البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الفلسفة و علم النفس

 موضوع النقاش : نبأ الخلق في تاريخ العالم من الميلاد حتى الفناء    قيّم
التقييم :
( من قبل 1 أعضاء )
 عبود 
16 - أبريل - 2010
مقدمة المؤلف
 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي )
صدق الله العظيم
بسم الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وأتوب إليه، إله الأولين والآخرين، أرسل الرسل وأنزل الكتب وأقام الحجة على الخلق أجمعين، الحمد لله رب العالمين الأول قبل كل شيئ والآخر بعد كل شيئ والدائم بلا زوال، له الكبرياء والعظمة والبهاء والعزة والسلطان والقدرة، يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار وهو اللطيف الخبير، أحمده وأشكره وأستهديه لما يقربني منه ويرضيه مخلص له التوحيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا بن عبد الله عبده النجيب ورسوله الأمين، اصطفاه لرسالته وابتعثه بوحيه داعيا خلقه إلى عبادته، فصدع بأمره وجاهد في سبيله ونصح لأمته، فقد قال الله تعالى في كتابه ( كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا وقد قص الله على نبيه (ص) خبر ما مضى من خلق المخلوقات وذكر الأمم الماضين وكيف فعل بأوليائه وماذا أحل بأعدائه وبين ذلك رسول الله (ص) لأمته بيانا شافيا.
لقد كان العلماء السابقين قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم فكانوا لا يلتفتون إلى أهل الدنيا ولا إلى ما في أيديهم، وكان أهل الدنيا يبذلون إليهم دنياهم رغبة في علمهم فأصبح أهل العلم فينا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في الدنيا، وأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم، وإني لأستحي من الله عز وجل أن أعبده رجاء ثواب الجنة فقط فأكون كالأجير السوء إن أعطى عمل وإن لم يعط لم يعمل، وإني لأستحي من الله أن أعبده مخافة النار فقط فأكون كالعبد السوء إن رهب عمل وإن ترك لم يعمل، وإني ليستخرج مني حب الله ما لا يستخرج مني غيره.
قال سليمان وهو صاحب الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده: والله لتسبيحة واحدة يقبلها الله عز وجل منك أو من مؤمن خير مما أوتى آل داود من الملك، لأن ما أوتى آل داود من ملك الدنيا يفنى والتسبيحة تبقى وما يبقى خير مما يفنى.
فما عيش من قد عاش بعدي بنافعي      ولا موت من قد مات يوما بمخلدي
إن أخاً لك كلما لقيك ذكرك بنصيبك من الله وأخبرك بعيب فيك، أحب أليك وخير لك من اخ كلما لقيك مدحك أو وضع في كفك دينارا وكما قال الشاعر أبو جعفر الكاتب أحمد بن يوسف بن صبيح:
قد يرزق المرء من غير حيلة صدرت     ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الداهي
ما مسـني من غنى يوما ولا عــدم    إلا وقـولي عليه الحمــــــد لله
 
عبدالرحمن ملا عثمان
20/11/1999م
 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( عَلَّـمَ الْإِنْسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَـمْ )
صدق الله العظيم
 
أكتب هذه المقدمة بعد أن قطعت تسع سنين من يوم أن قررت الكتابة في هذا المجال، وبعد أن قرأت واطلعت على عدد لا بأس به من الكتب والدراسات التي قام بها الكثير من السابقين، ولا أزال في هذه المغامرة التي لا أدري متى ستنتهي، وسأمضي في الكتابة على قدر استطاعتي وعلى قدر الامتداد الزمني الذي يسير بي إلى الوقت المكتوب لي به من حياتي وكما قال الشاعر أبو جعفر الكاتب أحمد بن يوسف بن صبيح:
إذا قلت في شيء نعم فأتمه        فإن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل لا، تسـتريح بها         لئلا يقول الناس إنك كــاذب
إنه ضرب من الجنون في عزمي لكتابة قصة الخلق والإلمام بجميع النواحي الثقافية والاقتصادية من الزراعة والصناعة والتجارة والمالية والسياسية والقانونية والحربية والأخلاقية والاجتماعية وآداب السلوك والدينية والتربوية والعلمية والطبية والفلسفية والأدبية والفنية والحكم والموسيقى... كاملاً منذ البدء، إنه لمن الحمق أن تتحدث في كل ضروب المعرفة ولكنها محاولة جريئة لا تخلو من الغرور، فأنا أمشى إلى الخلف بينما الناس في تقدم، فنجد التخصص في العلوم التطبيقية كالهندسة والطب مثلاً تتعدد سنة بعد سنة حتى أصبح طبيب اليوم مثلاً لا يفقه من الطب العام إلا جزءاً يسيرا، وكذلك الهندسات والإقتصاد... والعلوم الأخرى، بينما أنا فأريد للإنسان أن يكون كما كان سابقا ملمّاً بعلوم متعددة في وقت واحد، كالطب والهندسة والفلسفة والتاريخ والفلك والدين... فعلى القارئ أن يعرف المبادئ والقواعد الأساسية على الأقل للطب والهندسة والقانون والاقتصاد والأدب والفن...، وهو موجه لكل عالم ديني من أئمة المسلمين وأحبار اليهود وقساوسة المسيحية ورؤساء المعابد البوذية...، كما أنه لكل الناس من فلاح وعامل ومهندس وطبيب وعالم فلك أو رياضيات أو تاجر أو عتّال أو عسكري أو مدني...، وعلى الجميع أن يفهم الجميع من أبسط البسطاء إلى أعقد المعقدين أو الفلاسفة، ولقد قررت أن أمضي قدماً في إعادة كتابة التاريخ بعد اطلاعي على الكثير من الكتب التي سردت في هذا المجال معلومات قيّمة ولكنها لا ترتقي إلى الكمال، وأنا أعلم أنه لن تسعفني السنين للوصول إلى الكمال الذي أصبو إليه وإنْ الكمال إلا لله وحده فقد أبي الله أن يصح إلا كتابه، ولكن هذا جهد المقل وبذل الاستطاعة وما يكلف الإنسان إلا ما تصل قدرته إليه وفوق كل ذي علم عليم، والله يستر عيوبنا بكرمه ولا يكدر علينا ما منحنا من مشرع عظاته المنير الصافي إن شاء الله تعالى بمنه وكرمه.
لقد وجدت أن معظم الكتب التاريخية غير العربية تبدأ من اليونان والكثير من الكتب العربية تبدأ من المنطقة العربية تاركين الشرق الأقصى وأمريكا وأفريقيا دون ذكر، ولكي نكون منصفين في هذه الإعادة لكتابة التاريخ الكامل سوف نستقصي ما أمكننا شرقا وغربا وشمالاً وجنوباً.
ما تطعمت لذة العيش حتى        صرت للبيت والكتاب جليسا
ليس عندي شيء ألذ من الــــعلم فما أبتغي سـواه أنيسا
ومن حق الفيلسوف في مقابل هذا أن يترك حراً يسعى وراء الحقيقة، ولكن عليه مع ذلك أن يحصر مناقشاته في دائرة المتعلمين ومداركهم وألا يعمد إلى الدعوة لآرائه بين العامة.
 
عبدالرحمن ملا عثمان
1 / 6 / 2002م
 
 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )
صدق الله العظيم
 
أيها الناس أما بعد فان أصدق الحديث كتاب الله وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة ابراهيم وخير السنن سنة محمد (ص) واشرف الحديث ذكر الله وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الامور عوازمها وشر الامور محدثاتها وأحسن الهدي هدي الانبياء واشرف الموت موت الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى وخير الاعمال ما نفع وخير الهدى ما اتبع وشر العمى عمى القلب، وخير الغنى غنى النفس وخير الزاد التقوى ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل والخمر جماع الاثم والنساء حبائل الشيطان، والسعيد من وعظ بغيره والشقي من شقي في بطن أمه وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة اذرع والأمر الى الآخرة، وملاك العمل خواتمه وشر الروايا روايا الكذب وأكل لحم المؤمن من معصية الله وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يصبر يضعف الله له ومن يعص الله يعذبه الله.
إن الفهم الصحيح للحياة يقتضي الوقوف على الحياد في كل الأمور والتحرر من العبودية بشكل كامل كالمشاهد لفلم سينمائي ليس له أن يغيّر في أحداثه من شيء، فنجد أن حضارات شتى سادت ثم بادت في أمكنة كثيرة من العالم، كانت في حقبة من الزمان مسيطرة على العالم ونجدها الآن من العالم الثالث أو الخامس بالنسبة لبلدان أصبحت الأولى في العالم، فنجد على سبيل المثال طريق الحرير الذي يمتد من الهند الى أوروبا ماراً بالمنطقة العربية كانت المدن مزدهرة على امتداده فأصبحت اليوم في ذاكرة النسيان، وعواصم لإمبراطوريات كانت تسيطر على العالم شرقا وغربا وازدهرت يوماً بالسلطان والعمران آلت الى الإنحطاط أو حتى إلى الزوال، ونجد اليوم أن مدنا ودولاً لم تكن معروفة في جزء كبير من المعمورة ازدهرت وأصبحت مسيطرة على العالم في حين أن امبراطوريات ومدن لها تاريخ طويل من الإزدهار لم تعد موجودة، وقد تكون قبائل البدو على درجة نادرة من الفتوة والذكاء وقد تبدي من ألوان الخُلق أسماها كالشجاعة والكرم، لكن ذكاءها بغير الحد الأدنى من الثقافة التي لا بد منها ستنفقه في مخاطر الصيد ومقتضيات التجارة بحيث لا يبقى لها منه شيء للمدنية، وفي دائرة الزراعة الضيقة من الطمأنينة ترى الإنسان يبني لنفسه الدُّور والمعابد والمدارس ويخترع الآلات التي تعينه على الإنتاج ويستأنس الكلب والحمار، ثم يسيطر على نفسه آخر الأمر فيتعلم كيف يعمل في نظام ويحتفظ بحياته أمداً أطول ويزداد قدرة على نقل تراث الإنسانية من علم وأخلاق نقلاً أميناً.
إن الثقافة تجمع في المدينة ما ينتجه الريف من ثراء ومن نوابـغ العقول، وفي المدينة يتلاقى التجار حيث يتبادلون السلع والأفكار فتتلاقح العقول وتُستثار فيه قوته على الخَلق والإبداع، فتراهم يتوفرون على إنتاج العلم والفلسفة والأدب والفن فتبدأ المدنية في كوخ الفلاح ولكنها لا تزدهر إلا في المدن، وليس هو الجنس العظيم الذي يصنع المدنية بل المدنية العظيمة هي التي تخلق الشعب، لأن الظروف الجغرافية والاقتصادية تخلق ثقافته والثقافة تخلق النمط الذي يصاغ عليه، ولا بد من قانون خلقي يربط بينهم عن طريق الدين أو الأسرة أو المدرسة أو غيرها حتى تكون هناك في لعبة الحياة قاعدة يرعاها اللاعبون ويعترف بها حتى الخارجون عليها، ولا بد من تربية لكي تنتقل الثقافة على مر الأجيال فنورث الناشئة تراث القبيلة وروحها، نورثهم نفعها ومعارفها وأخلاقها وتقاليدها وعلومها وفنونها سواء كان ذلك التوريث عن طريق التقليد أو التعليم أو التلقين، وسواء في ذلك أن يكون المربي هو الأب أو الأم أو الإمام أو المعلم أو القسيس، لأن هذا التراث إن هو إلا الأداة الأساسية التي تحول هؤلاء من مرحلة الحيوان إلى طور الإنسان، ولو انعدمت هذه العوامل بل ربما لو انعدم واحد منها لجاز للمدنية أن يتقوض أساسها، كزوال الخصوبة من الأرض أو فساد الزراعة بسبب طغيان الحواضر على الريف، بحيث ينتهي الأمر إلى اعتماد الناس في أقواتهم على ما يرد إليهم متقطعاً من بلاد أخرى، أو استنفاد الموارد الطبيعية في الوقود أو المواد الخام أو تغيُّر في طرق التجارة تغيراً يُبعد أمة من الأمم عن الطريق الرئيسية لتجارة العالم، إذ المدنية ليست شيئاً مجبولاً في فطرة الإنسان ولا هي شيء يستعصي على الفناء، إنما هي شيء لا بد أن يكتسبه كل جيل من الأجيال اكتساباً جديداً، فإذا ما حدث اضطراب خطير في عواملها الاقتصادية أو في طرائق انتقالها من جيل إلى جيل فقد يكون عاملاً على فنائها، وإن الإنسان ليختلف عن الحيوان في شيء واحد وهو التربية وهي الوسيلة التي تنتقل بها المدنية من جيل إلى جيل، والمدنيات المختلفة هي بمثابة الأجيال للنفس الإنسانية، فكما ترتبط الأجيال المتعاقبة بعضها ببعض بفضل قيام الأسرة بتربية أبنائها ثم بفضل الكتابة التي تنقل تراث الآباء للأبناء، فكذلك الطباعة والتجارة والصناعة والزراعة وغيرهما من ألوف الوسائل التي تربط الصلات بين الناس، قد تعمل على ربط الأواصر بين المدنيات وبذلك تصون للثقافات المقبلة كل ما له قيمة من عناصر مدنيتنا، فلنجمع تراثنا قبل أن يلحق بنا الموت ولنُسلمه إلى أبنائنا.
 
