم.
تنبيه آخر: في الجمع بين إطعامهم من جوع وآمنهم من خوف، نعمة عظمى لأن الإنسان لا ينعم ولا يسعد إلا بتحصيل النعمتين هاتين معاً، إذ لا عيش مع الجوع، ولا أمن مع الخوف، وتكمل النعمة باجتماعهما.ولذا جاء الحديث
" من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فقد اجتمعت عنده الدنيا بحذافيرها ".
تنبيه آخر:إن في هذه السورة دليلاً على أن دعوة الأنبياء مستجابة، لأن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا لأهل الحرام بقوله:فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ }[إبراهيم: 37]. وقال:رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ }[البقرة: 129]، فأطعمهم الله من جوع وآمنهم من خوف، وبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته." ( الشنقيطي).
*د يحيى
17 - أغسطس - 2010
التبني حرام ، وفلسفته من وساوس الشيطان.    ( من قبل 4 أعضاء )    قيّم
 
التبني حرام :
"ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {الأحزاب33/5}
                                      " حكمة التشريع
" بدعة التبني في الجاهلية "
أشرقت شمس الإسلام على الإنسانية، والأمة العربية لا تزال تتخبّط في ظلمات الجاهلية، وتعيش في ضلالات وأوهام، وتعتقد بخرافات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان، هي من بقايا مخلّفات (العصر الجاهلي) التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم.
وما كان الإسلام ليتركهم في ضلالهم يتخبَّطون، وفي سَكْرتهم يعمهون دون أن ينقذهم مما هم فيه من سفهٍ، وجهالة، وكفر، وضلالة!!
فكان من رحمة الله تعالى أن انتشل الأمة العربية، من أوحال الجاهلية. وخلّصها من تلك العقائد الزائغة، والأوهام الباطلة، وغذاها بلَبَان الإيمان، حتى أصبحت خير أُمّة أُخْرجت للناس.
ولقد كانت (بدعة التبنّي) من أظهر بدع الجاهلية، وتفشّت هذه البدعة حتى أصبحت ديناً متوارثاً، لا يمكن تعطيله أو تبديله لأنه دين الآباء والأجداد،
إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ }[الزخرف: 23].
كان العربي في الجاهلية. يتبنّى الرجل منهم ولد غيره، فيقول له: (أنتَ ابني أرثك وترثني) فيصبح ولده وتجري عليه أحكام البنوّة كلها. من الإرث، والنكاح، والطلاق، ومحرمات المصاهرة، وغير ذلك مما يتعلق بأحوال الابن الصلبي على الوجه الشرعي المعروف.
ولحكمةٍ يريدها الله عزّ وجلّ ألهم نبيّه الكريم - قبل البعثة والنبوة - أن يتبنى أحد الأبناء. جرياً على عادة العرب في التبني. ليكون ذلك تشريعاً للأمة في إنهاء التبني. وإبطال تلك البدعة المنكرة، التي درج عليها العرب ردحاً طويلاً من الزمن.
فتبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الأبناء، هو (زيد بن حارثة) وأصبح الناس منذ ذلك الحين يدعونه (زيد بن محمد) حتى نزل القرآن الكريم بالتحريم فتخلّى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تبنّيه، وعاد نسبه إلى أبيه فأصبح يدعى زيد بن حارثة بن شرحبيل.أخرج البخاري ومسلم في " صحيحهما " عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
" إنّ زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما كنّا ندعوه إلاّ زيد بن محمد، حتى نزل القرآن { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت زيد بن حارثة بن شرحبيل ".
أما سبب تبنّيه عليه السلام لزيد قبل البعثة - مع كراهته الشديدة لعادات الجاهلية - فهو لحكمةٍ يريدها الله، ولقصةٍ من أروع القصص حدثت معه عليه الصلاة والسلام.
وخلاصة القصة: أنّ زيداً كان مع أمه عند أخواله من بني طييء، فأغارت عليهم قبيلة من قبائل العرب، فسلبتهم أموالهم وذراريهم - على عادة أهل الجاهلية في السلب والنهب - فكان زيد من ضمن من سُبي فقدموا به مكة فباعوه، فاشترته السيدة
(خديجة بنت خويلد) فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعْجِبَ بنبوغه وذكائه، فوهبته له فبقي عند رسول الله عليه السلام يخدمه ويرعى شؤونه.
