القسم الثاني كن أول من يقيّم
هذا "مركز المشروع الإسلامي"، وجماع التصور الإسلامي، والعقل فيه واحد من الهدايات، وليس هو مركز المشروع!. أقول هذا، وأنا من أكثر الذين خدموا فكر العقلانية الإسلامية - التراثي منه والمعاصر -.. حتى لقد صرت "متهما" من "النصوصيين - المقلدين" ومن "الظاهرية الجديدة" بآني "رائد التيار العقلاني" - وهو شرف لا أدعيه، و"اتهام" لا أنفيه -؟! لكن الحق أحق بأن يقال، وأجدر بالاتباع!. والملاحظة الثالثة: هي على قول الدكتور نصر: "إن سنن التاريخ، هي السنن التي تمثل القوانين الكلية التي عبر عنها القرآن الكريم بـ "سنة الله" التي لن تجد لها تبديلا". وأنا أتساءل: عندما يسمي القرآن الكريم السنن والقوانين بـ "سنن الله"، فلماذا نقول عنها: إنها "سنن التاريخ"؟!. إنها، في القرآن، مضافة إلى "فاعلها"- سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ، سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ، فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا - فلماذا نضيفها إلى "التاريخ"؟، وهل فاعلها هو "التاريخ"، وليس "الله"؟!. إن التاريخ هو "ظرفها ومحلها وسياقها"، وليس هو الفاعل لهذه السنن والقوانين. وتلك مشكلة في "التعبير" - الذي قد لا يكون مقصودا - تثير قضية تسرب المفاهيم المادية والوضعية إلى "ثقافتنا المؤمنة"، وذلك من مثل مقولات: "المادة لا تفنى، ولا تستحدث"!.. و"المصريون القدماء أبدعوا التوحيد قبل الديانات"!- مع أن الإيمان يعلمنا أن الإنسانية قد بدأت بالنبوة والتوحيد. إن الإنسان، في الرؤية الإسلامية، يصنع التاريخ، وفق سنن الله، ولو كانت السنن، التي لا تبديل لها، هي سنن التاريخ، لما كان بمقدور الإنسان صنع هذا التاريخ، لأنه سيكون عبدا لسنن التاريخ، التي لا يستطيع لها تبديلا ولا تحويلا. والملاحظة الرابعة: هي على قول الدكتور نصر: "إنه لا خوف على عقائدنا وديننا من منهجيات العلوم الإنسانية المتطورة، وإنما الخوف من الجمود والتقليد اللذين يمثلان حصون الدفاع في المؤسسات التقليدية". والرأي عندي - وأنا الذي قدمت عشرات الكتب في نقد الجمود والتقليد، والدعوة إلى الإحياء والتجديد - أن الخوف يجب أن يكون من شقي التقليد ولونيه ومصدريه: أ - التقليد لتجارب سلفنا ومناهج قدمائنا، والجمود عليها، والوقوف عندها وحدها. ب - والتقليد لتجارب الآخر الحضاري، ومناهج العلوم الإنسانية والتصورات الفلسفية، عند هذا الآخر، والجمود عليها، والوقوف عندها. ونقطة البدء التي لا بد من الاتفاق عليها، أو جلاء الاختلاف فيها مع الحوار حولها هي: 1 - أننا أبناء حضارة متميزة- مع تحديد نطاق التميز، وسماته ومعالمه- أي نطاق ومعالم "الثوابت الحضارية الإسلامية"، الممثلة "للهوية"، التي تحفظ على الحضارة وحدتها وتواصل إسلاميتها عبر الزمان والمكان. 2 - وأن هذا التمييز الحضاري، هو معيار القبول والرفض من موروثنا الفكري، ومن المواريث الفكرية للحضارات الأخرى. 