عبدالرحمن ملا عثمان
01/01/2007
 1  2 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
تابع    كن أول من يقيّم
 
في هذه الصفحات العجلى يدخل الضمير دائماً في سباق مع الزمن وينبه القلم المستعجل إلى أنه كالمسافر المسرع إنما يمس السطح فقط، فكم من ناشرين ومعلمين وعلماء وأدباء ورعاة للعلم وشعراء وروائيين وثوار متهورين جاهدوا نصف قرن لينتجوا هذا الأدب الذي ضغطناه في هذه الصفحات، كم من روائع أغفلنا اسمها وأمم ضربنا صفحاً عن ذكرها وأشخاص كانوا يوماً في عداد العباقرة الخالدين أهملناهم إلا من كلمات معدودات، ولكن لا حيلة لنا في هذا فالمداد ينضب ويجب قبل نضوبه أن نقنع بما يسفر عنه خطوطه من صورة غائمة لرجال ونساء يتخففون برهة من عناء اللاهوت والحرب، ويحبون أشكال الجمال كما يحبون سراب الحقيقة والقوة يبنون الألفاظ وينحتونها ويصورونها إلى أن يجد الفكر فناً يكسوه، وتمتزج الحكمة بالموسيقى وينهض الأدب ليتيح لأمة أن تتكلم ولعصر أن يصب روحه في قالب شكل في شغف كبير ليصونه الزمن نفسه وينقله خلال مئات الكوارث تراثاً للبشرية، وكثيراً ما شرعت في هذا الكتاب وكثيراً ما طرحته جانباً وقذفت بالأوراق التي كتبتها ألف مرة، إن الدرب طويل ولقد أضناني الأسى والإرهاق فأدخلن يا ربات الفنون والعلوم على قلبي البهجة والفتنة اللتين تدفعان بي إلى السير في الطريق، لقد عرفتهما يوماً ولكنهما الآن تخلتا عني، أنتن لستن مقدسات مطلقاً إلا حين تتولين قيادنا عن طريق اللذة والسرور إلى الحكمة والحق، لقد سلكت طريقي نحو الهدف دون إعداد خطة ولم أعرف أية قاعدة ولا شواذ وما عثرت على الحقيقة إلا لافتقادها ثانية، ولكن عندما وقعت على الأصول والمبادئ ذات مرة وأتاني كل ما كنت أفتش عنه في غضون عشرين عاماً وجدت أن العمل قد بدأ وخطا خطوات ثم أشرف على الاكتمال حتى أُنجز، فإذا صادف هذا العمل نجاحاً فأني سأكون مديناً به لعظمة الموضوع وجلاله، ومهما يكن من أمر فلست أظن أني كنت مفتقراً إلى العبقرية كل الافتقار، ولما رأيت كم من عظماء الرجال في بلاد العرب وأوربا وآسيا طرقوا هذا الموضوع قبلي تملكتني الحيرة إعجاباً بهم ولكن لم أفقد شجاعتي ولم يزايلني الإقدام، فيجب أن نهيئ الطريق في حياتنا لكل أساليب المعرفة والوجدان ونفتح أمامها الأبواب لتنفذ إلى نفوسنا، فإذا لم تتبدد هذه شذر مذر فإن هناك مكاناً فسيحاً لكل شيء.
 
عبدالرحمن ملا عثمان
01/02/2008
 
تستوقفني هنا حكاية جبر, حيث أن جبر هذا دخل إلى مدينة لا يعرفها فكانت أول أرض يطأها فيها الجبّانة، وأخذ يقرأ القبريات المكتوبة على قبور الأموات فاستوقفته العبارات المتشابهة المكتوبة على قبور الأموات التي فيها: عاش ثلاثة أيام، عاش يوم واحد، عاش ثلاثة دقائق، عاش عشرة دقائق...، فسأل رجلاً هناك: مابال أهل هذه القرية يموتون في المهد صغاراً وأنا أرى من هم كباراً ولا يزالون على قيد الحياة؟, فأجابه: يا بني إنما كتب على قبريات هؤلاء هي الزمن من عمرهم الذي كانوا فيه سعداء، ففكّر جبر لحظة ثم قال: إذاً فاكتبوا على قبري عندما أموت، جبر جبر من رحم أمّه إلى القبر، فأنا ليست في حياتي لحظة سعادة، انتهت حكاية جبر.
أما أنا فإنني أريد أن يكتب في قبريتي: عاش آلاف السنين وعرف كل شيء بفضله تعالى ولم يبق أي شيء أو مكان أو زمان لم يعرفه، فليست الحقيقة التي يملكها الرجل أو يعتقد أنه يملكها هي التي تجعل له قيمة بل الجهد المخلص الذي بذله للوصول إليها، لأنه ليس بامتلاك الحقيقة بل بالبحث يطور المرء تلك الطاقات التي فيها وحدها كماله المطرد النمو فالتملك يجعل العقل راكداً كسولاً متكبراً، فلو أن الله احتوى في يمناه الحقيقة كلها ولم تحتو يسراه وكلتا يداه يمين إلا الحافز الدائم الحركة نحو الحقيقة، ثم قال لي: اختر، لأحنيت رأسي في اتضاع أمام يسراه وقلت: إلهي أعطني هذا فالحقيقة الخالصة لك أنت وحدك.
إن تاريخ الإمبراطوريات هو تاريخ شقاء الإنسان وتاريخ المعرفة هو تاريخ عظمته وسعادته، والاعتبارات كثيرة تجعل هذا النوع الثاني من الدراسة غالياً في عيني الفيلسوف، ومن ثم إذا لم يكن الفلاسفة دائماً مؤرخين فمن المرغوب فيه على الأقل أن يكون المؤرخون فلاسفة، وقد أضاف جيبون في مذكراته هذه العبارة: منذ شبابي الباكر تاقت نفسي إلى أن أكون مؤرخاً، فإن القاموس أُلف بمساعدة ضئيلة من المثقفين ودون أي رعاية من العظماء، ولم يؤلف في هدوء العزلة الناعم ولا تحت الظلال الجامعية الوارفة بل في غمار العناء والحيرة وفي جو المرض والحزن، ولعله مما يكبح انتصار أصحاب النقد الخبيث أن يلاحظوا أنه إذا كانت الغة لم تحظ بعرض كامل فعذري أنني إنما فشلت في محاولة لم تنجزها مدرات البشر إلى الآن، لقد أطلت عملي حتى طوى القبر أكثر من كنت أبغي إدخال السرور إلى أفئدتهم وبات النجاح والإخفاق أصواتاً فارغة، ومن ثم فإني أطلقه في هدوء لا يبالي إذ ليس هناك ما أخشاه أو أرجوه من اللوم أو المديح.
لديّ أخطاء كما أن لدى الناس كلّهم أخطاء فلا أحد منزّه عن الخطأ، ولكنّي مميز عن غيري فأنا من شريحة قليلة من الناس ممن يفرح بانتقاده بأي أمر أكثر من فرحي بالإطراء، فكلما ازداد نقدي أنتشي أكثر وأقول: كم أنا عظيم  إذاً وأنا كذلك ولديّ كل هذه العيوب، وإن الملابس الجميلة لا قيمة لها إلا من حيث سدها النقص في غيرها من وسائل جلب الاحترام للابسها، وأن خير الحديث ما خلا من المنافسة أو الغرور وكان تبادلاً هادئاً مطمئناً للعواطف فإن معاملة خصمك بالاحترام معناها إعطاؤه ميزة لا حق له فيها، ولن تستطيع أن تتصور أي عناء وأي حيرة وأي غيظ تحملته في ترتيب عدد هائل من المواد، وفي ملء الفراغات وفي البحث عن أوراق مدفونة بين أشتات من الأكداس، وكل هذا بالإضافة إلى عناء التأليف والتهذيب فكثيراً ما فكرت في التخلي عن هذه المهمة، وكلما تقدم العقل أتانا بالدليل على تفاهتنا وبدلاً من أن يهدئ أحزاننا بأبحاثه فهو كثيراً ما يزيدها بنوره، أما الوجدان فيعطينا دافعاً سامياً وهو إذ يخضع عقولنا يصبح أنبل الغرائز وأكثرها إشباعاً في حياة البشر، ومن عنده الفن أو العلم فهو يملك ما يكفي من الدين أما من ليس عنده فن أو علم فهو في حاجة إلى الدين، فإنني بصفتي شاعراً وفناناً أشعر بتعدد الآلهة فأشخص قوى الطبيعة منفصلة، أما في دوري عالماً فأنا أميل إلى الحلولية أي أرى إلهاً واحداً في كل شيء، وإنه من واجبنا ألا نخبر غيرنا بأكثر مما في قدرتهم تلقيه فالإنسان لا يفهم إلا ما يناسبه، ومما يجب على الباحث أن يأخذه بعين الاعتبار أن يقف في المكان الصحيح من الفكرة أو الحدث، وبما أن في البداية عليه أن يأخذ بكافة الظروف المحيطة، فإن عليه أن يكون مع الجماعة صاحبة الحدث ثم مع الجماعة الثانية المناهضة لها، كأن يكون مثلاً في حالة في حالة حزب الله وإسرائيل مع الأول وينظر بمنظوره ثم مع الثاني وينظر بمنظوره، ثم بعد ذلك يجمع الصورتين إلى بعضهما ويخرج هو من الصورة ويحكم، أو من ناحية العقيدة مثلاً يقف مع اليونان أو الرومان في وقتهم ويرى ما يقولونه ويعتقدونه ثم يقف مع المسلمين أو اليهود ويرى ما يقولونه ويعتقدونه، ثم يجمع الصورتين إلى بعضهما ويخرج هو من الصورة ويحكم...، فيجد الباحث نفسه في أي من الأحوال أنه دائما على حق أينما وُجد ولكن ذلك يضعه في حالة الحيرة عندما يخرج من موقفه مع أي من الأطراف المتنازعة، فأنت لو سألت أي من المسلمين عن موقف حسن نصر الله ضد الإسرائيليين تجده مقاوم وعلى حق ولو سألت أي من الإسرائيليين عن موقف أولمرت تجده مقاوم وعلى حق، ذلك بتحكيم العقل والمنطق وعدم تدخل القلب والعاطفة ولكن عند الخروج من الصورة والوقوف على الحياد للتحكيم فإن الموقف والرأي سوف يتغير، وكذلك بالنسبة للأديان والمعتقدات والأساطير والروايات.
 
