البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الفلسفة و علم النفس

 موضوع النقاش : سؤال الكينونة ولعبة الحياة والموت    قيّم
التقييم :
( من قبل 9 أعضاء )

رأي الوراق :

 ضياء  
17 - فبراير - 2010
 
تنطلق فكرة هذا البحث من رغبة قديمة تدفعني ، بدون كلل ، إلى البحث والتساؤل ومعاينة التجربة الوجودية للإنسان ، في ماضيه وحاضره ، كما تتجلى في تاريخه وفي معاناته اليومية ، وكما تفصح عنها أدوات الثقافة من شعر وأدب وفلسفة وفنون وعلوم ، رغبة مني في الإدراك ، والإمساك بتلك المشاعر الخفية التي أعيشها في داخلي والتي تشكل المخيال والمخزون العاطفي الذي يرفد حياتي بالطاقة اللازمة للاستمرار لكنه ، في الوقت عينه ، يحدد وجهة مصيري وتفكيري .
والصورة التي أبحث عنها هي صورة البنت التي تعيش في داخلي ولا يراها الناس والتي بقدر ما هي عاطفية وخجولة ومتوحدة في عالمها الخاص ، بقدر ما هي عدوانية ومتسلطة وشديدة العناد .
هذه البنت القابعة في تلافيف نفسي لا عمر لها ولا تظهر إلا في حالات نادرة هي حالات التجلي العاطفي لغريزة الأمومة أو حالات الغضب المستطير ، فهي تعيش في عزلة وانطواء داخل قلعتها الحصينة التي بنتها من حولها كما تبني دودة الحرير شرنقتها بمزيج من الحكايات والأساطير الخاصة بها وبتاريخها الذي جاءت منه وتشعر حياله بالمحبة والولاء وهو يرفدها بمجموعة من المعارف والمثل البديهية التي لم ترها في مكان أو تتعلمها من أحد ويمنحها الشعور بأن ما تعرفه هو أزلي سرمدي لا يغير منه حال ولا يبدله زمن .
هذه الذات القابعة في تلافيف نفسي هي ذات حائرة ، وحيرتها ليست معرفية بقدر ما هي خوف وحذر غايته الحفاظ على هذه الواحة من الأمان الداخلي وهذا لأنها تشتاق ، تشتاق للخروج من عزلتها وتشعر بالوجد والانخطاف في كل مرة تجد نفسها فيها أمام تجليات الحب والجمال الباهر .
وبالرغم من محبتي لها وحرصي عليها لأنها حصني الأخير ، إلا أنني أعلم بأن لها دوراً سلبياً ومعيقاً في حياتي وكم من مرة حالت بيني وبين أشياء كثيرة كنت أحبها وأتمناها بقوة بدافع من كبريائها أو حذرها أو تعنتها أو مثاليتها الشديدة .
هي ليست إذن ذاتي المفكرة ، بل هي ذاتي الغريزية والعاطفية التي تتميز بردود فعل فطرية وعنيفة ومتعنتة وغير متوقعة في غالب الأحيان سواء في حبها أو كرهها او سخطها أو حذرها الشديد وبحيث تبدو قراراتها المجحفة والقاسية أحياناً اعتباطية وغبية وغير ملائمة للواقع ، مع هذا ، ورغم إدراكي لدورها ، فهي تنتصر علي في كل مرة لتفرض قوانينها وأحكامها التي تعيشها بالحدس والبديهة وترفض النقاش بها أو المساومة عليها بلغة العقل والمنطق .
وبدافع من رغبتي في فهم هذه البنت الفلاحة ، العنيدة والبدائية ، التي تعيش في نفسي ورغبتي في أن تكف عن التدخل في حياتي وقراراتي بهذا الشكل السلبي والمعيق لقدرتي على التطور والتكيف مع العالم المحيط بي قررت كتابة هذا البحث الذي قمت بتقصي معلوماته من قراءات متعددة ومتشعبة استخلصت منها ما نويت تقديمه لكم اليوم .
 1  2  3 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
المعرفة والحكمة    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 
تعرضت نظرية التحليل النفسي للكثير من النقد منذ ظهورها وحتى اليوم ، مع ذلك بقيت الأكثر شيوعاً لأنها ، كما يبدو ، الأكثر تعبيراً عن روح العصر بحيث أن تفسير السلوك بالوعي الباطن طال كل الحقول الثقافية والمعرفية حتى الفنون والسينما والأدب . وإذا كانت الفكرة التي بنى عليها علم التحليل النفسي فرضياته عظيمة الفائدة لناحية إخراج المكبوت والمهمش من العواطف والانفعالات إلى حيز الوعي بغاية تأطيره والتخفف من تأثيراته السلبية على النفس ، إلا أن هذا التركيز على العواطف السلبية والرغبات المتطرفة في جنوحها الغريزي كان يجب أن يقتصر على مجالات علم النفس العلاجي ، وان يتوقف دوره على التخفيف من معاناة بعض المرضى ، وأن لا يتحول إلى إيديولوجيا ناسفاً كل المجهودات السابقة للفكر الفلسفي والنظري الذي يبحث عن جوهر الإنسان ويحترم نفسه وكرامته وإنسانيته .
 