3 - وأن "التجديد" سنة وقانون أبدي- "يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها". أن "الاجتهاد" فريضة أبدية، وهما - التجديد والاجتهاد - السبيل لتطوير النسق الفكري الإسلامي المتميز، من داخله، وأن هذا اللون من التجديد- التطور من داخل النسق- مخالف ومختلف عن الجمود على موروثنا والتقليد لسلفنا، ومخالف ومختلف عن "الحداثة"، التي تنكر "الثوابت"، والتي تقيم "قطيعة معرفية" مع الأصول والمنابع والمبادئ والجذور. أي أن ما نسميه "المعاصرة"، ليس هو "الحداثة الغربية"، والتي إذا استعرناها وأضفناها إلى "أصالتنا"، كنا قد جمعنا الحسنيين، وأمسكنا بطرفي المجد، وبلغنا غاية المراد من رب العباد، وإنما "المعاصرة" هي "تفاعل مع عصرنا نحن"، وإذا كانت لنا "أصالة متميزة" - وهي كذلك - فإن "معاصرتنا" - أي تفاعلنا مع عصرنا- لا بد أن تكون متميزة كذلك. ويزيد من أهمية هذه الملاحظة، ما حدده الدكتور نصر لأمتنا من مهام، أوجزها في عبارة "اللحاق بركب التقدم والمدنية".. وهو قول يثير تساؤلنا: - هل مهمتنا - حقا - هي "اللحاق بالركب "؟!.. - أم أنها هي النهوض "لقيادة ركب متميز حضاريا؟". إن اللحاق بالركب هو أمنية المهزوم نفسيا - اللحاق بركب المنتصر - أما نحن، فإننا نجادل ونماري في أن "الآخر" - المنتصر ماديا - هو "المتقدم"، بالمعنى الحقيقي والمتكامل والمتوازن "للتقدم". فللتقدم مفاهيم متعددة، وللحضارات فيه مذاهب شتى، ومذهب الإسلام في التقدم، متميز عن "المذهب الباطني"- الذي يسعى إلى "فناء الخلق في الحق"- وعن "المذهب المادي والوضعي"- الذي "يضع الخلق على عرش الحق"- ومن ثم فإن مهمة المشروع الإسلامي ليست "اللحاق بالركب"، وإنما النهوض لقيادة ركب حضاري متميز، يجسد نموذجا حضاريا متميزا- يكون فيه الخلق خلفاء للحق. وإذا كانت مأساتنا هي الفقر في "الإبداع"، والإفراط في "التقليد"، فإن "الإبداع" سيظل غائبا من حياتنا ما لم نتفق على أننا أصحاب نموذج حضاري متميز، وإلا فما الحاجة للاختراع والإبداع إذا كانت "البضاعة- النموذج" جاهزة، ومعلبة، ومعروضة من قبل الآخرين؟!. والملاحظة الخامسة: - والأخيرة - هي حول دعوى الدكتور نصر حامد أبوزيد أن المبادئ الثلاثة- التي يقترحها لتكون مقاصد للشريعة - وهي: العقلانية.. والحرية.. والعدالة - هي - برأيه - "المبادئ الكلية".. بينما المبادئ الخمسة - التي حددها القدماء مقاصد للشريعة - والتي بلغت ستة عند الطاهر بن عاشور، وهي: الدين، والعقل، والنفس، والعرض، والمال، والحرية - هي - برأي الدكتور نصر - "مبادئ جزئية" - وليست "كلية" - وأنها يمكن أن تندرج تحت مبادئ الدكتور نصر. والسؤال هو: هل هذا صحيح؟ أم أن العكس هو الصحيح؟!. إننا إذا تأملنا المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، كما استنبطها وحددها الأصوليون - وإذا أعطاها عقلنا المعاصر أبعادها الحقيقية- وهي أبعاد مفتوحة الأبواب والميادين أمام الاجتهاد الإسلامي - فسنجد أنفسنا أمام منظومة جامعة لأركان ومقومات وضرورات "الاجتماع الإنساني"، تلك التي بدونها لا يستقيم "العمران البشري" على صراط الفطرة الإنسانية السوية. * فالحفاظ على "النفس"، هو التعبير عن "الإنسان": حامل أمانة إقامة العمران، ومكانته السامية في العمران الإنساني. * والحفاظ على "العقل"، هو التعبير عن جوهر إنسانية الإنسان، الذي تميز به عن