استراحة مع الشعر (1 ) كن أول من يقيّم يبقى الشعر أكثر الأنواع الأدبية التصاقاً بذات الشاعر الدفينة والأكثر تعبيراً عما يختزن في عمقه من تجربة وجودية وصور وألوان وموسيقى وجدل . يجهد الشاعر غالباً في تصوير انفعالاته والكشف عنها للتخفف منها ومشاركة الآخرين رؤيته ومشاعره وهلوساته ، وحتى في الأحايين التي يتقصد فيها أغراضاً أخرى لقصيدته فإننا غالباً ما نراه أو نلمح ظله في خلفية المشهد وهذا يعني بأننا غالباً ما نجلس قبالة الشاعر لنتأمله ونسمعه يتحدث عن نفسه أو من خلالها فقطب وجود الشاعر هو ذاته وما يفيض عنها . لكننا سنعاين ، في هذه المرة ، مجموعة من القصائد القصيرة بعنوان " تلميحات " كتبها الشاعر اليوناني الأشهر في عصرنا الحديث " يانيس رتسوس " ما بين عامي 1970 و 1971 أهم ما فيها هو أن الشاعر لا يحتل فيها صفة المركز ونكاد لا نراه في خلفية الصورة لأنه يتحول هنا إلى مجرد مشاهد ، مثلنا تماماً ، يراقب هذا العالم ويلتقط من تفاصيله جزئيات لا معنى لها في الظاهر لكن عيون الشاعر تلتقطها على أنها إشارات خفية لا تستدعي التأمل الميتافيزيقي بقدر ما تعني وجود طبقات أخرى من الوجود لا يدركها الوعي في سباقه اللاهث والمنهمك دائماً بما هو ضروري وعاجل وملح . تَلمِيحَــات فِي جَيْبِكَ الْخَاوِي قِطْعَةُ عُمْلَةٍ قَدِيمَة، مَنْسِيَّة- لَمْسَتُكَ تَتَعَرَّفُ عَلَى نَحْوٍ أَعْمَى عَلَى أَعْضَاءِ الإِلَهِ الْعَارِيَة. ******** الشَّجَرَةُ، وَالتِّمْثَالُ، وَالْحَدِيقَةُ، وَالْمَرْأَةُ الْعَجُوز- فِيمَا تُؤْمِنُ بِدَيْمُومَةِ الْكَلِمَاتِ، فِيمَا تَمْضِي خَارِجَ الزَّمَنِ، خَارِجَ مَدْخَلِ الْقَصِيدَة. ************ يَبْتَسِمُ رَجُلٌ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي الظَّلاَم، رُبَّمَا لأَنَّه يَسْتَطِيعُ الرُّؤْيَةَ فِي الظَّلاَم، رُبَّمَا لأَنَّه يَسْتَطِيعُ رُؤْيَةَ الظَّلاَم. *********** دَعْكَ مِنَ التَّفْسِيرَات - فَمَا قِيمَتُهَا؟ فَهيَ، عَلَى الْعَكْسِ، تُؤَدِّي إِلَى تَشْوِيشٍ أَكْبَرَ لِلأَشْيَاء - طَالَمَا أَنَّكَ تَعْرِفُ أَنَّ الشِّعْر، الْعَارِي، وَالْمُتَوَاضِعَ وَالْمُتَكَبِّرَ، لَيْسَ أَكْثَرَ مِن التَّحْقِيقَ الْمُدْهِشَ لِمَا يَسْتَعْصِي عَلَى التَّفْسِير. *********** قَطَعَت الْفَتَاةُ غُصْنَ صَفْصَاف، بَعِيدًا وَتَشَمَّمَت أَصَابِعَهَا - حَرَكُتُهَا هَذِه كَانَت إِسْقَاطًا لِلزَّمَنِ دَاخِلَ الْعَبِير. ************** وَرَاءَ أَزْهَارِ عَبَّادِ الشَّمْسِ الْكَبِيرَةِ، كَانَ الْجِدَار، وَرَاءَ الْجِدَارِ، الطَّرِيق - لاَ يُمْكِنُ رُؤْيَتُه أَبَدًا. ثُمَّ الْمَنَازِلُ، وَالأَشْجَارُ، وَالتِّلاَلُ، وَالْجَرَائِم. فِي الظَّهِيرَة يَذْهَبُ عُمَّالُ وَرْشَةِ الأَخْشَابِ إِلَى هُنَاكَ لِيَبُولُوا. فِي اللَّيْلِ يَخْرُجُ الْمَوْتَى لِيَطْلُوا الْجِدَار. *********** لاَ تَحُم حَوْلَ الْمَوْضُوع، فَلْتَتَكَلَّم بِفَظَاظَةٍ، بَل بِلُهَاث، (التَّضْمِينَاتُ وَالْمَحْذُوفَاتُ الْجَمِيلَةُ - يَقُول - هِيَ مِنْ أَجْلِ اللَّيَاقَة)- فَحَتَّى تَهْشِيمُ الْقَصِيدَةِ قَد يُوَلِّدُ قَصِيدَة. ********** فَلْتَتْرُكِ الْحَرْبَةَ دَائِمًا فِي رُكْنِ الْغُرْفَة، وَلْتَتْرُكِ الدِّرْعَ مَقْلُوبًا لِيَمْتَلِئَ بِالْمَاء فَقَد تَأتِي الطُّيُورُ لِتَشْرَبَ وَأَنْتَ تَنْظُرُ عَبْرَ زُجَاجِ النَّافِذَة، وَأَنْتَ تُشَاهِدُ الأَرَانِبَ تَمْضُغُ أَوْرَاقَ الْكُرُوم بِصَرِيرِ ذَيْلِ طَائِرَةٍ وَرَقِيَّةٍ وَهوَ يَغُوصُ فِي الزُّرْقَة. ****************** مَعْنَى الْفَنِّ - قَالَ - قَد يَتِمُّ الْعُثُورُ عَلَيْه فِيمَا تَمَّ حَذْفُه، عَن قَصْدٍ أَو غَيْرِ قَصْد، شَأنَ تِلْكَ السِّكِّينِ الْوَامِضَةِ الْمَخْفِيَّةِ تَمَامًا فِي السَّلَّة تَحْتَ الْعِنَبِ الأَحْمَرَ، الذَّهَبِيِّ، الأُرْجُوَانِي. ******************** أَيًّا كَانَ مَا تُرَاكِمُه فِي صُنْدُوقِكَ فَهوَ يَتَّخِذُ طَرِيقَ الْمَوْت. أَيًّا كَانَ مَا تَهبُه فَهوَ يَتَّخِذُ طَرِيقَ الْحَيَاة. الأَعْمَى الْعَجُوز يَتَعَرَّفُ عَلَى الْعُمْلاَتِ الْمُزَيَّفَةِ بِاللَّمْس. يَلْمَسُ بِأَصَابِعِه كُلَّ شَيْءٍ أَمَامَ عَيْنَيْهِ، يُسَمِّيهَا وَاحِدًا وَاحِدًا، وَلاَ يَهمُّ كَم تُخْفِي فِي الرُّكْنِ أَو وَرَاءَ السِّتَارَة. ******************** يَزْدَادُونَ ابْتِعَادًا، الْوَاحِدُ عَنِ الآخَر؛ لَم يَعُودُوا يُؤْمِنُونَ بِالْبَرَاءَةِ؛ لَم يَعُودُوا يُؤْمِنُون بِالأَفْكَارِ، بِالْكَلِمَاتِ، بِالزُّهُور. وَهُم يَنْفَصِلُون كَانَ كُلٌّ مِنهُم يَبْدُو أَنَّه يَحْمِلُ جَبَلَه عَلَى ظَهْرِه. *********************
لاَ تَسَل كَم سَيَسْتَمِرُّ ذَلِك - لَن يَسْتَمِر؛ الآخَرُونَ يَتَّخِذُونَ الْقَرَارَات. فَلْتَقْلِبِ الْمِنْضَدَةَ رَأسًا عَلَى عَقِب؛ فَلْتُطْفِئ الْمِصْبَاح. الْمِرْآةُ مَلِيئَةٌ بِثُقُوبِ الرَّصَاص. لاَ تَنْظُر إِلَى الدَّاخِل. سَأَنْظُر - قَالَ الآخَرُ - خِلاَلَ هَذِهِ الثُّقُوب. كُلَّ مَرَّةٍ أَرَى وَجْهِيَ الْمَسْرُوقَ مِنْ جَدِيدٍ، لَم يُمَس. ****************** السَّفِينَةُ رَحَلَت. الأَضْوَاءُ ذَوَت. عَلَى رَصِيفِ الْمِينَاء ظَلَّت الأَكْيَاسُ الْمُمْتِلَئَةُ بِالدِّينَامِيتِ مُكَدَّسَةً فِي صُفُوف. وَفِي الْمَيْدَانِ الْعَامِ، أَمْسَكَ التِّمْثَالُ بِالثِّقَاب. ****************** طُوَالَ وَقْتٍ مَا أَنْهَكَ الْكَلِمَات. وَمَعَ ذَلِك، فَهوَ دَائِمًا يَنْتَظِر، وَمِصْبَاحُهُ مُضَاء، خَشْيَةَ أَنْ يَلْتَقِي مُصَادَفَةً بِالْقَصِيدَةِ فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْل. *************** دَائِمًا مَا يُرَاقِبُ التِّرمُومِتر عَلَى الْحَائِط. حَسْبَ الدَّرَجَاتِ، يَزْدَادُ سُخُونَةً أَو بُرُودَة. وَعِنْدَمَا انْكَسَرَ التِّرْمُومِتْرَ ذَاتَ يَوْمٍ، ارْتَبَك - لَم يَعُد يَدْرِي مَتَى يُدْفِئُ نَفْسَه أَو يَبْتَرِد. قَطَرَاتُ الزِّئْبَقِ انْسَابَت عَلَى الأَرْضِيَّة مَعَ حُرِّيَّةٍ مُبَدَّدَةٍ، غَيْرِ مَقْبُولَةٍ، مُرْعِبَة. |