وكان أبوه (حارثة بن شرحبيل) بعد سبيه يبكي عليه الليل والنهار، وينشد فيه الأشعار، وقد ذكر العلامة القرطبي قصيدةً طويلة من شعر حارثة في الحنين لولده مطلعها:
بكيتُ على زيدٍ ولم أدرِ ما فعل
   
أحيٌ يُرَجّى أم أتى دونه الأجلُ
تُذكّرُنِيْهِ الشمسُ عند طُلوعِها
   
وتَعْرضُ ذِكْراه إذا غرْبُها أفل
وبلغ (حارثةَ) الخبرُ بأنّ ولده عند محمد صلى الله عليه وسلم في مكة، فقدم مع عمه، حتى دخل على رسول الله، فقال يا محمد: إنكم أهل بيت الله، تفكّون العاني وتطعمون الأسير، ابني عندك فامنن علينا فيه، وأحسن إلينا في فدائه، فإنك ابن سيّد قومه، ولك ما أحببت من المال في فدائه!!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيكم خيراً من ذلك، قالوا ما هو؟ قال: أخيّره أمامكم، فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء، وإن اختارني فما أنا بالذي أرضى على من اختارني فداءً، فقالوا: أحسنتَ فجزاك الله خيراً.
فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا زيد: أتعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي، وهذا عمي، فقال يا زيد: هذا أبوك، وهذا عمك، وأنا من عرفت، فاختر من شئت منا، فدمعت عينا زيد وقال: ما أنا بمختارٍ عليك أحداً أبداً، أنت مني منزلة الوالد والعم.
فقال له أبوه وعمه: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية؟ فقال زيد: لقد رأيت من هذا الرجل من الإحسان، ما يجعلني لا استيطع فراقه وما أنا بمختار عليه أحداً أبداً.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس وقال: اشهدوا أنّ زيداً ابني أرثه، ويرثني.. فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد عليه صلى الله عليه وسلم. فلم يزل في الجاهلية يدعى (زيد بن محمد) حتى نزل القرآن الكريم. { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } فدُعي زيد بن حارثة. ونزل قوله تعالى:
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ... }[الأحزاب: 40] الآية.
وانتهى بذلك حكم التبني. وبطلت تلك البدعة المستحدثة بتشريع الإسلام الخالد.".
 (تفسير آيات الأحكام/ الصابوني).
*د يحيى
17 - أغسطس - 2010
هذا نصر الله    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
نصر الله:
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" {محمد47/7}.
" يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن تنصروا الله ينصركم بنصركم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر به وجهادكم إياهم معه لتكون كلمته العُليا ينصركم عليهم، ويظفركم بهم، فإنه ناصر دينه وأولياءه. كما:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكمْ } لأنه حقّ على الله أن يعطي من سأله، وينصر من نصره.
وقوله: { وَيُثَبِّتْ أقْدَامَكُمْ } يقول: ويقوّكم عليهم، ويجرّئكم، حتى لا تولوا عنهم، وإن كثر عددهم، وقلّ عددكم " ( الطبري).
" روى البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، يتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا " ثم قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } كقوله عز وجل:
وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ }[الحج: 40] فإن الجزاء من جنس العمل، ولهذا قال تعالى:
{ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } كما جاء في الحديث: " من بلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبت الله تعالى قدميه على الصراط يوم القيامة " ( ابن كثير).
" والمراد بنصر المؤمنين لله - تعالى - نصرهم لدينه، بأن يستقيموا على أمره ويتبعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى كل ما أمرهم به أو نهاهم عنه.
والمعنى: يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإِيمان، إن تنصروا دين الله - عز وجل - وتتبعوا رسوله، { يَنصُرْكُمْ } - سبحانه - على أعدائكم { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } عند قتالكم إياهم ويوفقكم بعد ذلك للثبات على دينه، والشكر على نعمه.
وفى معنى هذه الآية، وردت آيات كثيرة، منها قوله - تعالى -:
وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }وقوله - سبحانه -:وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ }وقوله - عز وجل -:
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ }.
وبعد هذا النداء الذى يحمل أكرم البشارات للمؤمنين، ذم - سبحانه - الكافرين ذما شديداً، فقال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ }.
والاسم الموصول مبتدأ وخبره محذوف، و { تَعْساً } منصوب على المصدر بفعل مضمر من لفظه، واللام فى قوله { لَّهُمْ } لتبيين المخاطب، كما فى قولهم: سقيا له، أى: أعنى له يقال: تعس فلان - من باب منع وسمع - بمعنى هلك.