سواه من المخلوقات، عندما انفرد "بالتكليف الاختياري"، الذي تأسست عليه "المسئولية، والحساب، والجزاء". * والحفاظ على "الحرية" - وهو المقصد الذي أضافه الشيخ طاهر بن عاشور - هو المعبر عن الأمانة التي حملها الإنسان في الاستخلاف، بعدما أبت المخلوقات الأخرى حملها، وفي نطاقها وحدودها تتمثل المذهبية الإسلامية التي حددتها نظرية الخلافة والاستخلاف. * والحفاظ على "العرض والنسب " هو التعبير عن قوام وأساس بناء "الأسرة" أولى لبنات الاجتماع في كيان الشعب والأمة. * والحفاظ على "المال" هو التعبير عن قوام الرخاء الإنساني، والعدالة الاجتماعية، وزينة الحياة الدنيا بعمران الواقع المادي لهذه الحياة. * والحفاظ على "الدين" هو التعبير عن ضبط كل مقومات العمران الإنساني بالضوابط الإلهية، التي تحفظ لهذا العمران - مع التطور والارتقاء - الروح الإلهية والصبغة الدينية التي تضمن "التواصل.. والوحدة" في "الهوية"، رغم "متغيرات الزمان والمكان"، وذلك على النحو الذي يجعل هذا العمران الإنساني: عمران "الإنسان: الخليفة لله"، وليس عمران "الإنسان المتمرد على مولاه"!.. .. تلك هي مكانة مقاصد الشريعة من قضية "العمران البشري".. وهي مكانة: المبادئ الكلية الحاكمة، والمقومات.. والضرورات. وإذا كان التأمل - ببادي الرأي - ومن الكافة، فضلا عن أهل الاختصاص - يقول إن المبادئ الثلاثة، التي يقترحها الدكتور، نصر، هي موجودة بالفعل في الكليات الست التي حددها الأصوليون، فمن الذي يستوعب من؟! وأين الجديد، الذي أثمرته القراءة الجديدة للنصوص الدينية. إن "العقلانية" - التي يقترحها الدكتور نصر - هي منهاج في النظر، مكانها الطبيعي في المبدأ الكلي - مقصد: "الحفاظ على العقل" - وكذلك "العدالة" - كمنهاج في حل المشكلة الاجتماعية - مندرجة في المبدأ الكلي - نقصد: "الحفاظ على المال" - و"الحرية": مقصد قائم بذاته - أضافه الشيخ الطاهر بن عاشور -.. فليس هناك - كما رأينا - "جديد" تضيفه القراءة "الجديدة" للدكتور نصر في هذا المجال، اللهم إلا إذا كان الجديد هو الحذف والاستبعاد، وليس الإضافة والاستيعاب!. وإذا كان من غير المتصور أن يدعو الدكتور نصر إلى الحذف والاستبعاد لمبدأ "الحفاظ على النفس" - أي الإنسان والحياة - فإن النتيجة الوحيدة لهذه القراءة "الجديدة" والمقترحات "الجديدة" ستكون استبعاد مبدأي "الحفاظ على العرض" و"الحفاظ على الدين" من مقاصد الشريعة الإسلامية؟!.. وهي نتيجة أستبعد أن يسعى إلى تقريرها وتحقيقها الدكتور نصر حامد أبو زيد، بل وأعيذه من أن تكون هذه هي المقاصد الكلية لقراءته الجديدة للنصوص الدينية؟!. ثم.. من الذي يقول إن مبدأ "الحفاظ على الدين" هو "مبدأ جزئي"، وليس من "المبادئ الكلية"؟!.. فأين تكون "الكلية" إذا لم تكن في "الإطلاق.. والخلود.. والشمول" الذي يختص به الدين.. والدين الإسلامي على وجه الخصوص؟!. إن أغلب حواراتنا هي "ضحايا" بائسة للفوضى الشائعة في مضامين المصطلحات. وعلينا - كي يفهم كل منا الآخر، ولتحديد مناطق الاتفاق، ومناطق الاختلاف، ولتنظيم حوار موضوعي وجاد وبناء- أن بدأ بتحرير وتحديد مضامين ومفاهيم المصطلحات. والله أعلم. محمد عمارة |