ففي العصر الذي نعيش فيه والذي يتميز ب " علميته " الشديدة ، يجنح التحليل النفسي إلى تفسيرات ميكانيكية للعمليات العقلية والفكر والسلوك على حساب المنهج التأويلي المنفتح على فهم الإنسان بكليته . بالعودة إلى التاريخ يتبين لنا بأن الفصل بين العلم والفلسفة هو طارىء على الفكر الإنساني فأرسطو وأفلاطون وديموقريطس وطاليس والفارابي وابن سينا وديكارت ونيوتن وحتى كانت ... ، كلهم كانوا علماء وفلاسفة في الوقت عينه ، ولم تتأكد هذه القطيعة ( وهي غير تامة بنظري ) التي بدأت في عصر النهضة إلا في عصرنا الحالي .
 
يبذل " العلم " حالياً قصارى جهده في محاولة تفسير العلاقة بين " الفكر " و " الدماغ " وتصنيف المستويات التي تتقاطع فيها العلوم مع الفلسفة في الدماغ البشري وهي محاولة تبدو بريئة المقصد ظاهرياً إلا أنها في الحقيقة تجنح إلى إعادة تقييم دور الأخلاق من خلال إعادة إنتاج العلاقة بين ما هو " وضعي " وما هو " معياري " أي العلاقة بين المعرفة العلمية والمعايير الأخلاقية .
 
على مستوى الدعاية اليومية ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، تطالعنا الصحف والمجلات بشكل شبه منتظم ، تحت عناوين صغيرة منتثرة هنا وهناك ، بتفسيرات لبعض الظواهر النفسية والسلوكية تنشرها على أنها اكتشافات ، أو نتائج أبحاث مخبرية ( أكثرها أميريكية ) تتعلق بالهرمونات والأنزيمات والجينات الوراثية ، وعن مسؤوليتها في تفسير بعض المظاهر الحياتية التي تتعلق بالنوم واليقظة ، الحب والبغض ، الميل التعليمي أو الموسيقي أو المهني أو تفسير بعض الأمراض ...  وتركز على الفروقات بين المرأة والرجل كهاجس أصبح كالوسواس . هذه " المعلومات " المبعثرة والمتضاربة أحياناً ، لأنها تكذب بعضها البعض من حين لآخر ، والتي ترد على شكل خبطات القصد منها الإبهار أكثر مما هو الإخبار ، تجد تفسيرات لكل الظواهر ، المناخية والسلوكية والنباتية والحيوانية منها : كقرقرة القط وذكاء الدلافين والذبذبات التي تطلقها الحشرات ... ، والتي  لا أرى فيها فائدة علمية أو " إخبارية " عندما نتلقاها على هذه الصورة لأننا غالباً ما ننساها خلال دقائق ، ولا أجد لها هدفاً سوى التوجيه الإيديولوجي الذي يطمح إلى الإيحاء بأن " العلم " هو سمة " العصر الحديث " وبأنه في تطور مذهل يتجاوز طاقة الإنسان " العادي " على اللحاق به ، وبأنه سوف يتمكن يوماً من تفسير كل الظواهر . أنا لا أنكر أبداً بأن التكنولوجيا تتطور في كل يوم ، وأما " العلم "  فهو موضوع آخر لا يتعلق فقط بالتراكم المعرفي على المستوى التقني والمادي وإنما هو معني أيضاً بسعادة البشر وحمايتهم من هذا التعالي الفظ الذي يخفي في جوهره بذور دماره .
 

*ضياء
3 - مارس - 2010
استراحة مع الشعر (1 )    كن أول من يقيّم
 
يبقى الشعر أكثر الأنواع الأدبية التصاقاً بذات الشاعر الدفينة والأكثر تعبيراً عما يختزن في عمقه من تجربة وجودية وصور وألوان وموسيقى وجدل . يجهد الشاعر غالباً في تصوير انفعالاته والكشف عنها للتخفف منها ومشاركة الآخرين رؤيته ومشاعره وهلوساته ، وحتى في الأحايين التي يتقصد فيها أغراضاً أخرى لقصيدته فإننا غالباً ما نراه أو نلمح ظله في خلفية المشهد وهذا يعني بأننا غالباً ما نجلس قبالة الشاعر لنتأمله ونسمعه يتحدث عن نفسه أو من خلالها فقطب وجود الشاعر هو ذاته وما يفيض عنها . لكننا سنعاين ، في هذه المرة ، مجموعة من القصائد القصيرة بعنوان " تلميحات " كتبها الشاعر اليوناني الأشهر في عصرنا الحديث " يانيس رتسوس " ما بين عامي 1970 و 1971 أهم ما فيها هو أن الشاعر لا يحتل فيها صفة المركز ونكاد لا نراه في خلفية الصورة لأنه يتحول هنا إلى مجرد مشاهد ، مثلنا تماماً ، يراقب هذا العالم ويلتقط من تفاصيله جزئيات لا معنى لها في الظاهر لكن عيون الشاعر تلتقطها على أنها إشارات خفية لا تستدعي التأمل الميتافيزيقي بقدر ما تعني وجود طبقات أخرى من الوجود لا يدركها الوعي في سباقه اللاهث والمنهمك دائماً بما هو ضروري وعاجل وملح .
 