قال القرطبى ما ملخصه وقوله: { تَعْساً لَّهُمْ } نصب على المصدر بسبيل الدعاء، مثل سقيا له.. وفيه عشرة أقوال: الأول: بعداً لهم. الثانى: حزنا لهم.. الخامس) هلاكا لهم.. يقال: تعسا لفلان، أى ألزمه الله هلاكا. ومنه الحديث الشريف:
" تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة. إن أعطى رضى، وإن لم يعط لم يرض ". وفى رواية: " تعس وانتكس، وإذا شيك - أى أصابته شوكة - فلا انتقش " أى: فلا شفى من مرضه.
والمعنى: والذين كفروا فتعسوا تعسا شديدا، وهلكوا هلاكا مبيراً، وأضل الله - تعالى - أعمالهم، بأن أحبطها ولم يقبلها منهم، لأنهم صدرت عن نفوس أشركت مع خالقها ورازقها آلهة أخرى فى العبادة.
فقوله: { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } معطوف على الفعل المقدر الذى نصب به لفظ " تعسا " ودخلت الفاء على هذا اللفظ، تشبيها للاسم الموصول بالشرط.
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أدت بهم إلى الخسران والضلال فقال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }.
أى: ذلك الذى حل بهم من التعاسة والإِضلال بسبب أنهم كرهوا ما أنزله - تعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من قرآن يهدى إلى الرشد، فكانت نتيجة هذه الكراهية، أن أحبط الله أعمالهم الحسنة التى عملوها فى الدنيا كإطعام وصلة الأرحام.. لأن هذه الأعمال لم تصدر عن قلب سليم، يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ثم وبخهم - سبحانه - على عدم اعتبارهم بما فى هذا الكون من عبر وعظات فقال: { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }." ( طنطاوي).
 
الله مولى الذين آمنوا:
" ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ" {محمد47/11}
" قولُه تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }؛ أي ذلك النَّصرُ للمؤمنين والهلاكُ للكافرين بأنَّ الله ولِيُّ الذين آمَنُوا يلِي أمرَهم ويتولَّى نصرَهم، { وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ }؛ أي ليس لَهم ولِيٌّ يُعِينُهم ولا ناصرَ يُنْجِيهم من العذاب" ( الطبراني).
" قال قتادة: نزلت هذه الآية يوم أُحُد، ومنها انتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رده على أبي سفيان حين قال: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم»، حين قال المشركون: إن لنا عزى، ولا عزى لكم." ( أبو حيان).
" قوله تعالى: { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا... } الخ، قال القشيري: المَوْلَى: المحِبُّ، فهو محب الذين آمنوا، والكافرين لا يُحبهم، ويصح أن يُقال: أرجى آيةٍ في القرآن هذه الآية، لم يقل مولى الزُهّاد والعُبّاد وأصحاب الأورادِ والاجتهاد: بل قال: { مولى الذين آمنوا } والمؤمن وإن كان عاصياً فهو من جملتهم. هـ. والمحبة تتفاوت بقدر زيادة الإيمان والإيقان حتى يصير محبوباً مقرباً." ( ابن عجيبة).
*د يحيى
17 - أغسطس - 2010
شهر رمضان والبناء النفسي    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
دور شهر رمضان في البناء النفسي للمسلم
الاربعاء 14 رمضان 1428 الموافق 26 سبتمبر 2007
 
دور شهر رمضان في البناء النفسي للمسلم

د. غازي التوبة
لقد فرض الله الصيام على المسلم في الثاني من شهر شعبان من السنة الثانية من الهجرة فقال تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا كُتِبَ عليكم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين مِن قَبْلِكم لعلّكم تَتَّقونَ) [البقرة:183]، وقد ربط الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بشهر رمضان فقال: (شهرُ رمضانَ الذي أُنْزِلَ فيه القرآنُ هُدىً للناسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرْقانِ فَمَن شَهِدَ منكُمُ الشهرَ فَلْيَصُمْهُ ومَن كان مريضاً أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مَنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة:185]، والأرجح أنّ نزوله كان في ليلة القدر التي ازدادت شرفاً ورفعةً ومكانةً وقدراً بنـزول القرآن الكريم فقال سبحانه وتعالى: (إنّا أَنْزَلناهُ في ليلةِ القَدْرِ . وما أَدْراكَ ما ليلةُ القَدْرِ . ليلةً القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شهرٍ . تَنَزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها بإذْنِ ربّهِمْ مِن كُلِّ أَمْرٍ . سَلامٌ هي حتى مَطْلَعَ الفَجْرِ). [القدر:1-5]، وقال سبحانه وتعالى أيضاً عن ليلة القدر: (إنّا