عبدالرحمن ملا عثمان
01/01/2009
 
حُبِّي هو الجنس البشري ولست أقصد بطبيعة الحال هذا الجنس الفاسد المرتشي الذليل التافه الذي غالباً ما نلتقي بأفراده، إنني أحب العظمة والكفاءة حتى لو وُجدت بين شعوب فاسدة وإنني أحب الجنس الذي لم أره بعد، أحب جنس البشر الآتي من القرون القادمة فإننا نعيش في زمان يتجه فيه كل شيء إلى النهاية لولادة جنس جديد من البشرية، إنها بذور التنوير حيث تلك الرغبة الصامتة والنضال لتعليم الجنس البشري، إن هذا سيكون له ثمار عظيمة وهذا هو الهدف المقدس لرغباتي ونشاطي وعملي وهو أن أزرع البذور التي ستثمر شجرتها ثماراً ناضجة في جيل آخر غير جيلي, ففي الليلة الأخيرة من حياة حافلة أقدّم للعالم عملاً كانت صورته غير المحدودة تتراءى لعقلي لنحو ربع قرن وكنت أرنو مرارا إلى إكماله لكنني كنت أعتبر هذه الرغبة غير عملية بل غالبا ما كنت أميل إلى التخلي عنه، إلا أنني عدت مرة أخرى إلى مواصلة العمل فيه وربما كان هذا طيشاً مني، وكان الدافع الأساسي الذي وجهني هو السعي المتلهف لفهم ظواهر الأمور الفيزيقية في إطار ارتباطاتها العامة بعناصرها وبما هو خارج عنها، وفهم الطبيعة في إطارها العام ككل متكامل عظيم يتحرك ويحيا ويتفاعل بفعل قوى داخلية، ورغم هذه الحيوية فإن القوانين الرياضية وقواعد الكيمياء والفيزياء تحكمه في صورة عامة كأوسع ما يكون، صورة عامة لم تنشأ كميكانيكية جامدة كتركيب جامد لا حياة فيه وإنما مفعمة بحيوية لا حد لها وامتداد لا نهاية له وإبداع ملازم للحياة، وفي عشية السابع والعشرين من أغسطس عام 2009م, بين الحادية والثانية عشرة كتبت آخر السطور في آخر صفحة، وبعد أن وضعت قلمي تجولت مرات في ممشى مغطى من الأشجار يشرف على مشهد يجمع بين الريف والبحيرة والجبال، ولست أريد إخفاء مشاعر الفرح التي غمرتني لاستعادتي حريتي وربما لتوطيد شهرتي ولكن سرعان ما أذلت كبريائي وأشاعت في عقلي اكتئاباً هادئاً، فكرة فراقي فراق الأبد لرفيق قديم أنيس وأنه أياً كان مصير كتابي مستقبلاً فإن حياة المؤرخ لا محالة قصيرة مزعزعة، فهؤلاء عرفتهم من الخلق وهناك أناس آخرين عرفتهم أيضاً، ولو خُيّرت في أن أعيش حياةً ثانية لما اخترت أن أعيش إلا حياتي هذه وأخطو نفس الخطوات، ولو لم أكن عبد الرحمن ملا عثمان لتمنيت أن أكون عبد الرحمن ملا عثمان، فللذكريات مذاق جميل ممتع ذلك لأنها تعود بك الى الوراء وتستوقفك في محطات لك فيها مواقف وحكايات وأصدقاء تأثرت بأخلاقهم وأفعالهم أو في مواهبهم وأنت لم ترهم، وغالبا ما تستنهض الذكرى كل المشاعر الجميلة وهي تصارع النسيان وتكون الغلبة لها دائما، وقلائل هم الذين ثبتوا وحفروا أسماءهم وأعمالهم في حشاشة الإنسان وانتقلوا مع الناس ماداموا يتنفسون الهواء، كذلك فإن قليلا هم الذين عرفوا من قبل الناس جميعا أو عرفتهم أغلب الناس في دائرتهم الواسعة التي عاشوا فيها وخلفوا أعمالاً عظيمة كتبت لهم الخلود.
ولقد وجدتُ أن الضرورات تبيحُ المحظوراتِ ولا ريبَ أنَّها ستكونُ موضعَ انتقادٍ، والنقدُ ذو مرارةٍ وربَّما بدأهُ عندَ العربِ رجلٌ يقالُ لهُ حنظلة وقدْ يخرجُ منْ شجرِ الليمونِ ومنْ يلحو لا يحلو، وقدْ لا يحلو النقدُ إلاّ وقدِ استعارَ منَ المِلْحِ طعماً ومنَ المُلَحِ نكهةً ولَربَّما هوَ طبعٌ تجري بهِ الأقلامُ أسلوباً ولكلِّ امرئٍ فيما يجادلُ مذهبٌ، فانما يرفع الإنسان أو يخفضه عمله، لا مدح الناس أو ذمهم بالحق أو بالباطل أيا كانوا من رجحان العقل والأدب، وان كانت أرفع النفوس البشرية لا تعلو عن الأنس برضا الفضلاء والوحشة حين يلقونها بالجفاء لما فطرت عليه من قوة العطف وحب الألفة والكرامة، أو لبعض ما تشتمل عليه من الضعف أو النقص الذي لا يبرأ منه أحد من البشر بالغًا ما بلغ من العظمة والجبروت والاستقلال، ومن لا يأنس برضاء الفضلاء ويستوحش لجفوتهم فهو إما إله أو حيوان، لأنه لا يكون الا أرفع من الانسان أو أدنى منه، وأما من يأنس برضا الغوغاء ويستوحش لجفوتهم فهو من طينتهم اللازبة في الكيان والوجدان إذ ليس يفيد الإنسان أن يكسب العالم ويخسر نفسه، ونعلم أن الله يكره الخطايا ولكن رحمته لا تضيق بالخاطئين.
وفي قناعتي انه من أعظم الثروات في حياة الإنسان هي ثروة صحبة رواد الفكر والعلم والأصدقاء المخلصين.
 