تَلمِيحَــات
فِي جَيْبِكَ الْخَاوِي قِطْعَةُ عُمْلَةٍ قَدِيمَة، مَنْسِيَّة-
لَمْسَتُكَ تَتَعَرَّفُ عَلَى نَحْوٍ أَعْمَى عَلَى أَعْضَاءِ الإِلَهِ الْعَارِيَة.
********
الشَّجَرَةُ، وَالتِّمْثَالُ، وَالْحَدِيقَةُ، وَالْمَرْأَةُ الْعَجُوز-
فِيمَا تُؤْمِنُ بِدَيْمُومَةِ الْكَلِمَاتِ، فِيمَا تَمْضِي
خَارِجَ الزَّمَنِ، خَارِجَ مَدْخَلِ الْقَصِيدَة.
************
يَبْتَسِمُ رَجُلٌ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي الظَّلاَم،
رُبَّمَا لأَنَّه يَسْتَطِيعُ الرُّؤْيَةَ فِي الظَّلاَم،
رُبَّمَا لأَنَّه يَسْتَطِيعُ رُؤْيَةَ الظَّلاَم.
***********
دَعْكَ مِنَ التَّفْسِيرَات - فَمَا قِيمَتُهَا؟ فَهيَ، عَلَى الْعَكْسِ،
تُؤَدِّي إِلَى تَشْوِيشٍ أَكْبَرَ لِلأَشْيَاء - طَالَمَا أَنَّكَ تَعْرِفُ أَنَّ الشِّعْر،
الْعَارِي، وَالْمُتَوَاضِعَ وَالْمُتَكَبِّرَ، لَيْسَ أَكْثَرَ مِن
التَّحْقِيقَ الْمُدْهِشَ لِمَا يَسْتَعْصِي عَلَى التَّفْسِير.
***********
قَطَعَت الْفَتَاةُ غُصْنَ صَفْصَاف، بَعِيدًا
وَتَشَمَّمَت أَصَابِعَهَا - حَرَكُتُهَا هَذِه
كَانَت إِسْقَاطًا لِلزَّمَنِ دَاخِلَ الْعَبِير.
**************
وَرَاءَ أَزْهَارِ عَبَّادِ الشَّمْسِ الْكَبِيرَةِ، كَانَ الْجِدَار،
وَرَاءَ الْجِدَارِ، الطَّرِيق - لاَ يُمْكِنُ رُؤْيَتُه أَبَدًا.
ثُمَّ الْمَنَازِلُ، وَالأَشْجَارُ، وَالتِّلاَلُ، وَالْجَرَائِم. فِي الظَّهِيرَة
يَذْهَبُ عُمَّالُ وَرْشَةِ الأَخْشَابِ إِلَى هُنَاكَ لِيَبُولُوا.
فِي اللَّيْلِ يَخْرُجُ الْمَوْتَى لِيَطْلُوا الْجِدَار.
***********
لاَ تَحُم حَوْلَ الْمَوْضُوع، فَلْتَتَكَلَّم بِفَظَاظَةٍ، بَل بِلُهَاث،
(التَّضْمِينَاتُ وَالْمَحْذُوفَاتُ الْجَمِيلَةُ - يَقُول - هِيَ مِنْ أَجْلِ اللَّيَاقَة)-
فَحَتَّى تَهْشِيمُ الْقَصِيدَةِ قَد يُوَلِّدُ قَصِيدَة.
**********
فَلْتَتْرُكِ الْحَرْبَةَ دَائِمًا فِي رُكْنِ الْغُرْفَة،
وَلْتَتْرُكِ الدِّرْعَ مَقْلُوبًا لِيَمْتَلِئَ بِالْمَاء
فَقَد تَأتِي الطُّيُورُ لِتَشْرَبَ وَأَنْتَ تَنْظُرُ عَبْرَ زُجَاجِ النَّافِذَة،
وَأَنْتَ تُشَاهِدُ الأَرَانِبَ تَمْضُغُ أَوْرَاقَ الْكُرُوم
بِصَرِيرِ ذَيْلِ طَائِرَةٍ وَرَقِيَّةٍ وَهوَ يَغُوصُ فِي الزُّرْقَة.
******************
مَعْنَى الْفَنِّ - قَالَ - قَد يَتِمُّ الْعُثُورُ عَلَيْه
فِيمَا تَمَّ حَذْفُه، عَن قَصْدٍ أَو غَيْرِ قَصْد،
شَأنَ تِلْكَ السِّكِّينِ الْوَامِضَةِ الْمَخْفِيَّةِ تَمَامًا فِي السَّلَّة
تَحْتَ الْعِنَبِ الأَحْمَرَ، الذَّهَبِيِّ، الأُرْجُوَانِي.
********************
أَيًّا كَانَ مَا تُرَاكِمُه فِي صُنْدُوقِكَ فَهوَ يَتَّخِذُ طَرِيقَ الْمَوْت.
أَيًّا كَانَ مَا تَهبُه فَهوَ يَتَّخِذُ طَرِيقَ الْحَيَاة. الأَعْمَى الْعَجُوز
يَتَعَرَّفُ عَلَى الْعُمْلاَتِ الْمُزَيَّفَةِ بِاللَّمْس. يَلْمَسُ بِأَصَابِعِه
كُلَّ شَيْءٍ أَمَامَ عَيْنَيْهِ، يُسَمِّيهَا وَاحِدًا وَاحِدًا،
وَلاَ يَهمُّ كَم تُخْفِي فِي الرُّكْنِ أَو وَرَاءَ السِّتَارَة.
********************
يَزْدَادُونَ ابْتِعَادًا، الْوَاحِدُ عَنِ الآخَر؛ لَم يَعُودُوا يُؤْمِنُونَ بِالْبَرَاءَةِ؛ لَم يَعُودُوا يُؤْمِنُون
بِالأَفْكَارِ، بِالْكَلِمَاتِ، بِالزُّهُور. وَهُم يَنْفَصِلُون
كَانَ كُلٌّ مِنهُم يَبْدُو أَنَّه يَحْمِلُ جَبَلَه عَلَى ظَهْرِه.
*********************