أَنْزَلْناهُ في ليلةٍ مُباركةٍ إنّـا كنّا مُنْذِرينَ . فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيمٍ . أَمْراً مِنْ عندنا إنّا كنّا مُرْسِلينَ) (الدخان:3-5) ، لذلك كان شهر رمضان شهر مدارسة القرآن عند الرسول ـ صلى الله وعليه وسلم ـ ، وكان يتدارسه مع جبريل عليه السلام ، فقد نقل البخاري عن ابن عبّاس رضي الله عنه فقال: "كان رسول الله صلى الله وعليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله وعليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة". لذلك اقتدى المسلمون برسولهم، وكان شهر رمضان بالنسبة لهم شهر تلاوة القرآن ومدارسته، واستحب جمع من أهل العلم ختم القرآن الكريم في صلاة التراويح ليسمع الناس جميع القرآن الكريم، ويُسنّ القيام في شهر رمضان للرجال والنساء، فقد روى الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله وعليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة فيقول: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه". ورووا إلاّ الترمذي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: صلّى النبي صلى الله وعليه وسلم في المسجد، فصلّى بصلاته ناس كثير، ثم صلّى القابلة فكثروا، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: "قد رأيت صنيعكم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ أني خشيت أن تُفرض عليكم" وذلك في رمضان.
ويُسنّ الاجتهاد في العشر الأواخر بالقيام وتلاوة القرآن الكريم، كما كان يفعل الرسول صلى الله وعليه وسلم. فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة- رضي الله عنها -أنّ النبي صلى الله وعليه وسلم: "كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشدّ المِئْزَر"وفي رواية لمسلم: "كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره". وروى الترمذي في سننه عن علي رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله وعليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر، ويرفع المئزر" .
إذن يقوم رمضان على ثلاثة محاور: الصيام، وتلاوة القرآن، وقيام الليل، فكيف تبني هذه المحاور نفسية المسلم؟ ولنبدأ أولاً بالصيام.
أولاً: الصيام :
يبني الصيام حب الله سبحانه وتعالى في نفسية المسلم ، فعندما يمتنع المسلم عن محبوبين إلى نفسه، لصيقين بذاته وهما: الطعام والنساء من أجل محبوب أعظم هو اللهسبحانه وتعالى، لا شك أنّ هذا ينمي حب الله سبحانه وتعالى في ذات المسلم، ويجعله يرتقي إلى مستوى عالٍ من الشفافية وسمو النفس وقوة الإرادة.
وكذلك يبني الصيام الرجاء في نفسية المسلم، فهو عندما يصوم يرجو من الله الأجر العظيم، لأنّ الصيام له سبحانه وتعالى وهو يجزي به.فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله وعليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلاّ الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم مرتين، والذي نفس محمد بيده لخَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا فطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه". (رواه أحمد ، ومسلم ، والنسائي).
كما يرجو الصائم أن يشفع له الصيام والقرآن، فقد روى عبد الله بن عمرو أنّ النبي صلى الله وعليه وسلم قال :"الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام أي ربّ منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفّعني به، ويقول القرآن منعته النوم بالليل، فشفّعني به، فيُشفّعان" .(رواه أحمد بسند صحيح).
كما يرجو المسلم أن يبعده الله عن النار بصيامه، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله وعليه وسلم قال: "لا يصوم عبد يوماً في سبيل الله إلاّ باعد الله بذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفاً" (رواه الجماعة إلا أبا داود).
كما يرجو المسلم أن يدخل الجنّة من باب الريّان مع الصائمين، فقد روى سهيل بن سعد أنّ النبي صلى الله وعليه وسلم قال: "إنّ للجنة باباً يُقال له: الريّان، يُقال يوم القيامة: أين الصائمون؟ فإذا دخل آخرهم، أُغلق ذلك الباب" (رواه البخاري ومسلم).
كما يبني الصيام تقوى الله، وتتولّد تلك التقوى من امتناع المسلم الصائم عن الإقدام على قضاء شهوتي الفرج والبطن مع قدرته على ذلك خوفاً من عقاب اللهسبحانه وتعالى ، ويأتي ذلك مصداقاً لقوله :سبحانه وتعالى ( يا أيّها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين مِن قبلِكُم لعلكم تَتَّقونَ) [البقرة:183].
