هذا كتاب الله ، لا يأتيه الباطل...لا يَخلَق من كَثرة الرّد...     ( من قبل 10 أعضاء ) قيّم
"إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ" {الدخان44/3} " فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ" {44/4} " أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ" {44/5} " رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" {44/6} " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" {القدر97/1} " لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ" {97/3} "تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ" {97/4} " سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ" {97/5} " اختلفوا في هذه الليلة المباركة، فقال الأكثرون: إنها ليلة القدر، وقال عكرمة وطائفة آخرون: إنها ليلة البراءة، وهي ليلة النصف من شعبان أما الأولون فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه أولها: أنه تعالى قال: { إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ }[القدر: 1] وهٰهنا قال: { إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ } فوجب أن تكون هذه الليلة المباركة هي تلك المسماة بليلة القدر، لئلا يلزم التناقض وثانيها: أنه تعالى قال:{ شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِي أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ }[البقرة: 185] فبيّن أن إنزال القرآن إنما وقع في شهر رمضان، وقال هٰهنا { إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ } فوجب بأن تكون هذه الليلة واقعة في شهر رمضان، وكل من قال إن هذه الليلة المباركة واقعة في شهر رمضان، قال إنها ليلة القدر، فثبت أنها ليلة القدر وثالثها: أنه تعالى قال في صفة ليلة القدر{ تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ * سَلَـٰمٌ هِيَ }[القدر: 4، 5] وقال أيضاً ههنا { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } وهذا مناسب لقوله { تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا } وههنا قال: { أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا } وقال في تلك الآية { بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ } وقال ههنا { رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } وقال في تلك الآية { سَلَـٰمٌ هِيَ } وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى ورابعها: نقل محمد بن جرير الطبري في «تفسيره»: عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لست ليال منه، والزبور لاثنتي عشرة ليلة مضت منه، والإنجيل لثمان عشرة ليلة مضت منه، والقرآن لأربع وعشرين ليلة مضت من رمضان، والليلة المباركة هي ليلة القدر وخامسها: أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم، لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم، ومعلوم أنه ليس قدرها وشرفها لسبب ذلك الزمان، لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات، فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته، فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمور شريفة عالية لها قدر عظيم ومرتبة رفيعة، ومعلوم أن منصب الدين أعلى وأعظم من منصب الدنيا، وأعلى الأشياء وأشرفها منصباً في الدين هو القرآن، لأجل أن به ثبتت نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل في سائر كتب الله المنزّلة، كما قال في صفته{ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ }[المائدة: 48] وبه ظهرت درجات أرباب السعادات، ودركات أرباب الشقاوات، فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدراً وأعلى ذكراً وأعظم منصباً منه فلو كان نزوله إنما وقع في ليلة أخرى سوى ليلة القدر، لكانت ليلة القدر هي هذه الثانية لا الأولى، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر التي وقعت في رمضان، علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة، وأما القائلون بأن المراد من الليلة المباركة المذكورة في هذه الآية، هي ليلة النصف من شعبان، فما رأيت لهم فيه دليلاً يعول عليه، وإنما قنعوا فيه بأن نقلوه عن بعض الناس، فإن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه كلام فلا مزيد عليه، وإلا فالحق هو الأول، ثم إن هؤلاء القائلين بهذا القول زعموا أن ليلة النصف من شعبان لها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصك، وليلة الرحمة، وقيل إنما سميت بليلة البراءة، وليلة الصك، لأن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة، كذلك الله عزّ وجلّ يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة، وقيل هذه الليلة مختصة بخمس خصال الأول: تفريق كل أمر حكيم فيها، قال تعالى: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } والثانية: فضيلة العبادة فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلّى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان " الخصلة الثالثة: نزول الرحمة، قال عليه السلام: " إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب " والخَصلة الرابعة: حصول المغفرة، قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة، إلا لكاهن، أو مشاحن، أو مدمن خمر، أو عاق للوالدين، أو مُصِرّ على الزنا " والخصلة الخامسة: أنه تعالى أعطى رسوله في هذه الليلة تمام الشفاعة، وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطي الثلث منها، ثم سأل ليلة الرابع عشر، فأعطي الثلثين، ثم سأل ليلة الخامس عشر، فأعطي الجميع إلا من شرد على الله شراد البعير، هذا الفصل نقلته من «الكشاف»، فإن قيل لا شك أن الزمان عبارة عن المدة الممتدة التي تقديرها حركات الأفلاك والكواكب، وأنه في ذاته أمر متشابه الأجزاء فيمتنع كون بعضها أفضل من بعض، والمكان عبارة عن الفضاء الممتد والخلاء الخالي فيمتنع كون بعض أجزائه أشرف من البعض، وإذا كان كذلك كان تخصيص بعض أجزائه بمزيد الشرف دون الباقي ترجيحاً لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وإنه محال، قلنا القول بإثبات حدوث العالم وإثبات أن فاعله فاعل مختار بناء على هذا الحرف وهو أنه لا يبعد من الفاعل المختار تخصيص وقت معين بإحداث العالم فيه دون ما قبله وما بعده، فإن بطل هذا الأصل فقد بطل حدوث العالم وبطل الفاعل