تنطلق فكرة هذا البحث من رغبة قديمة تدفعني ، بدون كلل ، إلى البحث والتساؤل ومعاينة التجربة الوجودية للإنسان ، في ماضيه وحاضره ، كما تتجلى في تاريخه وفي معاناته اليومية ، وكما تفصح عنها أدوات الثقافة من شعر وأدب وفلسفة وفنون وعلوم ، رغبة مني في الإدراك ، والإمساك بتلك المشاعر الخفية التي أعيشها في داخلي والتي تشكل المخيال والمخزون العاطفي الذي يرفد حياتي بالطاقة اللازمة للاستمرار لكنه ، في الوقت عينه ، يحدد وجهة مصيري وتفكيري . والصورة التي أبحث عنها هي صورة البنت التي تعيش في داخلي ولا يراها الناس والتي بقدر ما هي عاطفية وخجولة ومتوحدة في عالمها الخاص ، بقدر ما هي عدوانية ومتسلطة وشديدة العناد . هذه البنت القابعة في تلافيف نفسي لا عمر لها ولا تظهر إلا في حالات نادرة هي حالات التجلي العاطفي لغريزة الأمومة أو حالات الغضب المستطير ، فهي تعيش في عزلة وانطواء داخل قلعتها الحصينة التي بنتها من حولها كما تبني دودة الحرير شرنقتها بمزيج من الحكايات والأساطير الخاصة بها وبتاريخها الذي جاءت منه وتشعر حياله بالمحبة والولاء وهو يرفدها بمجموعة من المعارف والمثل البديهية التي لم ترها في مكان أو تتعلمها من أحد ويمنحها الشعور بأن ما تعرفه هو أزلي سرمدي لا يغير منه حال ولا يبدله زمن . هذه الذات القابعة في تلافيف نفسي هي ذات حائرة ، وحيرتها ليست معرفية بقدر ما هي خوف وحذر غايته الحفاظ على هذه الواحة من الأمان الداخلي وهذا لأنها تشتاق ، تشتاق للخروج من عزلتها وتشعر بالوجد والانخطاف في كل مرة تجد نفسها فيها أمام تجليات الحب والجمال الباهر . وبالرغم من محبتي لها وحرصي عليها لأنها حصني الأخير ، إلا أنني أعلم بأن لها دوراً سلبياً ومعيقاً في حياتي وكم من مرة حالت بيني وبين أشياء كثيرة كنت أحبها وأتمناها بقوة بدافع من كبريائها أو حذرها أو تعنتها أو مثاليتها الشديدة . هي ليست إذن ذاتي المفكرة ، بل هي ذاتي الغريزية والعاطفية التي تتميز بردود فعل فطرية وعنيفة ومتعنتة وغير متوقعة في غالب الأحيان سواء في حبها أو كرهها او سخطها أو حذرها الشديد وبحيث تبدو قراراتها المجحفة والقاسية أحياناً اعتباطية وغبية وغير ملائمة للواقع ، مع هذا ، ورغم إدراكي لدورها ، فهي تنتصر علي في كل مرة لتفرض قوانينها وأحكامها التي تعيشها بالحدس والبديهة وترفض النقاش بها أو المساومة عليها بلغة العقل والمنطق . وبدافع من رغبتي في فهم هذه البنت الفلاحة ، العنيدة والبدائية ، التي تعيش في نفسي ورغبتي في أن تكف عن التدخل في حياتي وقراراتي بهذا الشكل السلبي والمعيق لقدرتي على التطور والتكيف مع العالم المحيط بي قررت كتابة هذا البحث الذي قمت بتقصي معلوماته من قراءات متعددة ومتشعبة استخلصت منها ما نويت تقديمه لكم اليوم . |