ثانياً: القرآن الكريم:
لا شك أنّ سماع المسلم لآيات القرآن الكريم في صلاتي التراويح والقيام ستكون ذا أثر في بنائه النفسي، وأبرز هذه الآثار هي:
1- الاعتبار والاتعاظ بما يسمعه من القصص القرآني حول دعوة الأنبياء للأمم السابقة، ونجاة المؤمنين وهلاك الكافرين، ويأتي كل ذلك مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: (يا أيّها الناسُ قد جاءَتْكُم موعظةٌ مِن ربّكُم وشِفاءٌ لما في الصدورِ وهُدًى ورحمةٌ للمؤمِنينَ) [يونس:57].
2- خشية القلب ووَجَله من صور العذاب التي تصفها آيات الله المَتْلُوَّة، ورجاؤه وشوقه إلى الجنة التي يسمع صفاتها، وقد وصف الله سبحانه وتعالى حال أولئك الخاشعين الراجين فقال سبحانه وتعالى: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ منه جُلودُ الذين يخشَوْنَ رَبَّهُمْ ثم تَلينُ جُلودُهُمْ وقُلوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللهِ ذلك هُدى اللهِ يهدي بهِ مَن يشاءُ ومَن يُضْلِلِ اللهُ فما لهُ مِنْ هادٍ) [الزمر:23].
3- الهدى والنور اللّذانِ يتولّدان في قلب المسلم عندما يسمع آيات القرآن الكريم تتحدث عن صفات الله العظيمة، وقدرته الخارقة، ورحمته الواسعة، وسبل إرضائهسبحانه وتعالى، وعن الحلال والحرام، ويأتي ذلك موافقاً لقوله سبحانه وتعالى: (قد جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نورٌ وكِتابٌ مُبينٌ . يَهْدي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ويُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النورِ بِإِذْنِهِ ويَهْديهِمْ إلى صِراطٍ مُستقيم) [المائدة:15-16].
ثالثاً: القيام :
لاشك أنّ أداء المسلم لقيام رمضان سيكون له أثر في بنائه النفسي وأبرزها:
1- تعظيم الله سبحانه وتعالى: فعندما يكابد المسلم شهوة النوم، ويتغلّب عليها، ويقف بين يدي الله، طالباً رحمته، آملاً بمغفرته لاشك أنّ هذا سيولّد عنده تعظيم الله سبحانه وتعالى.
2- الخضوع لله سبحانه وتعالى : عندما يقف المسلم بين يدي ربه في العشر الأواخر من رمضان في الثلث الأخير من الليل، ويجتهد في قيامه وركوعه وسجوده وتلاوته القرآن الكريم، لاشك أنّ هذا سيولّد عنده الخضوع للهسبحانه وتعالى ، لأنّه يمتثل قول ربه : سبحانه وتعالى (يا أيّها المُزَّمِّلُ . قُمِ الليلَ إلاّ قليلاً . نِصْفَهُ أو انْقُصْ منهُ قليلاً . أو زِدْ عليهِ ورَتِّلِ القرآنَ تَرْتيلاً . إنّا سَنُلْقي عليك قَوْلاً ثَقيلاً . إنَّ ناشِئَةَ الليلِ هي أَشَدُّ وَطْئاً وأَقْوَمُ قِيلاً) [المزّمل:1-6].
ليس من شك بأن لشهر رمضان دوراً عظيماً في البناء النفسي للمسلم، وقد طوّفنا في السطور السابقة ببعض المعاني التي يمكن أن يبنيها هذا الشهر الذي يمكن أن نطلق عليه بحق إنه شهر الصيام، وشهر القرآن، وشهر القيام.
( من موقع نوافذ)
*د يحيى
17 - أغسطس - 2010
الذاهبون إلى الله، سبحانه وتعالى.    ( من قبل 5 أعضاء )    قيّم
 
المسافرون إلى الله تعالى
المسافرون إلى الله تعالى

د. لطف الله بن عبد العظيم خوجه
الحياة سفر، والناس فيها مسافرون، والغاية واحدة: الآخرة. والمنزل اثنان: جنات عدن، ونار جهنم.
كل الناس سائرون إلى الدار الآخرة، بغير اختيارهم.. إنما خيارهم في الطريق:
- فمنهم من يلزم طريق الجنة، فيتخذ: أركانه، وواجباته، وسننه.
- ومنهم من يلزم طريق النار، فيتخذ: سبيله، وموجباته.
قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً، إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً".
وفي الناس غفلة مترسخة، حكى الله تعالى عنها فقال: "اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ..." [الأنبياء:1-3]. فلا يذكرون سفرهم هذا، ولا مآلهم، وقد يرون الميت بين أيديهم، فلا تتحرك قلوبهم بذكر ولا موعظة..!!
وقد مضت سنة الله تعالى في عباده: أنه يذكرهم؛ رحمة بهم، وبلاغا، ولعلهم يتقون.
فأقام لهم العلامات، ونصبها لهم؛ لتكون عونا، وتذكرة، فيستذكرون ما هم فيه من رحلة، تمضي ولا تقف، تحصي الأعمار، وتجتزئ منها فلا تكل ولا تمل، فمن تلك العلامات: الحج.
* * *
للحج أركان، وواجبات، وسنن، فأركانه: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، وسعي الحج.
هذه الأربعة أركان الحج، من دونها لا يصح الحج:
- فبدون الإحرام، لا يحصل الدخول في النسك أصلا.
- وبدون الوقوف بعرفة، لا يحصل اللحاق بالحج، وعليه التحلل بهدي وعمرة، والحج من قابل.
- وبدون الطواف، لا يتم الحج، ويبقى عليه التحلل الثاني، لا يحل له الجماع، حتى يأتي به.
- وبدون السعي، لا يتم الحج، ويبقى في الذمة حتى يأتي به.
والحج سفر أصغر، هو مثال للسفر الأكبر: سفر الحياة الدنيا إلى الآخرة. لكنه سفر المؤمن، المتخذ طريق الجنة، دون سفر المتخذ طريق النار.
فكما أن سفر وشعيرة الحج لا تتم إلا بهذه الأركان، فكذلك سفر الدنيا، والقدوم على الله تعالى، ودخول جنات عدن لا تتم إلا بأركان أربعة مثلها:

أركان السفر إلى الجنة.
فالأول: الموت على الإسلام. فبدونه لا يحصل الانتقال، من دار الدنيا إلى دار الآخرة، والدخول إلى الجنة، قال تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" [آل عمران:185]. ومثاله الإحرام، فما أشبه الإحرام بالموت على الإسلام:
- ففي كليهما يقر الإنسان بالشهادة لله: المحرم يلبي: "لبيك اللهم لبيك"، والميت يلقن الشهادة: "لا إله إلا الله".
- ففي كليهما التجرد من الثياب، والكفن في ثياب بيضاء، غير مخيطة، يلتف بها الإنسان.
- وفي كليهما التطهر، والتنظف، والاغتسال، والتطيب.
- وفي كليهما صلاة تصلى تقربا إلى الله تعالى.
والفرق أن في الإحرام يفعل المحرم كل ذلك بنفسه، أما في الموت فيفعل به كل ذلك إخوانه المؤمنون.
فالإحرام يذكر الحاج مآله ومصيره، في هذه الحياة، كيف يخرج منها من دون شيء، فارغا، إلا من كفنه، وكيف يلقى بيت الله عز وجل مخالفا عادته في الزي، فكذلك يلقاه في زي مخالف لعادته.
والبقاء في الإحرام طيلة حجه، يذكر بهذا الحال غير المعتاد، ليفهم أنها آتية لا ريب، وأن الإعداد لها بعدة تخفف عنه هول ما يستقبل: واجب، كوجوب الإعداد للحج بعدة تخفف من وعثاء السفر.
الثاني: التوبة والاستغفار. فبدونها لا يفوز المرء بالجنة، لأن الخطيئة تحيط به من كل جهة، ولا يسلم منها، فإذا لم يحرقها بالتوبة والاستغفار أحاطت به. قال تعالى: "بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [البقرة:81]. لكن التوبة والاستغفار تفك قيد الخطيئة، وتكسر أغلاله، لينفذ المؤمن إلى رضوان ربه، كما قال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ" [آل عمران: 135 – 136]. ومثالها الوقوف بعرفة في الحج:
- فالوقوف بعرفة: وقوف بباب المولى بطلب الصفح، والعفو، والمغفرة، يمكث الناس طيلة النهار وجزءا من الليل، يستغيثون المولى جل شأنه: أن يتجاوز عنهم، ويعاملهم بفضله وكرمه، وأن لا يؤاخذهم بما ركبوا، وجنوا، واجترحوا. والله تعالى يستجيب لهم في هذا الموقف، فيقول لملائكته: "انظروا إلى عبادي: أتوني شعثا، غبرا، أشهدكم أني قد غفرت لهم".