عبدالرحمن ملا عثمان
1/8/2009م.
عبود
19 - أبريل - 2010
تابع2    كن أول من يقيّم
 
هناك من يظن أن الحرية الفكرية تتناقض مع الإيمان وأن العقل البشري محدود الطاقة، وهناك طائفة ترى أن كل الخطر في تلقي العلوم الإنسانية من الغرب في الفلسفة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع، وترى طائفة أخرى أن الثقافة الغربية خطر على الدين والقيم والتراث، وهناك من يعتبر التفكير حراماً وخطيراً ويرى آخرون أنه لا غبار على التفكير بحدود أما التعبير فيجب أن يمر من قناة أمنية أو فقهية على المقاس، وعلى التعبير أن ينسجم مع أنغام الجوقة وعلى المفكر أو الكاتب أن يقول قولاً لا يوقظ نائماً ولا يزعج مستيقظاً، في الواقع ان أنظمة الحكم في مجتمعاتنا بالغة السوء وكلما عدنا إلى التاريخ وأوغلنا في الماضي لن تقع عيوننا إلا على نظم اشد سوءا، ولن نجد مرحلة استطاع فيها المواطن أن يقول بالفم الملآن هذه بلادي وأنا انعم فيها بإنسانيتي وكرامتي وأتمتع بجميع حقوقي، وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير والمشاركة في الحكم وصنع القرار السياسي فيقول الصادق النيهوم في كتابه محنة ثقافة مزورة أنه: طوال الفترة الواقعة بين عصر سومر وحتى ظهور الإسلام كانت الثقافة سلاحاً مهمته تجهيل الناس وليس تثقيفهم، تستخدمه الدولة والكنيسة علنا في مؤامرة أدت إلى توطيد فواحش أخلاقية رهيبة في تاريخ الثقافات، منها تزوير الشرائع الإنسانية الذي تكفل بتحويل الثقافة إلى عالم السحرة والمعجزات، وأخرج الدين من واقع الناس وأفقده مهمته ومعناه معا، ولهذا السبب سكتت جميع الثقافات عن قضايا الإنسان وفشلت في تطوير مجتمعات حقيقية محررة من الرق والربا وعبادة الأصنام الحية والميتة، ويرى عالم الاجتماع علي الوردي في كتابه وعاظ السلاطين أن: البلاء يعم حين يحف بالحاكم مرتزقة من رجال الدين، فهؤلاء يجعلونه ظل الله في أرضه ويأتون بالملائكة والأنبياء ليؤيدوه في حكمه الخبيث وبهذا يمسي الحاكم ذئباً في صورة حمل وديع، وعند غياب ضمانة المجتمع لحرية الفكر والحوار والجدل تصبح الثقافة كما كانت قديما في إدارة فرعون، والثقافة من دون الحرية الفكرية لا تستطيع أن تكون ثقافة إنسانية ولن تدافع عن عالم الناس وقضايا المجتمع وترتدي قناعا إنسانيا مزورا لافتعال عاصفة داخل فنجان وتقول كلاما كبيرا على لسان مثقف في حجم فأر.
وعندما زار المتنبي مصر في عصر كافور الأخشيدي وهو شاعر من أشهر شعراء العرب في كل العصور، لم يلتفت أبو الطيب المتنبي إلى فقر وبؤس الناس وتشرد الأطفال والمتسولين في الطرقات، ولم يشغله عذاب الناس وما يعاني أهل مصر من شظف العيش لم يلفت اهتمامه ونظره سوى كافور الأخشيدي شخصيا وكان يمدحه لنيل العطايا بأشعار تافهة منها قوله:
مولاي هل في الكأس فضل أناله          فاني أغني منذ حين وتشرب
وبعد المدح هجا كافور بأشعار مسطحة كقوله:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه             إن العبيد لأنجاس مناكيد
ولا نرى في هذا الشعر إلا خدمة أفكار قبيحة وغير إنسانية وغير لائقة بروح الشعر، فلا التسول حرفة إنسانية ولا دعوة النخاسين لضرب المستعبدين بالعصي وصية تحتاج إلى شعر الشعراء، هذا الموقف المنحرف لم يكن عند المتنبي وحده بل في الأدب العربي القديم كله، فالأدب لم يكن مسخرا لخدمة الناس ولم يولد لتغيير الواقع كما يقول أهل الأدب بل ولد لتبريره من وجهة نظر الملوك والسلاطين والإقطاع بموجب أساطير لا علاقة لها بالواقع، فالشعر العربي لا يخاطب الناس إنما يحدثهم عن كرم الخليفة ومجالسه وحبه للشعر ولا يحفل بما يعانيه الناس في حياتهم، ورغم المنجزات الأدبية لم يترك الأدباء نصا واحدا ينادي بتحرير الرقيق أو توفير الضمان الاجتماعي للمواطنين أو مكافحة الاستبداد وإنهاء عصر الإقطاع.
ولم تولد أول قصيدة تخاطب الأمة إلا على يد أحمد شوقي ولا يزال المواطن اليوم محاصر في مثلث من المحرمات بين الدين والسياسة والجنس، وعندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم فالأزمة الحضارية التي نعاني منها هي أزمة فكر أولا وقبل كل شيء، ويعتبر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل أن مئة دماغ في التاريخ تزيد وتنقص كانت خلف أسرار النهضة في أوربا ولو أجهضت بشكل أو آخر لسارت أوربا قرونا أخرى في ظل محاكم التفتيش حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأوروبا لم تنهض إلا عندما حطمت قوتي الإقطاع والكنيسة لينهض مركب جديد متوازن من رأس المال والعمال وامتدادهما من النقابات والصحافة والأحزاب، وفي قناعتي لا حدود للحرية الفكرية ولا حدود للبحث العلمي ويجب تحريض التفكير وإطلاق التعبير بدون حدود وبدون خوف من المساءلة، لأن وظيفة الدماغ التفكير مثلما هي وظيفة القلب ضخ الدم والتنفس للرئتين، فمع خسوف شمس الفكر يشتد التعصب وينمو التطرف وينفجر وباء العنف وتكبر شجرة الديكتاتورية فيصل سعفها إلى أعلى من شجرة نخلة باسقة طلعها كأنه رؤوس الشياطين، ومع قدح زناد الفكر يشرق نور الوعي ويتأسس الإيمان وتسمو الأخلاق ويفشو السلام وتزدهر شجرة الديمقراطية، فهناك علاقة جدلية بين التفكير والتعبير فالتفكير يقود آلياً إلى التعبير ما لم يصد بآليات الإرهاب الفكري والاستبداد السياسي أو السخرية والتكذيب والتعبير يؤثر في التفكير فينميه ويصححه ويعمق مجراه، ومن هنا يجب علينا إرساء قواعد حرية الفكر والتعبير والنشر التي تغذي روح الإبداع لدى الكاتب والمفكر وتحوله من مفكر وكاتب مقلد إلى إنسان مبدع يساهم في نهضة الحياة الفكرية.
لقد بني الكون على التعددية والتنوع من البشر والأنعام والجبال والطير والورد (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، وسمح للكافر بالبقاء على قيد الحياة وشمسه تشرق على الأبرار والأشرار ومنح الخيار أمام الضمير (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، ومن يؤمن ثم يكفر فحكمه إلى الله في الآخرة ولا يقتل في الدنيا من أجل تغيير رأيه أياً كان، وحرية الاعتقاد مضمونة دخولا وخروجا واعتناقا وتبديلا وتغييرا، والمختلف لا يزيد عن مخطئ ضل طريقه إلى الحقيقة فيمكن أن يستفاد منه بالحوار والجدل بالتي هي أحسن، والأفكار يحكمها قانون (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)، فإذا كانت الأفكار زبداً ستذهب جفاء غير مأسوف عليها، وإن كانت صحيحة وصالحة وتنفع الناس فستمكث في الأرض وستظهر، وقصة التعايش مع الرأي الآخر والسماح للمخالف بالبقاء اعتبرها المؤرخ توينبي فضيلة للإسلام، وسمح بسب الرسول والنطق بالكفر عند الخوف على الحياة (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)، والله غني عن إيماننا وكفرنا ومع الإكراه لا يبقى الإيمان إيمانا ولا الكفر كفرا، أعظم آية في كتاب الله آية الكرسي التي هي في تعظيم الله وتنزيهه، وبعد هذه الآية تأتي مباشرة آية الرشد التي هي أعظم تكريم للإنسان خليفة الله في الأرض والمنفوخ فيه من روحه روح المعرفة والعلم والتسخير فتقول آية الرشد (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
ومن المعلوم أن عليا (ر) حينما قاتل الخوارج لم يقاتلهم لأنهم غيَّروا رأيهم وبدَّلوا دينهم، وعندما سُئِل عنهم: أكفارٌ هم؟، أجاب: من الكفر فرّوا، فقالوا سائلين: يا أمير المؤمنين أو منافقون هم؟، قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا وأولئك يذكرون الله كثيرا، فكرروا سائلين: فما تقول فيهم إذاً؟، أجاب في قولته الشهيرة التي تعتبر من درر الحكم وقواعد التعامل الإنساني في قانونٍ مزلزلٍ في العلاقات: ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه، وكذلك لم يُنقل عن رسول الله (ص) أنه قتل مرتدا لأنه غيَّر رأيه فقط، كما لم يرسل أحداً يغتال الآخرين لمجرد آرائهم تبديلا وتحريفا، بل كان يقاتل من رَفع السيف على الناس لفرض الرأي بالقوة المسلحة وتآمر وظاهر على الإجرام (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، إذن من أين جاء حكم قتل المرتد فهل هو حكم فقهي فعلاً أم لعبة سياسية لتصفية كل لون من ألوان المعارضة الفكرية؟، هل هو من القرآن أم من كتاب السيوطي بلوغ المآرب في أخبار العقارب؟، في الواقع إنه حكم من جيوب فقهاء العصر المملوكي وسلاح سياسي خطير من أجل أن يتخلص الحاكم من المعارضة ولكن بفتوى شرعية، وحين يتربع الدين على عرش الإرهاب فهو وراء كل إرهاب، وما الاستبداد السياسي إلا تلميذ متواضع في مدرسته ومنه حاجة العالم الإسلامي إلى مارتن لوثر إسلامي.
ولما سأل مندوب الإذاعة البريطانية المفكر جمال البنا عما إذا كان من حق فرد ما أن يغير دينه من الإسلام إلى أي ديانة أخرى قال: هل سألت أحدا قبلي من الأئمة الأعلام؟ فقال سألت الدكتور عبد الصبور شاهين فقال: إن من حقه أن يتنصر على ألا يجاهر بهذا، أي أن يبقى الأمر فيما بينه وبين نفسه، وقال سألت كذلك الدكتور عبد المعطي بيومي فقال لي: إن حديث من بدل دينه فاقتلوه عموم يحكمه خصوص أحاديث أخرى تربط ما بين الردة ومفارقة الجماعة، التي كانت تعني وقتئذ الخيانة العظمي كما يقولون، فقال البنّا للمذيع: إن كلام الدكتور عبد الصبور شاهين لا معنى له، فلا يمكن لأحد أن يعتنق دينا ويتكتم ذلك، ولكل دينه شعائره التي يعد أداؤها إعلانا عنه ولا يمكن إلزام أحد بالتكتم على دينه، فضلا عن أن هذا يناقض حق التعبير الذي يعد تصديقا عمليا لحق حرية الاعتقاد، كما أن كلام الدكتور عبد المعطي هو كلام بعض الفقهاء الذي لا يسلم به فقهاء آخرون إن لم يرفضوا مبدأ تخصيص العام أصلا وبالتالي فلا يكون حلا، وفضلا عن هذا كله فإن الفقهاء لم يقنعوا بحديث من بدل دينه فاقتلوه فأبدعوا صيغة من جحد معلوما من الدين بالضرورة يعد مرتدا ويطبق عليه حد الردة، ويمكن للمحكمة باستجواب المتهم أن تجد مائة قضية تعد جحدا للمعلوم، والحقيقة التي يجب على الجميع أن يعلمونها ويسلموا بها تسليما أن حرية الاعتقاد مقررة في الإسلام ومفتوح بابها على مصراعيه (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) و (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وقد ذكر القرآن الردة صراحة مرارا ولم يرتب عليها عقوبة دنيوية، ولاحظ ذلك الدكتور شلتوت رحمة الله عليه والاحتجاج بحرب الردة في عهد أبي بكر مردود، فإن كثيرا من المرتدين كانوا مسلمين يؤدون الصلوات ولكنهم رفضوا الخلافة المركزية أرادوا العودة مرة أخرى إلى الأعراف القبلية ورفضوا دفع الزكاة، فالقضية سياسية واقتصادية وليست عقيدية وقد أعلن ذلك أبو بكر عندما قال: لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه للرسول لقاتلتهم عليه، أما الأحاديث فالمفروض ألا يناقض أي حديث صريح القرآن، ولكن من نشأ في الاستعباد يشبه من اعتاد شرب السموم فلا يؤثر فيه لدغ الثعابين، ومن ولد في الظلام يفاجأ بسطوع ضوء الشمس ويظن كما يحصل لحيوان الخلد أن الظلام هو أصل الأشياء.
وجاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة في عام 1948م: لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده أو مع جماعة وأمام الملأ أو على حده، ولكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفى التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود، وخلاصة القول إن حرية التفكير والتعبير هي البوابة الحقيقية لكل تغيير، فمنها وتحت رايتها تبدأ عمليات مكافحة الاستعباد وكشف الفساد ومراقبة الحكام وتفكيك سيطرة التخلف والكبت والتزمت، على المجتمعات المتخلفة التي حرمها الاستبداد طويلا من ممارسة هذا الحق الطبيعي الذي نادت به الفلسفات الكبرى ونصت عليه المواثيق الدولية والقوانين.
 
عبدالرحمن ملا عثمان
عشية السابع والعشرين من شهر شباط فبراير عام 2010م.
عبود
19 - أبريل - 2010
تابع3    كن أول من يقيّم
 
