قديما قالوا : إن الغضب جمرة في جوف الإنسان تحمر منها عيناه ، وتنتفخ أوداجه ، وتحمل صاحبها عل الإضرار بالآخرين والانتقام منهم والعدوان عليهم .
وهذا الغضب ذمته الشرائع ،وقبّحته التعاليم ،ونبذته الفطر السليمة ...ولكن هناك نوع من الغضب واجب تحققه ، وفرض وجوده، ولزاما على الناس أفرادا وجماعات أن يتحلوا به ..إنه الغضب لله إذا انتهكت الحرمات ، و الغضب للوطن إذا سرقت الثوابت ، والغضب للمقدسات إذا دنست الساحات ..والغضب للمظلوم إذا لم يجد ناصرا ولا معينا ..
في هذه الأيام يعلن الكيان الصهيوني قراره العنصري لإبعاد عشرات الآلاف من الفلسطينيين عن الضفة الغربية المحتلة .! وسوف يسري العمل بهذا القرار قريبا، والأمور كلها جاهزة، وكأن الصهاينة في سباق مع الزمن ..
كل ذلك وسط صمت فلسطيني رسمي مريب ، وصمت عربي غريب ..ولم يحرك أحد ساكنا ، ولم يغضب أحد ، والتزم الجميع الأدب ! لأن الغضب جريمة عقوبتها النفي والإبعاد والإسقاط من هذا العرش أو ذاك ...
ويأتي هذا القرار وفق دراسة إسرائيلية وصلت إلى حد المشاورات ، وأخذت موافقة من بعض الجهات في الإدارة الأمريكية وسكوت ورضا دول عربية مجاورة عُرف عنها أنها " لا تغضب!!" حول خطط لنسف مشروع دولة فلسطينية في أراضي 67 ، والقيام بخطة الترحيل إلى سيناء لإنشاء دولة فلسطينية هناك في مقابل استرضاء مصر والأردن على أن تبقى الضفة الغربية كاملة تحت السيادة الإسرائيلية !!.
إن رؤساء العرب سوف يجتمعون في قمة عربية طارئة ، ولكنها لن تكون قمة غاضبة ، بل قمة لحسن السيرة والسلوك لن تزيد بياناتها عن الشجب والتنديد والاستنكار ، ولكن دون احمرار العينين أو انتفاخ الأوداج ..فصحة زعمائنا أغلى عندنا من مثل هذا الصنيع الذي يقعدهم عن أداء الواجب ، أو يصيبهم بعطب مزمن في أجهزتهم النشطة ..!!.
وليس بعيدا عن أرض الرباط تتحرك بعض النخب المتنورة التي رزقت نعمة الغضب في شوارع قاهرة المعز ، لتعبّر عن رفضها لقوانين الطوارئ ، وتطالب بإعادة النظر في الدستور ، وترفض التوريث ، وتختار مرشحا للرئاسة ...ولكن الغضب الذي يغير الأوضاع ، ويؤدب الظَلَمة ، ويدافع عن الحريات ، ويثور على الذين يبيعون الغاز والحديد لإسرائيل ، والذين يريدون قانونا لنهب آثار مصر ، والذين يُطعمون الشعب الخبز المسرطن ، والذين يحتفلون بأعياد ميلادهم في نوادي الماسونية ...
إن هؤلاء جميعا لن يغضبوا أبدا مادام الغضب يحجب عنهم المنافع ، ويحرمهم الضّرع الذي يدرُّ عليهم لبنا خالصا سائغا للشاربين !!!.
وأتوقع أن صيف هذا العام سوف يكون صيف الغضب في مصر المحروسة ..لأن أوهام ثورة يوليو1952 اقتربت من نهايتها ، ولا يصح إلا الصحيح ، ومهما طال الليل فلا بد من طلوع الفجر ، والقادمون من الشباب الجدد لم يستمرئوا الهراء بتمجيد الثورات التي لم تجن منها الشعوب إلا استقلالا مزيفا خرجت به من ظلم الأجنبي إلى ظلم ذوي القربى !!.
إنهم يعبرون عن عمق الأزمة السياسية والاجتماعية في مصر ، وبهم سوف يبزغ فجر مصر الجديد ،ولن يستطيع النظام المتهاوي مهما أوتي من وسائل القمع أن يُسكت الغضب المتفجر ...فقد انكسرت الحواجز ، وانكشف المستور ، ولم يعد هناك شيء يُخاف عليه !.
وبعيدا عن هذا التهريج هناك في أرض الشهداء ، في أرض الجزائر الثائرة ، تطلع علينا وزارة الداخلية بقرار منع الخمار واللحية في بطاقات الهوية وجواز السفر البيومترية ظنا منها أنها تواكب العبقرية في ميدان السلامة والأمن البيومتري ، ولم يعلم هذا المسئول أو ذاك أن هذه التكنولوجيا والتقنية المعلوماتية سبقتنا إليها دول في الشرق والغرب ، ونحن لا ننكر فوائدها في حفظ الأمن ، ومنع التزوير ، ورصد تحركات المشبوهين ..
وقد كانت البداية من أمريكا التي أنتجتها وصدرتها ثم فرضتها على العالم ، وبالرغم من أن كثيرا من الدول جلبت لمواطنيها المتاعب كسويسرا وبلجيكا وألمانيا وآخرهم فرنسا إلا أن واحدة منهم لم تطرح مسألة الخمار واللحية كشرط لاستخراج البطاقات والجوازات ، واحترمت خصوصيات الأقليات المسلمة التي تعيش في ديارها إلا في فرنسا التي تشكل الاستثناء ، وثبت أن هناك 60 علامة في الوجه يعتمدها التفكيك الضوئي للوجه ، تمثل خصوصيات مدللة على صاحبها بعيدا عن اللحية الكثيفة ، والأذنين اللتين تريد الداخلية أن تبعث بالخمار وراءهما !!.
إن هذا الاستفزاز لمشاعر الناس لن يقابله إلا الغضب الجزائري المدمّر ، الذي لا يعرف الحوار ولا التفاهم ، بل يمضي إلى ساحات العنف والصدام ..وقد أمضينا سنوات العنف بما فيه الكفاية ، وليس للمسئول الجزائري إلا أن يكفكف من غلواء التحدي لمشاعر شعب لم يبق له إلا بعض من ثوابته التي يفاخر بها .
وعندما تصاب مشاعر الأمة بالتكلس ، وأحاسيسها بالتأسن ، ولا تغضب حيث يجب الغضب فعلى الأمة السلام ، وليس على حكامها من ملام
وقديما كانت برودة الأعصاب ، وتصلب المشاعر ، وعدم الغضب سببا في سقوط دولة من أعظم دول الإسلام ، وهي دولة بني أمية ..
حيث كان واليها البطل على خراسان (نصر بن سيار) يطلق صيحاته المدوية إلى العرب في خراسان حتى يغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب ، ويصحوا من غفلتهم ، وينتبهوا إلى ما يحاك لهم من مؤامرات تطيح بدولتهم وتُذهب ريحهم ..ولكن صيحاته ذهبت في واد سحيق ليس له قرار ..فالآذان صمٌّت عن السماع ، ولم يكن من الهزيمة بدٌّ.
ومما قاله نصر بن سيار :
أبلغ ربيعة في مرو وإخوتهم أن اغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب
ولكن العرب في خراسان لم يغضبوا ، وبنو أمية في بلاد الشام لم يغضبوا ، فلم تغن عنهم النّذر ، واستطاع بنو العباس أن يجهزوا على الجسد المتهالك ، ويُسقطوا دولة الأمويين إلى الأبد ..!.