- "والحج عرفة"، أي أعظم ركن فيه، فمن فاته فلا حج له، وبدون الاستغفار والتوبة يفوت ثواب الرب ورضاه، ويحل غضبه وسخط. قال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ" [المنافقون:5].
فهؤلاء المنافقون، كان سبب هلاكهم استكبارهم عن الاستغفار والتوبة.
- " وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً" [النساء: من الآية64].
- وقال تعالى: "وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" [الأنفال: من الآية33].
فكان سبب امتناع عذابهم استغفارهم.
- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب عذاب عبد الله بن جدعان ودخوله النار: "إنه لم يقل يوما من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".
فالوقوف بعرفة يذكر بالتوبة والاستغفار الدائمين، ولزوم الباب حتى يفتح بالرحمة والرضوان، ورفع الغضب والهوان، فمن أطال قرع الباب فتح له، ومن صبر نال الخير.. والحاج يصبر ساعات النهار والليل يطلب الصفح، والعفو، والمغفرة، فكذلك المسافر، المبتغي جوار الرب في الدار الآخرة.
الثالث: تعلق القلب، وملازمة الذكر. فما وصل ولا اتصل، إلا من فرغ قلبه لذكره، وتعلق به حبا، وشوقا، وأنسا، فشرط الإيمان تعلق القلب بالله تعالى، وهو محبته. قال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ" [البقرة: من الآية165].
والمؤمنون هم الذاكرون، كما قال تعالى:"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ..." [آل عمران: من الآية191].
ومثاله الطواف بالبيت:
- فالطواف لف ودوران، وهو حال المؤمِّل، المتقرب، المحب، المشتاق: يدور حول محبوبه: منزله، وآثاره. المرة تلو المرة، لا يمل، ولا يتعب، ولا ينصرف، حتى ينعم بكلامه، ونظره، ورضاه.
- وفي الطواف يكون الذكر والاستحضار الدائم لمن يطوف له، حيث يفرغ القلب إلا منه، والعقل إلا من التفكر فيه، وفي آلائه، وهو حال الذاكرين الله تعالى كثيرا والذاكرات.
فالطواف عبادة تذكر بأصل الدين ولبه، وهو محبة الله تعالى وذكره، فيطوف حبا، وشوقا، وذكرا. ويتعلم أن هذا هو حال المؤمن في الدنيا، لا يقدم شيئا على مولاه، لا حبا، ولا ذكرا، وهذا حقيقة التلبية:
- "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك".
والتي تقال عند الإحرام، ويوم التروية، وعرفة، ومزدلفة، حتى رمي جمرة العقبة يوم العيد، فإن "لَبّ" من قولهم: أَلَبّ بالمكان؛ إذا أقام به والتزمه؛ ومعناه: أنا لازم لك، ومتعلق بك، لزوم المُلِبّ بالمكان، مقبل إليك. فقول: لبيك؛ أي أقبلت إليك، وتوجهت إليك، وانقدت لك.
الرابع: الإخلاص والاستقامة على الطاعة. فالجنة لا يدخلها إلا المخلصون، العاملون على استقامة، كما قال تعالى: "فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً" [الكهف: من الآية110]، وقال في العمل: "ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" [النحل: من الآية32]، وقال في لزوم الاستقامة: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ" [الأنعام: من الآية153]، وهذا مثاله السعي بين الصفا والمروة:
- فالسعي يكون جيئة وذهابا مرات. وهكذا المخلص يطلب القبول، إن لم يكن في الأولى ففي الثانية، والثالثة.
- والسعي على استقامة. وهكذا طريق الجنة في الدنيا صراط مستقيم غير معوج.
- والسعي فيه طول وصعود ونزول. وهكذا الطريق طويل وشاق، فسلعة الله غالية.
- والسعي فيه سعي شديد بين العلمين. وهكذا الطريق يحتاج إلى مسارعة ومسابقة، في بعضه.
فإذا سعى استدل بسعيه على الطريق، ووصف الطريق، من: إخلاص، واستقامة، وعمل، ومن معنى التلبية: "لييك اللهم لبيك": أنا مقيم على طاعتك، ولازمها، لا أبرح عنها
وهكذا فلا يجتاز سفر الحج، إلى القبول، والثواب، والخروج من الذنوب كيوم ولدته أمه، كما في الأثر، إلا بفعل هذه الأركان الأربعة، فكذلك لا يجتاز سفر الدنيا، إلى جنة المأوى، إلا بفعل هذه الأربعة.