كيف نقرأ التاريخ وقد غدت وقائعه بعيدة عنا؟، ولماذا نقرأ التاريخ أصلاً؟، أللمتعة فقط أم لنيل عبرة أم لبناء تصورات تصل الماضي بالحاضر وتتيح تطلعاً أفضل نحو المستقبل؟، هناك من يقرأ التاريخ ويسلّم بالمعطيات التي ساقها المؤرخ ومن يقرأ التاريخ بحذر وتشكك، فالأول يدافع عن التاريخ انطلاقاً من التسليم بكل ما جاء في الكتب، والثاني يقرأه قراءة من يظن أن المؤرخين لم يتصفوا بالموضوعية دائماً وأحياناً ما دوّنوا الوقائع استناداً إلى رغبة الحكام أو خوفاً منهم، فكيف تقرأون كتب التاريخ؟، وهل أنتم مع الأخذ بكل ما جاء فيها أم تنظرون بعين فاحصة ناقدة، وعلى أي أساس تسلمون بالمدونات التاريخية أو تتشكّكون بما جاء فيها؟، إن كتب التاريخ العربي تشكل مصدراً بالغ الثراء لمن يريد أن يبني تصوراً عن علاقة العرب بأنفسهم وعلاقتهم بالعالم، وقد قال ابن الأثير في كامله: يؤسفني جدا أن تستمر الحقيقة في الغياب عن هذه الأمة النائمة، والتي زادها نوما كسلها في التماس عقيدتها الصحيحة مكتفية بما حملته أقلام التحريف على أديم التاريخ، لقد كان المؤرخون الرسميون يصحبون الملوك في حملاتهم ولكنهم لا يبصرون هزائمهم بل يسجلون أو يخترعون من عندهم تفاصيل نصرهم، لأن كتابة التاريخ كانت قد أضحت فنا للزينة والتجمل، وكما قيل عن أكبر سلطان الهند بأنه قد تحلى بمعظم الفضائل ما دام قد استأجر معظم أقلام المؤرخين، فكان خير رياضي وخير فارس وخير محارب بالسيف ومن خيرة المهندسين في فن العمارة وكان كذلك أجمل رجل في البلاد كلها، أما الواقع فإنه كان طويل الذراعين مقوس الساقين ضيق العينين كسائر المنغوليين رأسه يميل نحو اليسار وفي أنفه ثؤلول.
والسؤال هو: كيف نقرأ التاريخ؟.
كما فعل الطبري عندما قال في مقدمة كتابه: لقد نقلت وعليك أن تنقح أنت، وليس كل ما كتبته كلام صحيح أو خطأ فأنا ناقل فقط، إذاً بقي علينا أن نعرف الصحيح من السقيم إذ لابد أن نضع في اعتبارنا أن المؤرخ الذي سجل لنا التاريخ إنما هو بشر مثلنا يخطئ ويصيب وعرضة للأهواء والمصالح المختلفة، كما أن كل شخص عندما يكتب التاريخ فإنه يكتبه من الوجهة التي يراها هو فقراءة التاريخ يجب أن تكون بعين ناقدة فاحصة، وقبل أن نبدأ كتابنا هذا أرى من الضروري تعريف علم الكلام.
ويسمى (الفقه الأكبر حيث إن علم الكلام يبحث في الأحكام الأصلية الاعتقادية وعلم الفقه يبحث في الأحكام الفرعية العملية ويرجع إطلاق هذا الاسم إلى عصر أبي حنيفة، وفائدة علم الكلام هو أن يصير الإيمان والتصديق بالأحكام الشرعية متيقناً محكماً لا تزلزله شُبَه المبطلين، وموضوع علم الكلام هو المعلوم حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية، وأما منزلته عند علماء المسلمين فهو من أشرف العلوم لأن موضوعه يدور حول ذات الله وصفاته، ومن الواضح أن شرف كل علم إنما هو تابع لشرف موضوعه، ولا شك أن اهتمام بعض العلماء المشهورين به ومؤلفاتهم الكثيرة في موضوعه شاهد صدق على المكانة الرفيعة التي كان يتمتع بها علم الكلام من قبيل الأشعري والغزالي والفخر الرازي والطوسي... وغيرهم.
وبهذا علينا التحقيق والتمحيص في الأحداث التاريخية، فهناك أمور قلما يطرحها الباحثون على بساط البحث وقلما تتعرض للتحقيق والتمحيص، فما هو السر في ذلك وما هو السبب يا ترى؟، وربما نجد أكثر من تفسير لهذه الظاهرة وقد يستهوينا أو لنقل يرضينا أحدها ويرضي غيرنا التفسير الآخر ثم يرضي آخرين تفسير ثالث لها، ولكن يجب أن لا نعجب إذا وجدنا أحياناً أن الحق الذي لا محيص عنه: صحة الأسباب والعلل المطروحة جميعاً دون استثناء، ولكن ذلك يكون بحسب اختلاف المواقع والمواضع وبحسب رؤية الأهداف والاستجابة لما اختلف من الدوافع، ولكي نقترب قليلاً من الإجابة المطلوبة نقول: إنه ربما يكون ذلك لأن بعض الباحثين:
1- لم ير في طرح تلك الأمور فائدة بل رأى أنها أمورٌ جانبية وجزئية ليس لها كبير أثر على الصعيد الواقعي والعملي.
2- أنهم قد تعاملوا معها من موقع الغفلة عن نقاط الضعف أو القوة فيها، فأخرجوها بذلك عن أن تقع في دائرة اهتماماتهم في الشأن العلمي لاعتقادهم أنها من المسلمات أو من الأمور التي تستعصي على البحث لعدم توفر المعطيات الكافية لإثارته بصورة كافية.
3- أن من شأن إثارة بعض الموضوعات أن يخل بالوضع العام حينما يكون سبباً في إحداث قروح عميقة ومؤلمة في جسم الأمة ويزرع فيها بذور الحقد والشقاق، ويتسبب في خلخلة العلاقات ثم في تباين المواقف.
4- هنالك سبب آخر له أيضاً حظ من التواجد على نطاق واسع ولكنه لا يفصح عنه إلا الأقلون، وهو أن بعض الباحثين لا يرى في هذه الموضوعات ما يثير فيه شهيته ولا يجلب له من المنافع مما يسهل عليه معاناة البحث وتحمل مشاقه، بل هو يجد فيها نفسه في مواجهة هجمة شرسة من قبل فئات حاقدة وشريرة وقاسية لن يذوق في حياته معها طعم الراحة بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، بل إنها لن تتركه يسلم بجلده دون عقاب أدناه التشهير والتجريح والشنآن إن لم يكن التكفير ثم الاضطهاد والأذى والحرمان.
5- ولكن أستطيع أن أقول: إن إثارة وطرح أمثال هذه الموضوعات على اختلافها على بساط البحث هو الأولى والأجدى حتى ولو فرضها البعض من الأمور الجزئية والجانبية، إذ أن جزئيتها لا تقلل من حساسيتها وأهميتها لاسيما إذا كانت جزءاً من التكوين الفكري، أو تُسهم في وضوح الرؤية العامة التي يفترض فيها أن ترتكز على جزئيات منتشرة ومبثوثة في مختلف المواقع والمواضع، أو أنها على الأقل تفتقر إلى تلك الجزئيات لتصبح أكثر وضوحاً وأوفى تعبيراً وحكاية عما يراد لها أن تعبر أو أن تحكي عنه، ومن جهة ثانية، فإن الاهتمام بالمصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة وعلى حساب العلم والفكر والدين، لهو من الأمور التي يستحسن بالباحث الواعي والرسالي الذي نذر نفسه لخدمة الدين والأمة أن يجعل لها محلاً في تفكيره وأن يفسح لها المجال للتأثير عليه في حركته نحو أهدافه الإنسانية السامية، وهذا بالذات هو ما يبرر لنا رفض أن يكون نأيه بنفسه عن بعض الموضوعات بدافع الجبن والخوف من حدوث السلبيات عليه هو شخصياً.
أما الموازنة بين السلبيات التي سوف يتركها طرح الموضوع على السلامة العامة وعلى بنية الأمة ككل، فإنها تصبح ضرورية من أجل تحديد الطرف الأهم في مقابل المهم وهو ما يختلف باختلاف الظروف والأحوال، وعلى وفق ما ينتهي إليه من نتائج في هذا المجال يكون التحرك ثم يكون تسجيل الموقف، ولكن من الضروري تخصيص قسط من الجهد الفكري والعملي باتجاه إيجاد الأجواء والمناخات المناسبة لطرح ومعالجة أكثر الموضوعات حساسية، لأن ذلك هو الخيار الوحيد للأمة التي تريد أن تكون أمة واحدة تتقي ربها وتعبده وحده لا شريك له ولا تعبد أهواءها ولا مصالحها ولا أي شيء آخر إلا الله سبحانه وتعالى، ثم أنه من الأمور الواضحة والبديهية أن كثيراً من حقائق التاريخ قد تعرضت لأنواع من التحريف والتزييف لأهداف مختلفة من سياسية ومذهبية وفئوية وغيرها، ومن الواضح أن تحقيق كل ما يحتاج إلى التحقيق منها أمر يخرج عن حدود طاقة الفرد والأفراد وحتى عن حدود طاقة المئات والألوف منهم، فلا يمكن أن نتوقع ذلك من أي عالم مهما بلغ من العلم والمعرفة وقوة الفكر ودقة الملاحظة وجودة الفهم، خصوصاً إذا كان الموضوع الذي هو محط النظر خارجاً عن دائرة اختصاصه ولا يدخل في دائرة الأولويات في ما هو محط اهتماماته ومعالجاته، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نتفهم بعمق ما نجده لدى بعض العلماء من انسياق أحياناً مع ما شاع واشتهر وإن كان خطأ، فيرسلونه إرسال المسلمات اعتماداً منهم على ذيوعه وشهرته إما غفلة عن حقيقة الحال أو للارتكاز الحاصل لديهم من استبعاد أن يكون الواقع يخالف ما هو معروف ومشهور أو يختلف معه، وذلك لا يخدش في عالمية ذلك العالم ولا يقلل من أهمية الدور الذي قام به ولا من قيمة النتاج العلمي الذي قدمه للأجيال وللأمة، أما إذا كان الخطأ الفاحش أو غيره قد وقع منه فيما يفترض أنه خبير وبصير فيه، فإن المؤاخذة له حينئذ تكون مقبولة ومعقولة ولها ما يبررها، ثم هي تكون والحالة هذه مؤثرة ومفيدة في تلمّس الموقع الحقيقي والمناسب لشخصيته العلمية والفكرية في مجال التقييم والتقويم، كتأثيرها في إعطاء الانطباع المقبول والمشروع عن القيمة الحقيقية لما قدمه من نتاج لاسيما في مجال اختصاصه، هذا مع الالتفات إلى أن إصابة الواقع في كل كبيرة وصغيرة أمر يكاد يلحق بالممتنعات إلا لمن أوقفه الله تعالى على غيبه، وليس ذلك إلا من ارتضى سبحانه من رسول ثم من آثرهم الرسول بما علمه الله إياه، وفقنا الله للعلم وللعمل الصالح وهدانا إلى صراطه المستقيم والحمد لله رب العالمين.
أكثر من تحتفظ الذاكرة بأسمائهم من بين أولئك العلماء هم المؤرخون، لأننا مدينون لهم بما نعرفه عن تلك الحضارة التي لولاها لظلت غامضة غموض حضارة مصر الفرعونية قبل شمبليون، وخير ما يقال عن هؤلاء المؤرخين أنهم يفوقون غيرهم في اتساع دائرة جهودهم ونواحي نشاطهم واهتمامهم وأنهم يربطون الجغرافية بالتاريخ ربطاً موفقاً صحيحاً، وأنهم لا يفوتهم شيء مما يتصل ببني الإنسان وأنهم يعلون علواً كبيراً على معاصريهم في العالم المسيحي، ولكنهم مع هذا كله كثيراً ما يضلون في دياجير السياسة والحرب والبلاغة اللفظية وقلما يعنون ببحث العلل الاقتصادية والاجتماعية والنفسانية التي تتحكم في الحوادث، وإن مجلداتهم الضخمة لتعزوها الطريقة البنائية المنتظمة فلسنا نجد فيها إلا أكداساً من حقائق غير مرتبطة ولا متناسقة عن الأمم والحادثات والشخصيات، وهم لا يرقون إلى مستوى بحث المصادر بحثاً دقيقاً نزيهاً، ولشدة تقواهم وتمسكهم بالدين كانوا يعتمدون اعتماداً كبيراً على الإجماع وتسلسل الروايات تسلسلاً قد تكون مصدره حلقة من حلقاته خاطئة أو مخادعة، ومن أجل هذا تهبط قصتهم في بعض الأحيان إلى مستوى أقاصيص الأطفال وتمتلئ بالنذر وأخبار المعجزات وبالأساطير، وكما أن في وسع كثيرين من المؤرخين المسيحيين أن يكتبوا تاريخ العصور الوسطى بحيث يجعلون الحضارة الإسلامية كلها ذيلاً موجزاً للحروب الصليبية، كذلك اقتضب كثيرون من المؤرخين المسلمين تاريخ العالم قبل الإسلام فجعلوه كله يدور حول الاستعداد لرسالة النبي محمد (ص)، على أننا نعود فنسأل أنفسنا: كيف يستطيع العقل الغربي أن يصدر على الشرق حكماً صحيحاً نزيهاً؟.
إن اللغة العربية تفقد جمالها في الترجمة كما تفقد الزهرة جمالها إذا انتزعت من شجرتها، وإن الموضوعات التي تمتلئ بها صحائف المؤرخين المسلمين وهي التي تبدو ذات روعة وجمال لبني أوطانهم لتبدو مملة خالية من المتعة الطبيعية للقراء من أهل الغرب، الذين لم يدركوا حتى الآن أن الصلات الاقتصادية بين الشعوب واعتماد بعضها على بعض يتطلبان أن يدرس كلاهما الآخر ويفهمه حق الفهم، ولا يخفى ما للمنهج المتبع في التأريخ لموضوع معين من أهمية بالنسبة لبنية البحث وعلميته ومصداقية نتائجه، وغايتنا هي تقديم وصف تحليلي لنشأة وتطور مناهج تدوين العرب والأمم الأخرى لتاريخهم، فالعرب مثلاً بدؤوا بالرواية الشفوية في الجاهلية وصدر الإسلام وانتقالا إلى التدوين منذ سيرة ابن إسحاق عام 768م وصولا إلى ابن خلدون عام 1406م مؤسس المنهاج الحديث لتدوين التاريخ، ولا بد في البداية من التذكر بأن مهد العرب هو شبه الجزيرة العربية التي فرضت بيئة شمالها الصحراوي على عرب الشمال نظاماً بدوياً قبلياً غلب عليه الترحال، وأدت بيئة جنوبها الممطر إلى قيام دويلات إقطاعية معتمدة على الزراعة والتجارة لم تلبث أن تقهقرت وخضعت للشمال وانطبعت بطابعه البدوي القبلي، ومع أن عرب الجاهلية كانوا غير منقطعين عن الحضارات المجاورة إلا أن صلاتهم معها كانت في حدود ضيقة وكذلك تأثرهم بها وفي الوقت ذاته كانوا أميين في معظمهم، ومع أن الكتابة كانت معروفة لدى بعضهم إلا أن أدواتها المتاحة لم تكن تشجع على استعمالها، وخير دليل على ذلك كيفية كتابة القرآن الكريم على رقائق العظام والحجارة وسعف النخيل، وأيضاً فإن الشعر الذي هو ديوان العرب وموضوع فخرهم واعتزازهم ظل يجري تداوله مشافهة، فلا نجد راويا ثقة يزعم أن شاعرا في الجاهلية ألقى قصيدة من صحيفة مدونة، وظلت هذه الأحوال سائدة إلى أواخر العصر الأموي عندما بدأت فكرة التدوين تسلك طريقها في تسجيل غزوات الرسول (ص) وأحاديثه وفي تدوين بعض الأخبار التاريخية، إذن فإن العرب قبل الإسلام لم يؤرخوا لأحداث أيامهم ومجتمعاتهم وإنما كانوا يتداولون الأشعار والأخبار والقصص والأساطير شفويا في مجالسهم وملتقياتهم دون فحص أو تدقيق، وبهذا يلزمنا أن نعرف بأن تاريخ العرب سواء كان قبل الإسلام أو بعده أي بعيد ظهوره هو من الصعوبة بمكان، والسبب في ذلك يرجع إلى عدة أسباب نذكر منها تأخر التدوين عند المسلمين الأول والالتباس في التدوين، وما يهمنا أكثر هو التعرف على أسباب الالتباس في التدوين عند المسلمين ويمكننا تلخيصها فيما يلي:
الخط العربي
كان الخط العربي يكتب أولاً بلا نقط، ولم يكن عندهم ما يميز بين الباء والتاء والثاء أو بين الجيم والحاء والخاء أو بين السين والشين ...إلخ، فيكتبون بلقيس مثلاً حروفاً بلا نقط فتقرأ بلفيس أو يلقيس أو تلفيس أو بلفيش ...الخ، وقس عليه ما تختلف به قراءتها بنقل النقط واختلاف مواضعها فوقع بسبب ذلك التباس في قراءة الأسماء، وظهر أثره في اختلاف المؤرخين والنسابين في أسماء الأشخاص والقبائل والأماكن، فمن أمثلة ذلك أن ابن خلدون يسمى أحد ملوك حمير أفريقش والمسعودى وأبو الفداء يسميانه أفريقس، وابن خلدون يقول الملطاط والمسعودى الملظاظ وابن خلدون يسمى والد بلقيس أليشرح والطبري يسميه ايليشرح وابن الأثير أبليشرح ...الخ.
ولا يخفى أن هذا الخلل قد يتطرق إلى الأفعال والأسماء المشتقة فيغير المعاني ويبدلها، ويقال أن أول من كتب العربية إسماعيل عليه السلام، وقيل أول من كتب بالعربية من قريش حرب بن أمية بن عبد شمس أخذها من بلاد الحيرة عن رجل يقال له أسلم بن سدرة وسأله ممن اقتبستها فقال: من واضعها رجل يقال له مرامر بن مروة وهو رجل من أهل الأنبار، فأصل الكتابة في العرب من الأنبار وقد قال الهيثم بن عدي: قد كان لحمير كتابة يسمونها المسند وهي حروف متصلة غير منفصلة وكانوا يمنعون العامة من تعلمها، وجميع كتابات الناس تنتهي إلى اثني عشر صنفا وهي: العربية والحميرية واليونانية والفارسية والرومانية والعبرانية والرومية والقبطية والبربرية والهندية والأندلسية والصينية، وقد اندرس كثير منها فقل من يعرف شيئا منها.
تناقل الخبر
من أسباب الخلل في أخبار العرب تناقل الخبر أجيالاً على ألسنة بغير تدوين أو ضبط فيتعرض للتحريف، وذلك يشبه ما يحدث لبعض الأمم التي لا تكتب كالإسكيمو مثلاً فإنهم يصفون الرجل الإنجليزي بأبلغ من وصف العرب عاداً وأبناءه فيقولون: أنه عظيم الهامة له أجنحة، إذا نظر إلى رجل قتله بنظره، وأنه يبتلع كلب الماء لقمة واحدة، فهذه المبالغة لا تنفى وجود الإنجليز ولكنها تدل على قوتهم وشدة بطشهم فقس على ذلك مبالغات العرب.
أما القبائل الساذجة التي تعيش معظم حياتها عيشاً معتزلاً بالنسبة إلى سواها، وتنعم بالسعادة التي تنجم عن جهل الإنسان بتاريخه الماضي فلا تحسّ بالحاجة إلى الكتابة إلا قليلاً، ولقد قويت ذاكراتهم بسبب انعدام المخطوطات التي تساعدهم على حفظ ما يريدون الاحتفاظ به، فتراهم يحفظون ويَعُون ثم ينقلون ما حفظوه وما وَعَوه إلى أبنائهم بتسميعهم إياه، وإنما هم يحفظون ويعون ويُسَمعون كل ما يرونه هاماً في الاحتفاظ بحوادث تاريخهم وفي نقل تراثهم الثقافي، ولا شك أن اختراع الكتابة قد صادف معارضة طويلة من قبل رجال الدين على اعتبار أنها في الأرجح ستؤدي إلى هدم الأخلاق وتدهور الإنسان، فتروي أسطورة مصرية إنه لما كشف الإله تحوت للملك تحاموس عن فن الكتابة، أبى الملك الطيب أن يتلقى هذا الفن لأنه يهدم المدنية هدماً وقال في ذلك: إن الأطفال والشبان الذين كانوا حتى الآن يُرغَمون على بذل جهدهم كله في حفظ ما يتعلمونه ووعيه، لن يبذلوا مثل هذا الجهد إذا ما دخلت الكتابة ولن يروا أنفسهم في حاجة إلى تدريب ذاكراتهم.
نسبة الحادثة إلى غير صاحبها
من أسباب التعقيد والالتباس نسبة الحادثة إلى غير صاحبها فإذا أشتهر رجل بمنقبة نسبوا إليه كل ما ينطوي تحت تلك المنقبة، فالفاتح ينسبون إليه كل فتح عظيم والحكيم يوردون عنه كل حكمة كما ينسبون كل بناء إلى سليمان أو ذي القرنين، وكما يقولون العمرين ويقصدون بذلك عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق وذلك لاشتهار عمر أكثر من أبي بكر، وينبغي الانتباه إلى ذلك في تحقيق الحوادث.
عبود
19 - أبريل - 2010
تابع4    كن أول من يقيّم
 
