ابن العديم أنصف المعري ( من قبل 3 أعضاء ) قيّم
ما أنصف ،على حد علمي، صاحب كتاب من كتب التراث الأدبي والتاريخي أبا العلاء المعري كابن العديم . ففي (بغية الطلب في تاريخ حلب) بدا ابن العديم ناقدا عالما، وعاقلا منصفا وواعيا. فهو لم يسلك مسلك النقلة دون أن يمحص ما ينقل أو يروى . وهاهو يحدثنا عما قرأه في كتاب غرس النعمة بخصوص المعري، يقول: وقرأت في تاريخ غرس النعمة ابن الصابىء: أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري الشاعر، الأديب الضرير، وكان له شعر كثير، وفيه أدب. غزير، ويرمى بالالحاد، وأشعاره دالة على ما يزن به من ذاك، ولم يك يأكل لحوم الحيوان ولا البيض، ولا اللبن، ويقتصر على ما تنبته الأرض، ويحرم ايلام الحيوان ويظهر الصوم زمانه جميعه، ونحن نذكر طرفا مما بلغنا من شعره ليعلم صحة ما يحكى عنه من الحاده، وله كتاب سماه الفصول والغايات عارض به السور والآيات، لم يقع إلينا منه شيء فنورده.* وذكر أشعارا: نسبها إليه، فمنها ما هو من شعره في لزوم ما لا يلزم وفي استغفر وأستغفري قد أجاب عنها في كتابه المعروف بزجر النابح والكتاب بنجر الزجر، وإذا تأملها المنصف حق التأمل لم يجد فيها ما يوجب القدح في دينه، ومنها ما وضع على لسانه وتعمل تلامذته المنحرفون وغيرهم من الحسدة نظمها على لسانه وضمنوها أقاويل الزنادقة، وفيها من ركاكة اللفظ والعدول عن الفصاحة التي هي ظاهرة في شعره ما يوجب نفيها عنه وبعدها منه، فمما أورده وهو موضوع عليه: إذا كان لا يحظى برزقك عاقل وترزق مجنوناً وترزق أحمقا فلا ذنب يا رب السماء على إمرىء رأى منك ما لا يشتهى فتزندقا وهذا شعر في غاية السقوط والنزول والهبوط، يقضي على ناظمة بالجهل والعمه والكفر والسفه ومما أورد من الأشعار الموضوعة على لسانه البعيدة عن فصاحته وبيانه. صرف الزمان مفرق الإلفين فاحكم إلهي بين ذاك وبيني أنهيت عن قتل النفوس تعمداً وبعثت أنت بقبضها ملكين وزعمت أن لها معاداً ثانياً ما كان أغناها عن الحالين ولم يعز غرس النعمة شيئا من هذه الأشعار المكذوبة إلى كتاب يعتمد عليه، ولا: نسب روايتها إلى ناقل أسندها إليه، بل اقتصر في ذكرها كما ذكر على البلاغ ولم يتأمل أن مثلها مما يختلق عليه زورا ويصاغ. وقد نسج أبو يعلى بن الهبارية** على منوال غرس النعمة من غير فكر ولا روية، فقال في كتابه الموسوم بفلك المعاني المشحون بقول الزور فيما ينقله ويعاني: وقد قال أبو العلاء أحمد بن سليمان مع تحذلقه ودعواه الطويلة العريضة وشهرته نفسه بالحكمة ومظاهرته: ونهيت عن قتل النفوس تعمداً وبعثت تقبضها مع الملكين وزعمت أنّك في المعاد تعيدها ما كان أغناها عن الحالين قال ابن الهبارية**: وهذا كلام مجنون معتوه يعتقد أن القتل كالموت، والموت، كالقتل، فليت هذا الجاهل الذي حرم الشرع وبرده، والحق وحلاوته، والهدى ونوره، واليقين وراحته، لم يذع ما هو برىء منه بعيد عنه ولم يقل: غدوت مريض العقل والرأي فأتني لتخبر أنباء الأمور الصحائح حتى سلط الله عليه أبا نصر بن أبي عمران داعي الدعاة بمصر، فقال: أنا ذلك المريض رأياً وعقلاً، وقد أتيتك مستشفياً فاشفني، وجرت بينهما مكاتبات كثيرة، وأمر باحضاره حلب، ووعده على الإسلام خيراً من بيت المال، فلما علم أبو العلاء أنه يحمل