قال تعالى:﴿والتفت الساق بالساق* إلى ربك يومئذٍ المساق﴾.
ما الذي يمكن أن نفهمه من هذه الآية ﴿والتفت الساق بالساق﴾ ؟
أولاً: لا بد من أن نقول: إن كلمة (الساق) تطلق على ما بين الركبة والقدم. هذا من حيث تحديد العضو في الإنسان.
ثانياً: هنالك أقوال كثيرة تتجاوز المئة حول المراد من هذه الآية، لذلك سأعرض عليكم جملة من هذه الأقوال، ثم بعد ذلك سأقول رأيي.
أهم هذه الأقوال:
1- المراد من الآية ﴿والتفت الساق بالساق﴾ أي ساقا الميت إذا التفّتا وهما في الكفن. وهذا القول مروي عن سعيد بن المسيب.
2- المراد من الآية ﴿والتفت الساق بالساق﴾ أي يبست ساقا الميت، لأن الروح تخرج أول ما تخرج من القدم، فالساق، فالفخذ، فالبطن، فالصدر، فالترقوة... فالرأس. فإذا يبست الساقان، فإن الساق تلتفُّ بالساق. وهذه حالة بيولوجية (جسمية).
3- المراد من الآية ﴿والتفت الساق بالساق﴾ أي اجتمع عليه أمران شديدان: الناس يُجهزون جسده (تغسيل وتكفين...) والملائكة تُجهز روحه، فساق الأمر الشديد بالتجهيز لجسده، يجتمع مع ساق الأمر الشديد بالتجهيز لروحه، فالساق تطلق على الأمر الشديد.
4- المراد من الآية ﴿والتفت الساق بالساق﴾ أي التفت شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة، فالساق هنا المراد بها الشدة. ولكن من أين أتى هذا المعنى ؟
الجواب: أوليس اللغويون يقولون: عندما يُقتحم الإنسان بأمر شديد، أو يستقبل أمراً شديداً: (شمّر عن ساقيه)، فالتشمير عن الساق تعبير عن وقوع شدة، ثم أُطلقت الساق على الشدة، وهذا ما نسميه في اللغة: (مجاز المرسل)، وهو إطلاق الحال على المحل والمحل على الحال.
مثلاً نقول: جرى النهر. هذا مجاز مرسل، أطلقنا المحل على الحال، فالنهر لا يجري وإنما يجري الماء، وكذلك نقول: واسأل القرية. هذا أيضاً مجاز مرسل، أطلقنا المحل على الحال، والمراد واسأل أهل القرية.
المهم: أن الساق تعني الشدة، ﴿والتفت الساق بالساق﴾ أي التفت شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة، فالشدة ساق، لأن الإنسان إذا داهمته شدة شمّر عن ساقيه، فأطلقنا الشدة على الساق والساق على الشدة من باب المجاز المرسل، كقوله تعالى:﴿ يوم يُكشف عن ساق...﴾ أي يكشف عن شدة كبيرة تعتري الناس في اليوم الآخر.
5- أما رأيي فأقول: المراد من الآية ﴿والتفت الساق بالساق﴾ هو أنّ للإنسان ساعدين وساقين. الساعد: هو ما بين الكف إلى المرفق، والساق: هي ما بين القدم إلى الركبة، وعندما يلتقي الإنسان بالإنسان نقول: التفت السواعد بالسواعد (التقاء الأيادي)، لكن عندما يفترق الإنسان مع الإنسان نقول: التفّت الساق بالساق، التفت الأيادي عند اللقاء، والتفت السوق ( جمع ساق) عند الفراق.
كيف تلتف السوق عند الفراق ؟ التفاف الأيادي عند اللقاء أمر معروف، أما التفاف السوق (الساقين) عند الفراق، فهذا لأنني عندما أتركك وتتركني، أنت تتركني وقد حاكت ساقي ساقك، فأنت تغادرني باتجاهٍ معاكس، أنت تغادرني إلى الشمال وأنا أغادرك إلى الجنوب، تلتقي الساقان لقاء قوياً، تلتفّ الساق بالساق، لكن من أجل الفراق وليس من أجل اللقاء.
﴿والتفت الساق بالساق﴾ أي ساقُ الميت التفت بساقِ الحيّ الذي هو بجانبه، فالميت يمكن أن يكون أباك ويمكن أن يكون ولدك ويمكن أن يكون صديقك... وأنت الآن معه، سيفارقك وستكون هذه المفارقة بالتفافِ ساقه مع ساقك، لأن الفراق يُعبَّر عنه بالحركة التي ركّب الله عز وجل الإنسان عليها بالتفاف الساق بالساق.
هنالك معاكسة بين السوق والسواعد، فالسواعد دائماً يُعبر عنها: بالقوة والترحاب واللقاء، والسوق يُعبر عنها: بالفراق والشدة والقسوة وعدم التلاقي...، لذلك ﴿والتفت الساق بالساق﴾ توصيف لحالة طبيعية تُعبر عن الفراق.
ولو نظرنا إلى الآية التي قبلها ﴿وظن أنه الفراق* والتفت الساق بالساق﴾ يعني لا تظنَّ أنه الفراق بل اعتقد بأنه الفراق، لأن ساق الميت التفت بساق الحي، وإذا التفت الساق بالساق فذاك الأمر يعني المفارقة وانتهى الأمر.
ثم لماذا قال الله: ﴿والتفت الساق بالساق﴾ ولم يقل:( التفت الساقان بالساقين) ؟
الجواب: لأن الساق الأولى للميت والساق الثانية للحي، وكذلك بالنسبة لنا نحن الأحياء: تلتف ساقك اليمنى بساقي اليمنى، وساقك اليسرى بساقي اليسرى من تلك الجهة، فأنت تقف أمامي الآن ونريد أن نفترق فتضع أنت ساقك بجانب ساقي ويذهب كل باتجاه، الميت يذهب إلى الآخرة وأنت تذهب إلى الدنيا. ولكن كيف تذهب إلى الدنيا وأنت باقٍ فيها ؟ والجواب: لأن الإنسان الحي ليس واقفاً في مكانه وإنما هو في ذهابٍ في هذه الدنيا، والله عز وجل يقول: ﴿بل هم في لبس من خلق جديد﴾ لأن الإنسان دائماً في حركة مستمرة من حيث الخلايا والتكوين، ومن حيث السلوك والمعاني والتفكير... والإنسان لا يقف أبداً لا في حياته ولا في مماته، لذلك ﴿والتفت الساق بالساق﴾ لأن التفاف الساق بالساق عنوان الفراق.
وفي عودة إلى الآيات التي قبلها: ﴿كلا إذا بلغت التراقي﴾ فإننا نرى أن جواب الشرط هو قوله تعالى ﴿إلى ربك يومئذ المساق﴾ فيكون المعنى: إذا بلغت التراقي فإلى ربك يومئذٍ المساق. وكلمة (مساق) هي مصدر ميمي من ساق يسوق سوقاً، مثل كلمة (مقال) من قال يقول قولاً. ﴿إلى ربك يومئذ المساق﴾ أي ستساق أنت إلى ربك أيها الإنسان فهيّا إلى الله عز وجل.
نسأل الله أن يسوقنا إليه ونحن مطمئنون للوقوف بين يديه، لا نجيب إلا بما يرضيه عنا جل وعلا.