من هم العرب
يظهر أن المعنى الحقيقي للفظ عرب هو صحراء كما يظهر أن كلمة عربية كما جاءت في نقوش الملك داريوس هيستاسبيس تعنى صحراء الجزيرة العربية وسورية وشبه جزيرة سيناء، وكان هيرودوت عارفاً بالجزيرة العربية كما درس معاصروه من المؤرخين من أمثال اكزينوفون لفظ عرب، وقالوا أنه يطلق على الجزيرة العربية بوجه خاص كما يطلق على العرب البدو كلمة أعراب، وكان أهل التاريخ القديم من الفراعنة والآشوريين والفينيقيين يريدون بالأعراب أهل البادية في القسم الشمالي من جزيرة العرب وشرقي وادي النيل في البقعة الممتدة بين الفرات في الشرق والنيل في الغرب، وينقسم العرب إلى قسمين عظيمين أو طبقتين كبيرتين:
الطبقة الأولى: هي العرب البائدة، وهي القبائل التي هلكت ودرست آثارها وانقطعت أخبارها وهي تسع: عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل وجرهم وجاسم وعمليق، وأشهرها الأربعة الأول ويسمونها العاربة.
الطبقة الثانية: هي العرب المتعربة أو المستعربة وهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم.
قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، ففي تقسيم آخر للعرب قال علماء النسب: يقال شعوب ثم قبائل ثم عمائر ثم بطون ثم أفخاذ ثم فصائل ثم عشائر والعشيرة أقرب الناس إلى الرجل وليس بعدها شيء.
ويذهب بعضهم إلى تقسيم العرب إلى بائدة وهم عاد وثمود وطسم وجديس، وعاربة فيسمي قحطان عرباً متعربة وعدنان عرباً مستعربة، وقد كان موطن شعب قحطان بلاد اليمن وهو ينسب إلى قحطان بن عابر ابن شالح الذي يقال إنه أول من ملك أرض اليمن ولبس التاج وأطلق على نسل قحطان اليمنيين أو القحطانيين، بينما أطلق على نسل إسماعيل بن إبراهيم العدنانيين أو النزاريين وصار هذان اللفظان يرادفان عرب الجنوب وعرب الشمال، وخلف قحطان جد أعراب الجنوب ابنه يعرب الذي يقال إنه أول من اتخذ العربية لساناً ولقبه الشعراء رب الفصاحة فقال بعضهم:
فما مثل قحطان السماحة والندى           ولا كإبنه رب الفصاحة يعرب
ومن هنا أطلق على القحطانيين العرب المتعربة، أما العدنانيون فيقال لهم العرب المستعربة لأن إسماعيل كان يتكلم العبرانية لغة ما بين النهرين، ولكنه تعلم هو وأبناؤه العربية كلهجة محادثة بينما اعتمد هو وبقية العرب الحروف الآرامية للكتابة وهذا ما كشفته الحفريات فسموا المستعربة، وهم جمهور العرب البدو والحضر الذين يسكنون أواسط جزيرة العرب وبلاد الحجاز إلى بادية الشام، فجميع العرب ينقسمون إلى قسمين قحطانية وعدنانية، فالقحطانية شعبان سبأ وحضرموت والعدنانية شعبان أيضا ربيعة ومضر ابنا نزار بن معد بن عدنان، والشعب الخامس وهم قضاعة من قحطان وهو قضاعة بن مالك بن عمر بن مرة بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وقد قال بعض شعرائهم وهو عمرو بن مرة:
يا أيها الداعي ادعنا وأبشــرِ             وكن قضــــاعيا ولا تنزر
نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر             قضاعة بن مالك بن حميـــر
النسب المعروف غير المنكـر             في الحجر المنقوش تحت المنبر
وقد جمع بعضهم بين هذين القولين من أن امرأة من جرهم تزوجها مالك بن حمير فولدت له قضاعة، ثم خلف عليها معد بن عدنان وابنها صغير فنسب إلى زوج أمه كما كانت عادة كثير منهم ينسبون الرجل إلى زوج أمه فأصبحت قضاعة عدنانية، وعرب اليمن هم حمير والمشهور أنهم من قحطان واسمه مهزم، وذكروا أنهم كانوا أربعة أخوة قحطان وقاحط ومقحط وفالغ، وقحطان بن هود وقيل هو هود، وأسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة، وخزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل الله عليهم سيل العرم وكانت الأوس والخزرج منهم فهم قحطانيون، وجهينة بن زيد بن أسود بن أسلم بن عمران بن الحاف بن قضاعة قبيلة عقبة بن عامر الجهني في اليمن من حمير بن سبأ فهم قحطانيون وانتسبوا للعدنانيين، وقد قال محمد بن سلام البصري النسابة العرب ثلاثة جراثيم العدنانية والقحطانية وقضاعة، فقيل له فأيهما أكثر العدنانية أو القحطانية فقال: ما شائت قضاعة أن تيامنت فالقحطانية أكثر وان تعدننت فالعدنانية أكثر.
وعن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه، وقحطان أول من قيل له أبيت اللعن وأول من قيل له أنعم صباحاً وأن رسول الله (ص) قال: كان هذا الأمر في حمير فنزعه الله منهم فجعله في قريش وسيعود اليهم، وكان أهل الجنوب يعيشون عيشة قرار أما أهل الشمال فغلبت عليهم البداوة والارتحال، ولقد سبق عرب الجنوب عرب الشمال في إنشاء حضارة خاصة بينما لم يكن كذلك معظم الشماليين الذين يعيشون في بيوتهم التقليدية المصنوعة من الشعر وينتقلون من مكان إلى آخر طلباً للعيش والحياة، ولم يظهر عرب الشمال على المسرح العالمي إلا بظهور الإسلام الذي تعتبر أرضهم مهده الأول، وهناك فرق بين عرب الشمال بما فيهم عرب نجد والحجاز وبين عرب الجنوب من الناحية الجنسية، فعرب الشمال ينتسبون لجنس البحر الأبيض المتوسط أما عرب الجنوب فينتسبون للجنس الحيثى أو العبري، ومن مميزاته الفك العريض والأنف الأقنى والخد المنبسط والشعر الكثيف، وكان العداء مستحكماً بين العدنانيين القحطانيين منذ القدم حتى أن كلاً منهم اتخذ لنفسه شعاراً في الحرب يخالف الآخر، فأتخذ المضريون العمائم الحمر والرايات الحمر واتخذ أهل اليمن العمائم الصفر والرايات الصفر.
عبود
19 - أبريل - 2010
تابع6    كن أول من يقيّم
 