للقتل أو الإسلام سم نفسه فمات. ويعلق ابن النديم فيقول: وابن الهبارية لا يعتمد على ما ينقله، وأبو نصر بن أبي عمران هو هبة الله ابن موسى، المؤيد في الدين، وكان اجتمع بأبي العلاء بمعرة النعمان، وذكرنا فيما نقله ابن الزبير باسناده أنه كانت بينه وبين أبي العلاء صداقة ومراسلة، وذكر حكايته معه. وأما الرسائل التي جرت بينه وبين أبي العلاء فإنني وقفت عليها، وملكتها نسخه، والمؤيد في الدين ابتداه وقال: بلغني عن سيدنا الشيخ بيتاً، وذكر البيت المذكور، وقال: أنا ذلك المريض عقلاً ورأياً وقد أتيتك مستشفياً، لم امتنعت عن أكل اللحم؟ فأجابه أبو العلاء أن ذلك لرقة تأخذه على الحيوان، وأن الذي يحصل له من ملكه لا يقوم بسعة النفقه. فأجابه بجواب حسن وقال: إنه قد تقدم إلى الوالي بحلب أن يحمل إليه ما يقوم بكفايته، لا كما ذكرابن الهبارية بأن يحمل إلى حلب، وأنه وعد عن الاسلام خيراً من بيت المال، فامتنع أبو العلاء عن قبول ما بذله له وأجابه عن كتابه بجواب حسن، فورد جواب المؤيد في الدين يتضمن الاعتذار إليه عن تكليفه المكاتبة في المعنى المذكور، وشغل خاطره، لا كما ذكر ابن الهبارية. وكذلك قول ابن الهبارية أن أبا العلاء سم نفسه فمات، خطأ فاحش من القول فإن أبا العلاء مات حتف أنفه بمرض أصابه، وسنذكر ذلك إن شاء الله في ذكر وفاته. يتبع إن شاء الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ما لم يقع لابن الصابيء ذكرته كتب عديدة وهو نص من كتاب للمعري اسمه: الفصول والغايات في تمجيد الله والعظات . والفقرة التي ذكرتها الكتب هي: أقسم بخالق الخيل والريح الهابة بليل بين الشرط ومطالع سهيل إن الكافر لطويل الويل، وإن العمر لمكفوف الذيل، اتق مدارج السيل، وطالع التوبة من قبيل تنج وما أخالك بناج. قال ابن العديم في بغية الطلب: وقرأت بخط الشيخ أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي في كتاب له تتبع الكلام فيه على الصرفة ... وقد حمل جماعةً من الأدباء قول أرباب الفصاحة أنه لا يتمكن أحد من المعارضة بعد زمان التحدي على أن نظموا على اسلوب القرآن وأظهر ذلك قوم وأخفاه آخرون... وعلق ابن العديم قائلا: وهذا الكلام الذي أورده ابن سنان هو في كتاب الفصول والغايات في تمجيد الله تعالى والعظات وهو كتاب إذا تأمله العاقل المنصف علم أنه بعيد عن المعارضة وهو بمعزل عن التشبه بنظم القرآن العزيز والمناقضة، فإنه كتاب وضعه على حروف المعجم، ففي كل حرف فصول وغايات، فالغاية مثل قوله: بناج، والفصل ما يقدم الغاية، فيذكر فصلاً يتضمن التمجيد أو الموعظة ويختمه بالغاية على الحرف من حروف المعجم، مثل تاج، وراج، وحاج، كالمخمسات والموشحات في الشعر. ** ابن الهبارية : ذكره العماد في خريدة القصر (وذكره غيره) قال: الشريف أبو يعلى محمد بن محمد بن صالح من بغداد من شعراء نظام الملك. غلب على شعره الهجاءُ والهزل والسّخف، وسبك في قالب ابن الحجّاج، وسلك أسلوبه، وفاقه في الخلاعة والمجون. والنّظيف من شعره في نهاية الحسن. وقد ذكر العاملي في الكشكول قصة أعف عن ذكرها من كثر ما هي مخزية، وقد عزا روايتها للشريف ابن الهبارية هذا . وأرجو أن لا تكون صحيحة بحال. وليت شعري هل كان ابو العلاء المعري إلا رجلا نظيفا عفيفا طاهر الذيل!
|