ثم يبقى فعل الواجبات، وترك المحظورات، وقد تسامح في ترك الواجب لعذر، وأوجب فدية، وتسامح في فعل المحظور: نسيانا، أو جهلا، أو اضطرار وكرها. وجعل فيه الكفارة والفدية إذا كان عمدا، وهكذا الأمر في السفرين. فما أشبه سفر الحج بسفر الحياة، وما أسعد من اتعظ، وفهم المعنى، وأدرك المغزى، وما أنزل القرآن إلا للتدبر، والتفكر، قال تعالى:
- "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" [صّ:29]. - "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" [محمد:24].
الأصل الأكبر.
والأصل الأكبر في السفرين: توحيد الله تعالى. هذا الذي أرسلت به الرسل، ونزلت به الكتب، وخلق الله الخلق لأجله، ومايز بين الناس به، وحرم به الدم، والمال، وأدخل به الجنة، هو: إفراد الله تعالى وحده بالعبادة، ونبذ الشرك، وطرائق الشرك، سواء كان عبر الشفاعة، أو التوسل، أو التبرك.
هذا الذي يؤمر به الناس في حياتهم، كي يحصلوا ثواب الله تعالى، ويجتنبوا عقابه، منذ البلوغ حتى الممات، كما قال تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" [الأنعام:162 - 163]، فإذا جاء الحج أكد هذا الأصل بشعائره، ورسخه في النفوس، ورباهم عليه بالمظاهر التالية:
الأول: التلبية. فقد كان المشركون في حجهم يلبون فيقولون: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك"، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع هذا الشرك، وأمر الناس أن يقولوا في تلبيتهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك"، فهذا شعار التوحيد وكلمته، يردده الحجاج منذ إحرامهم، وسائر أيامهم.
الثاني: القصد. فإن الحج يقصد لوجه الله وحده، لا لأجل فلان وفلان، لا نبي ولا صالح، يخرج الحاج من بلده وأهله، لا يبتغي إلا الله تعالى وحده، حتى النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل في قصده، فليس من شروط الحج، ولا من واجباته: زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم. لكنها من المستحبات عموما.
الثالث: الأعمال. كل أعمال الحج تجرى لله تعالى، ليس لأحد حظ فيها، من الأول إلى الآخر: الإحرام، إلى المبيت بمنى، إلى الوقوف بعرفة، ثم المبيت بمزدلفة، ثم الطواف والسعي، ورمي الجمار.
الرابع: الدعاء. كل الأدعية المأثورة في أعمال الحج أدعية خالصة لله تعالى، فيها التوحيد ونفي الشريك، كدعاء الصفا والمروة، كما قال تعالى: "فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً" [البقرة: من الآية200]، قال القرطبي: "قال ابن عباس وعطاء والضحاك والربيع: اذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم، وأماتهم: أبه أمه؛ أي فاستغيثوا به، وألجئوا إليه، كما كنتم تفعلون حال صغركم بآبائكم. وقال طائفة: معنى الآية: اذكروا الله، وعظموه، وذبوا عن حرمه، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم، وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم".
الخامس: لا حظ لمخلوق. ليس في الحج تبرك بمشاهد، أو أضرحة، أو قبور، أو أشخاص، وليس فيه دعاء غير الله تعالى، أو الاستغاثة به، أو التوسل، بل ليس للمخلوق منه إلا الإحسان، بدعاء وعون، فيشرع في الحج: الحج عن ميت، أو عاجز. أو عون ضعيف أو محتاج، فكل حظ للمخلوق في الحج فبالإحسان إليه، وليس فيه أدنى شيء يدل أو يحث على التبرك به، أو التوجه إليه، وقد كان المشركون في حجهم يتفاخرون بآبائهم، ويذكرونهم، فأمر الله تعالى المؤمنين بقوله: "فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً" [البقرة: من الآية200]، فأمرهم بذكر الله تعالى أشد من ذكر الآباء، ليعلمهم أن هذا موضع يعظم فيه الرب سبحانه وحده دون غيره. وهذا قول آخر في تفسير الآية.
ففي الحج يتعلم المرء التوحيد خالصا صرفا، ليرجع بعده فيكون كذلك في باقي أيامه، كما كان في حجه.
(من موقع نوافذ الرائع)
*د يحيى
17 - أغسطس - 2010
 3  4  5  6  7