عمر الدنيا عند العرب
اختلف أهل العلم في ذلك فقال بعضهم قدر جميع ذلك سبعة آلاف سنة ومنهم ابن عباس قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، فقد مضى ستة آلاف ومائتا سنة وليأتين عليها سنين ليس عليها موحد، وقال آخرون قدر جميع ذلك ستة آلاف سنة، ومنهم كعب الأحبار ووهب بن منبه قال: الدنيا ستة آلاف سنة، وعن عبد الله ابن عمر قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: أجلكم في أجل من كان قبلكم، من صلاة العصر إلى مغرب الشمس، و ألا إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، و ما بقي لأمتي من الدنيا إلا كمقدار الشمس إذا صليت العصر، وقال ابن عمر: كنا جلوسا عند النبي والشمس مرتفعة على قعيقعان بعد العصر فقال (ص): ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من هذا النهار فيما مضى منه، وعن أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري أن رسول الله (ص) خطب أصحابه يوما وقد كادت الشمس أن تغيب ولم يبق منها إلا شق يسير فقال: والذي نفس محمد بيده، ما بقي من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه وما ترون من الشمس إلا اليسير، وعن ابي هريرة وأنس بن مالك وسهل بن سعد الساعدي وجابر بن سمرة وأبي جبيرة قالوا قال رسول الله: بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى، وعن جابر بن سمرة قال: كأني أنظر إلى إصبعي رسول الله (ص)، وقد أشار بالمسبحة والتي تليها وهو يقول: بعثت أنا والساعة كهذه من هذه، وعن أنس بن مالك قال: كفضل إحداهما على الأخرى، وعن إسماعيل بن عبيد الله قال قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبدالملك فقال له الوليد: ماذا سمعت رسول الله (ص) يذكر به الساعة، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: أنتم والساعة كهاتين، وقرن بين إصبعيه، وعن سهل بن سعد قال قال رسول الله (ص): ما مثلي ومثل الساعة إلا كفرسي رهان، ثم قال: ما مثلي ومثل الساعة إلا كمثل رجل بعثه قوم طليعة، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه أتيتم أتيتم أنا ذاك أنا ذاك، وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال سمعت رسول الله (ص) يقول: بعثت أنا والساعة جميعا، إن كادت لتسبقني، عن المستورد بن شداد الفهري عن النبي (ص) أنه قال: بعثت في نفس الساعة سبقتها كفرق هذه من هذه، لإصبعية السبابة والوسطى وجمعهما، وضم السبابة والوسطى وقال: سبقتها كما سبقت هذه هذه في نفس الساعة.
فمعلوم إذ كان اليوم أوله طلوع الفجر وآخره غروب الشمس وكان صحيحا عن نبينا ما رويناه عنه قبل، يكون قدر سبع اليوم يزيد قليلا، وكذلك فضل ما بين الوسطى والسبابة إنما يكون نحوا من ذلك تقريبا، واليوم مقداره ألف سنة عند الله، وعن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: الحقب ثمانون عاما، اليوم منها سدس الدنيا، فبين في هذ الخبر أن الدنيا كلها ستة آلاف سنة، وذلك أن اليوم الذي هو من أيام الآخرة إذا كان مقداره ألف سنة من سني الدنيا وكان اليوم الواحد من ذلك سدس الدنيا كان معلوما بذلك أن جميعها ستة أيام من أيام الآخرة وذلك ستة آلاف سنة.
وقد زعم اليهود أن جميع ما ثبت عندهم على ما في التوراة مما هو فيها من لدن خلق الله آدم إلى وقت الهجرة، وذلك في التوراة التي هي في أيديهم اليوم تساوي أربعة آلاف وستمائة واثنتان وأربعون سنة، وقد ذكروا تفصيل ذلك بولادة رجل رجل ونبي نبي وموته من عهد آدم إلى هجرة نبينا محمد (ص).
وأما اليونانية من النصارى فإنها تزعم أن الذي ادعته اليهود من ذلك باطل، وأن الصحيح من القول في قدر مدة أيام الدنيا من لدن خلق الله آدم إلى وقت هجرة نبينا محمد (ص) على سياق ما عندهم في التوراة التي هي في أيديهم، خمسة آلاف وتسعمائة واثنتان وتسعون سنة وأشهر، وذكروا تفصيل ما ادعوه من ذلك بولادة نبي نبي وملك ملك ووفاته من عهد آدم إلى وقت هجرة رسول الله (ص)، وزعموا أن اليهود إنما نقصوا ما نقصوا من عدد سني ما بين تاريخهم وتاريخ النصارى دفعا منهم لنبوة عيسى بن مريم عليه السلام، إذ كانت صفته ووقت مبعثه مثبتة في التوراة وقالوا: لم يأت الوقت الذي وقِّتَ لنا في التوراة أن الذي صفته صفة عيسى يكون فيه، وهم ينتظرون بزعمهم خروجه ووقته، وأحسب أن الذي ينتظرونه ويدعون أن صفته في التوراة مثبتة هو الدجال الذي وصفه رسول الله (ص) لأمته وذكر لهم أن عامة أتباعه اليهود، فإن كان ذلك هو عبد الله بن صياد فهو من نسل اليهود.
وأما المجوس فإنهم يزعمون أن قدر مدة الزمان من لدن ملك جيومرت إلى وقت هجرة نبينا ثلاثة ألاف ومائة وتسع وثلاثون سنة، وهم لا يذكرون مع ذلك نسبا يعرف فوق جيومرت ويزعمون أنه آدم أبو البشر وأهل الأخبار في أمره مختلفون، فمن قائل منهم فيه مثل قول المجوس ومن قائل منهم إنه تسمى بآدم بعد أن ملك الأقاليم السبعة، وأنه هو جامر بن يافث بن نوح وكان بارا بخدمته فدعا الله له ولذريته بطول العمر والتمكين في البلاد والنصر على من ناوأه واتصال الملك له ولذريته ودوامه له ولهم، فاستجيب له فيه فأعطي جيومرت ذلك وولده وهو أبو الفرس، ولم يزل الملك فيه وفي ولده إلى أن زال عنهم بدخول المسلمين مدائن كسرى وغلبة أهل الإسلام إياهم على ملكهم، ومن قائل غير ذلك.
عبود
19 - أبريل - 2010
تابع7    كن أول من يقيّم
 
كيفية حدوث الأوقات والأزمان والليل والنهار
إن الزمان هو اسم لساعات الليل والنهار وهي مقادير من جري الشمس والقمر في الفلك كما قال الله عز وجل (وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَفالزمان هو قطع الشمس والقمر درجات الفلك وهو محدث كالليل والنهار، وأن محدث ذلك هو الله الذي تفرد بإحداث جميع خلقه كما قال (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)، ومن جهل حدوث ذلك من خلق الله فإنه لن يجهل اختلاف أحوال الليل والنهار بأن أحدهما يرد على الخلق بسواد وظلمة وأن الآخر منهما يرد عليهم بنور وضياء ونسخ لسواد الليل وظلمته، فإذا كان من المحال اجتماعهما مع اختلاف أحوالهما في وقت واحد، كان يقينا أنه لا بد من أن يكون أحدهما كان قبل الآخر وذلك دليل على حدوثهما وأنهما خلقان لخالقهما، ومن الدلالة أيضا على حدوث الأيام والليالي أنه لا يوم إلا وهو بعد يوم كان قبله وقبل يوم كائن بعده، فمعلوم أن ما لم يكن ثم كان أنه محدث مخلوق وأن له خالقا ومحدثا، ثم أن الأيام والليالي معدودة وما عد من الأشياء له ابتداء وما كان له ابتداء فإنه لا بد له من مبتدىء هو خالقه.
 
عبود
19 - أبريل - 2010
تابع8    كن أول من يقيّم
 
ماذا قبل خلق الزمان
عن ابن عباس قال: أن اليهود أتت النبي فسألته عن خلق السموات والأرض فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد والإثنين، وخلق يوم الثلاثاء الجبال وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه أربعة، ثم قال لمن سأل: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ)، ثم قال: وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة، إلا ثلاث ساعات بقيت منه، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاث الساعات الآجال من يحيا ومن يموت، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة، فقالت اليهود: ثم ماذا يا محمد، قال: ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو أتممت، ثم استراح، فغضب النبي غضبا شديدا فنزل (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ، فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ).
وعن أبي هريرة وعبد الله بن سلام قالا: أن رسول الله (ص) قال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الأثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، آخر خلق خلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل.
نتبين من هذا عن رسول الله، أن الشمس والقمر خلقا بعد خلق الله أشياء كثيرة من خلقه، وكان ذلك كله ولا ليل ولا نهار، فإذا كان الليل والنهار إنما هو اسم لساعات معلومة من قطع الشمس والقمر درجات الفلك، وإذا كان صحيحا أن الأرض والسماء وما فيهما قد كانت ولا شمس ولا قمر، كان معلوما أن ذلك كله كان ولا ليل ولا نهار.
فإن قال لنا قائل: قد زعمت أن اليوم إنما هو اسم لميقات ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ثم زعمت الآن أن الله خلق الشمس والقمر بعد أيام من أول ابتدائه خلق الأشياء التي خلقها، فنجد أن هنالك مواقيت وتسمية للأيام، ولا شمس ولا قمر، وهذا بدون برهان على صحته كلام ينقض بعضه بعضا.
نقول: إن الله سمى ما ذُكر أياما فسميناه بالاسم الذي سماه به الله، وكان وجه تسميته ذلك أياما ولا شمس ولا قمر كنظير قوله عز وجل (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا، لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)، ولا بكرة ولا عشي هنالك، إذ أنه لا ليل في الآخرة ولا شمس ولا قمر كما قال عز وجل (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ)، فسمى تعالى ذكره يوم القيامة يوما عقيما، إذ أنه يوما لا ليل بعد مجيئه، وإنما أريد بتسمية ما سمى أياما قبل خلق الشمس والقمر هو تقدير الله مدة ألف عام من أعوام الدنيا، والعام منها اثنا عشر شهرا من شهور أهل الدنيا التي تعد ساعاتها وأيامها بقطع الشمس والقمر درجات الفلك، كما سمى بكرة وعشيا لما يرزقه أهل الجنة في قدر المدة التي كانوا يعرفون ذلك من الزمان في الدنيا بالشمس ومجراها في الفلك، ولا شمس عندهم ولا ليل في الآخرة، وكل ذلك قاله السلف من أهل العلم ومنهم مجاهد قال عن ابن عباس وقتادة: يقضي الله عز وجل أمر كل شيء ألف سنة إلى الملائكة فقد قال تعالى (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ(وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَفاليوم عند الله أن يقول لما يقضي إلى الملائكة ألف سنة كن فيكون، ولكن سماه يوما فهو الخالق وسماه كما شاء، وهذا الخبر ورد عن جماعة من السلف أنهم قالوه.
عبود
19 - أبريل - 2010
تابع9    كن أول من يقيّم
 