المختار وحينئذ لا يكون الخوض في تفسير القرآن فائدة، وإن صح هذا الأصل فقد زال ما ذكرتم من السؤال، فهذا هو الجواب المعتمد، والناس قالوا لا يبعد أن يخص الله تعالى بعض الأوقات بمزيد تشريف حتى يصير ذلك داعياً للمكلف إلى الإقدام على الطاعات في ذلك الوقت، ولهذا السبب بيّن أنه تعالى أخفاه في الأوقات وماعيته لأنه لم يكن معيناً جوز المكلف في كل وقت معين أن يكون هو ذلك الوقت الشريف فيصير ذلك حاملاً له على المواظبة على الطاعات في كل الأوقات، وإذا وقعت على هذا الحرف ظهر عندك أن الزمان والمكان إنما فازا بالتشريفات الزائدة تبعاً لشرف الإنسان فهو الأصل وكل ما سواه فهو تبع له، والله أعلم. روي أن عطية الحروري سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله{ إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ }[القدر: 1] وقوله { إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ } كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الشهور؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يا ابن الأسود لو هلكت أنا ووقع هذا في نفسك ولم تجد جوابه هلكت، نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور، وهو في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالا، والله أعلم. بيان نظم هذه الآيات: اعلم أن المقصود منها تعظيم القرآن من ثلاثة أوجه: أحدها: بيان تعظيم القرآن بحسب ذاته . الثاني: بيان تعظيمه بسبب شرف الوقت الذي نزل فيه. الثالث: بيان تعظيمه بحسب شرف منزلته. * أما النوع الأول: وهو بيان تعظيمه بحسب ذاته فمن ثلاثة أوجه: أحدها: أنه تعالى أقسم به وذلك يدل على شرفه . وثانيها: أنه تعالى أقسم به على كونه نازلاً في ليلة مباركة، وقد ذكرنا أن القسم بالشيء على حالة من أحوال نفسه يدل على كونه في غاية الشرف. وثالثها: أنه تعالى وصفه بكونه مبيناً وذلك يدل أيضاً على شرفه في ذاته. * وأما النوع الثاني: وهو بيان شرفه لأجل شرف الوقت الذي أنزل فيه فهو قوله { إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ } وهذا تنبيه على أن نزوله في ليلة مباركة يقتضي شرفه وجلالته، ثم نقول إن قوله { إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ } يقتضي أمرين: أحدها: أنه تعالى أنزله والثاني: كون تلك الليلة مباركة فذكر تعالى عقيب هذه الكلمة ما يجرى مجرى البيان لكل واحد منهما، أما بيان أنه تعالى لم أنزله فهو قوله { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } يعني الحكمة في إنزال هذه السورة أن إنذار الخلق لا يتم إلا به، وأما بيان أن هذه الليلة ليلة مباركة فهو أمران: أحدهما: أنه تعالى يفرق فيها كل أمر حكيم، والثاني: أن ذلك الأمر الحكيم مخصوصاً بشرف أنه إنما يظهر من عنده، وإليه الإشارة بقوله { أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا }. * وأما النوع الثالث: فهو بيان شرف القرآن لشرف منزله وذلك هو قوله { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } فبيّن أن ذلك الإنذار والإرسال إنما حصل من الله تعالى، ثم بيّن أن ذلك الإرسال إنما كان لأجل تكميل الرحمة وهو قوله { رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } وكان الواجب أن يقال رحمة منا إلا أنه وضع الظاهر موضع المضمر إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين، ثم بيّن أن تلك الرحمة وقعت على وفق حاجات المحتاجين لأنه تعالى يسمع تضرعاتهم، ويعلم أنواع حاجاتهم، فلهذا قال: { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } فهذا ما خطر بالبال في كيفية تعلق بعض هذه الآيات ببعض. أما قوله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ } فقد قيل فيه إنه تعالى أنزل كلية القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في هذه الليلة، ثم أنزل في كل وقت ما يحتاج إليه المكلف، وقيل يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبرائيل وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت. أما قوله تعالى: { فِيهَا يُفْرَقُ } أي في تلك الليلة المباركة يفرق أي يفصل ويبين من قوله فرقت الشيء أفرقه فرقاً وفرقاناً، قال صاحب «الكشاف» وقرىء يفرق بالتشديد ويفرق على إسناد الفعل إلى الفاعل ونصب كل والفارق هو الله عز وجل، وقرأ زيد ابن علي نفرق بالنون. أما قوله { كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } فالحكيم معناه ذو الحكمة، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى، فلما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة، وهذا من الإسناد بالمجازي، لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ووصف الأمر به مجاز، ثم قال: { أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا } وفي انتصاب قوله { أمْراً } وجهان: الأول: أنه نصب على الاختصاص، وذلك لأنه تعالى بيّـن شرف تلك الأقضية والأحكام بسبب أن وصفها بكونها حكيمة، ثم زاد في بيان شرفها بأن قال أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا كائناً من لدنا، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا والثاني: أنه نصب على الحال وفيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون حال من أحد الضميرين في { أَنزَلْنَـٰهُ } ، إما من ضمير الفاعل أي: إنا أنزلناه آمرين أمراً أو من ضمير المفعول أي: إنا أنزلناه في حال كونه أمراً من عندنا بما يجب أن يفعل والثالث: ما حكاه أبوعلي الفارسي عن أبي الحسن رحمهما الله أنه حمل قوله { أمْراً } على الحال، وذو الحال قوله : { كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }. ثم قال: { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } يعني أنا إنما فعلنا ذلك الإنذار لأجل إنا كنا مرسلين يعني الأنبياء. ثم قال: { رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } أي للرحمة فهي نصب على أن يكون مفعولاً له. ثم قال: { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } يعني أن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة لأن المحتاجين، إما أن يذكروا بألسنتهم حاجاتهم، وإما أن لا يذكروها فإن ذكروها فهو تعالى يسمع كلامهم فيعرف حاجاتهم، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بها فثبت أن كونه سميعاً عليماً يقتضي أن ينزل رحمته عليهم" .(الرازي). |