قال الله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)، وقوله تعالى (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فإن كان كل شيء هالك غير وجهه وكان الليل والنهار ظلمة أو نورا خلقهما لمصالح خلقه فلا شك أنهما فانيان هالكان، وكما قال (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ويعني بذلك أنها عميت فذهب ضوءها وذلك عند قيام الساعة، وهذا ما لا يحتاج إلى الإكثار فيه ويقر به جميع أهل التوحيد من أهل الإسلام وأهل التوراة والإنجيل والمجوس، مقرون بأن الله عز وجل محييهم بعد فنائهم وباعثهم بعد هلاكهم إلا قوم من عبدة الأوثان فإنهم يقرون بالفناء وينكرون البعث.
معلوم أن أي مخلوق لا بد له من خالق والمحدث لا بد له من مؤلف، والمجتمع من شيئين أو أكثر أو من تفريق شئ له مفرق أو جامع، ومن لا يجوز عليه الاجتماع والافتراق وهو الواحد القادر الجامع بين المختلفات الذي لا يشبهه شيء وهو على كل شيء قدير، فهو بارىء الأشياء ومحدثها كان قبل كل شيء، وأن الليل والنهار والزمان والساعات محدثات وأنه محدثها الذي يدبرها ويصرفها قبلها إذ كان من المحال أن يكون شيء يحدث شيئا إلا ومحدثه قبله وأن في قوله تعالى (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)، لأبلغ الحجج وأدل الدلائل لمن فكر بعقل واعتبر بفهم على قدم بارئها وحدوث كل ما جانسها وأن لها خالقا لا يشبهها، وذلك أن كل ما ذكر ربنا تبارك وتعالى في هذه الآية من الجبال والأرض والإبل، فإن ابن آدم يعالجه ويدبره بتحويل وتصريف وحفر ونحت وهدم غير ممتنع عليه شيء من ذلك، ثم إن ابن آدم مع ذلك غير قادر على إيجاد تصريفه فلم يوجده من هو مثله ولا هو أوجد نفسه، وأن الذي أنشأه وأوجد عينه هو الذي لا يعجزه شيء أراده ولا يمتنع عليه إحداث شيء شاء إحداثه، وهو الله الواحد القهار فإن قيل اثنين أنكرنا ذلك لتمام الخلق فلو كان المدبر اثنين لم يخلوا من اتفاق أو اختلاف، فإن كانا متفقين فمعناهما واحد وإنما جعل الواحد اثنين وإن كانا مختلفين كان محالا وجود الخلق على التمام والتدبير، لأن المختلفين فعل كل واحد منهما خلاف فعل صاحبه بأن أحدهما إذا أحيا أمات الآخر وإذا أوجد أحدهما أفنى الآخر، فكان محالا وجود شيء من الخلق على ما وجد عليه من التمام وفي قول الله عز وجل (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ، إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، أبلغ حجة وأوجز بيان وأدل دليل على بطلان ما قاله المبطلون من أهل الشرك بالله، وذلك أن السموات والأرض لو كان فيهما إله غير الله لم يخل أمرهما مما وصفت من اتفاق واختلاف كما قال ربنا جل وعلا (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَفتبين إذا أن القديم بارىء الأشياء وصانعها هو الواحد الذي كان قبل كل شيء وهو الكائن بعد كل شيء، والأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء، وأنه كان ولا وقت ولا زمان ولا ليل ولا نهار ولا ظلمة ولا نور إلا نور وجهه الكريم، ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا نجوم، وأن كل شيء سواه محدث مدبر مصنوع انفرد بخلق جميعه بغير شريك ولا معين ولا ظهير، سبحانه من قادر قاهر.
عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: إنكم تُسألون بعدي عن كل شيء، حتى يقول القائل هذا الله خلق كل شيء فمن ذا خلقه، إذا سألكم الناس عن هذا فقولوا: الله خالق كل شيء والله كان قبل كل شيء والله كائن بعد كل شيء، فإذا كان معلوما أن خالق الأشياء وبارئها كان ولا شيء غيره، وأنه أحدث الأشياء فدبرها وأنه قد خلق صنوفا من خلقه قبل خلق الأزمنة والأوقات وقبل خلق الشمس والقمر اللذين يجريهما في أفلاكهما، وبهما عرفت الأوقات والساعات وأرخت التأريخات وفصل بين الليل والنهار، فلنقل فيم ذلك الخلق الذي خلق قبل ذلك وما كان أوله؟.
عبود
19 - أبريل - 2010
ت10    كن أول من يقيّم
 
قال عبادة بن الصامت: سمعت رسول الله يقول: إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن من ذلك إلى قيام الساعة، ثم رفع بخار الماء ففتق منه السموات، وعن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله قال: إن أول شيء خلق الله القلم وأمره أن يكتب كل شيء، وعن عطاء قال سألت الوليد بن عبادة بن الصامت: كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت قال: دعاني فقال: أي بني، اتق الله، واعلم أنك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تؤمن به وحده والقدر خيره وشره، إني سمعت رسول الله يقول: إن أول ما خلق الله عز وجل، خلق القلم فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب، قال: اكتب القدر، قال: فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وبما هو كائن إلى الأبد، وقد اختلف أهل السلف في ذلك فقال بعضهم بنحو الذي روي عن رسول الله فيه ومنهم ابن عباس.
وقال آخرون: بل أول شيء خلق الله عز وجل من خلقه: النور والظلمة، ومنهم ابن اسحاق حيث قال: كان أول ما خلق الله عز وجل النور والظلمة، ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا ويقول الله عز وجل (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِفكان كما وصف نفسه عز وجل، إذ ليس إلا الماء عليه العرش وعلى العرش ذو الجلال والإكرام، فكان أول ما خلق الله النور والظلمة، أما قول ابن عباس إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئا، فكان أول ما خلق الله القلم، فهو خبر منه أن الله خلق القلم بعد خلقه عرشه، وقول ابن عباس أثبت لروايته ذلك عن رسول الله (ص) وهو أعلم قائل، وذلك من غير استثناء منه شيئا من الأشياء أنه تقدم خلق الله إياه خلق القلم، بل عم بقوله إن أول شيء خلقه الله القلم كل شيء من غير استثنائه من ذلك عرشا ولا ماء ولا شيئا غير ذلك.
ماذا بعد القلم
إن الله جل جلاله خلق بعد القلم وبعد أن أمره فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، خلق سحابا رقيقا وهو الغمام الذي ذكره جل وعلا في محكم كتابه فقال (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)، وذلك قبل ان يخلق عرشه، وبذلك ورد الخبر عن أبي رزين العقيلي قال قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه فقال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء، وعن عمران بن الحصين وكان من أصحاب رسول الله (ص) قال: أتى قوم رسول الله فدخلوا عليه فجعل يبشرهم ويقولون: أعطنا، حتى ساء ذلك رسول الله ثم خرجوا من عنده، وجاء قوم آخرون فدخلوا عليه فقالوا: جئنا نسلم على رسول الله ونتفقه في الدين ونسأله عن بدء هذا الأمر فقال (ص): فأقبلوا البشرى إذ لم يقبلها أولئك الذين خرجوا، قالوا: قبلنا، فقال رسول الله (ص): كان الله لا شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر قبل كل شيء ثم خلق سبع سموات، ثم اختلف في الذي خلق تعالى بعد العماء فقال بعضهم خلق بعد ذلك عرشه وقال ابن عباس: إن الله عز وجل خلق العرش أول ما خلق فاستوى عليه، وقال آخرون: خلق الله عز وجل الماء قبل العرش ثم خلق عرشه فوضعه على الماء، وقال وهب بن منبه: إن العرش كان قبل أن يخلق السموات والأرض على الماء، فلما أراد أن يخلق السموات والأرض قبض من صفاة الماء قبضة ثم فتح القبضة فارتفعت دخانا، ثم قضاهن سبع سموات في يومين ودحا الأرض في يومين وفرغ من الخلق في اليوم السابع.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال إن الله تبارك وتعالى خلق الماء قبل العرش، لصحة الخبر الذي ذكر عن أبي رزين العقيلي عن رسول الله (ص)، فأخبر أن الله خلق عرشه على الماء، ومحال إذ كان خلقه على الماء أن يكون خلقه عليه والذي خلقه عليه غير موجود إما قبله أو معه، فإذا كان كذلك فالعرش لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون خلق بعد خلق الله الماء، وإما أن يكون خلق هو والماء معا، فأما أن يكون خلقه قبل خلق الماء فذلك غير جائز صحته، وقد قيل إنه كان بين خلقه القلم وخلقه سائر خلقه ألف عام، فلما أراد جل جلاله خلق السموات والأرض خلق فيما ذكر أياما ستة فسمى كل يوم منهن باسم غير الذي سمى به الآخر، قال الضحاك بن مزاحم عن زيد بن الأرقم: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ليس منها يوم إلا له اسم: أبجد - هوز - حطي - كلمن - سعفص قرشت، وقال آخرون ومنهم ابن عباس قال: إن الله خلق يوما واحدا سماه الأحد ثم خلق ثانيا فسماه الإثنين ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء ثم خلق خامسا فسماه الخميس.
عبود
19 - أبريل - 2010
تابع11    كن أول من يقيّم
 
عن ابن عباس أن نبي الله (ص) قال: إن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء، صفحاتها من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور لله فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء، وقال ابن عباس: اللوح المحفوظ لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء وقلمه نور وكلامه معقود بالعرش وهو في حِجْر ملك إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده، دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة، ، وقال أنس بن مالك وغيره من السلف: اللوح المحفوظ في جبهة إسرافيل، وقال مقاتل: هو عن يمين العرش.
عن ابن عباس قال: وضع البيت العتيق على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحت البيت، وعن عبدالله بن سلام قال: إن الله تعالى خلق السموات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل، فتلك الساعة التي تقوم فيها القيامة.
أن مدة ما بين أول خلق خلقه الله تعالى إلى قيام الساعة وفناء جميع العالم أربعة عشر ألف عام من أعوام الدنيا، وذلك أربعة عشر يوما من أيام الآخرة، سبعة أيام من ذلك وهي سبعة آلاف عام من أعوام الدنيا مدة ما بين أول ابتداء الله جل وتقدس في خلق أول خلقه إلى فراغه من خلق آخرهم وهو آدم أبو البشر صلوات الله عليه، وسبعة أيام أخر وهي سبعة آلاف عام من أعوام الدنيا من ذلك مدة ما بين فراغه جل ثناؤه من خلق آخر خلقه وهو آدم إلى فناء آخرهم وقيام الساعة، وعود الأمر إلى ما كان عليه قبل أن يكون شيء غير القديم البارىء الذي له الخلق والأمر الذي كان قبل كل شيء، فلا شيء كان قبله والكائن بعد كل شيء فلا شيء يبقى غير وجهه الكريم فإن قال قائل: وما دليلك على أن الأيام الستة التي خلق الله فيهن خلقه كان قدر كل يوم منهن ألف عام من أعوام الدنيا دون أن يكون ذلك كأيام أهل الدنيا التي يتعارفونها بينهم، وإنما قال الله عز وجل في كتابه (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فنقول أن الله تعالى قال (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَفاليوم عند الله ألف سنة ولكن سماه يوما فهو الخالق وسماه كما شاء.
عبود
19 - أبريل - 2010
 1  2