لاَ تَسَل كَم سَيَسْتَمِرُّ ذَلِك - لَن يَسْتَمِر؛ الآخَرُونَ يَتَّخِذُونَ الْقَرَارَات.
فَلْتَقْلِبِ الْمِنْضَدَةَ رَأسًا عَلَى عَقِب؛ فَلْتُطْفِئ الْمِصْبَاح.
الْمِرْآةُ مَلِيئَةٌ بِثُقُوبِ الرَّصَاص. لاَ تَنْظُر إِلَى الدَّاخِل.
سَأَنْظُر - قَالَ الآخَرُ - خِلاَلَ هَذِهِ الثُّقُوب.
كُلَّ مَرَّةٍ أَرَى وَجْهِيَ الْمَسْرُوقَ مِنْ جَدِيدٍ، لَم يُمَس.
******************
السَّفِينَةُ رَحَلَت. الأَضْوَاءُ ذَوَت. عَلَى رَصِيفِ الْمِينَاء
ظَلَّت الأَكْيَاسُ الْمُمْتِلَئَةُ بِالدِّينَامِيتِ مُكَدَّسَةً فِي صُفُوف.
وَفِي الْمَيْدَانِ الْعَامِ، أَمْسَكَ التِّمْثَالُ بِالثِّقَاب.
******************
طُوَالَ وَقْتٍ مَا أَنْهَكَ الْكَلِمَات. وَمَعَ ذَلِك،
فَهوَ دَائِمًا يَنْتَظِر، وَمِصْبَاحُهُ مُضَاء،
خَشْيَةَ أَنْ يَلْتَقِي مُصَادَفَةً بِالْقَصِيدَةِ فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْل.
***************
دَائِمًا مَا يُرَاقِبُ التِّرمُومِتر عَلَى الْحَائِط.
حَسْبَ الدَّرَجَاتِ، يَزْدَادُ سُخُونَةً أَو بُرُودَة.
وَعِنْدَمَا انْكَسَرَ التِّرْمُومِتْرَ ذَاتَ يَوْمٍ، ارْتَبَك -
لَم يَعُد يَدْرِي مَتَى يُدْفِئُ نَفْسَه أَو يَبْتَرِد.
قَطَرَاتُ الزِّئْبَقِ انْسَابَت عَلَى الأَرْضِيَّة
مَعَ حُرِّيَّةٍ مُبَدَّدَةٍ، غَيْرِ مَقْبُولَةٍ، مُرْعِبَة.
 
 
*ضياء
6 - مارس - 2010
استراحة مع الشعر ( 2 )    كن أول من يقيّم
 
 
يُرِيدُ أَنْ يَصْنَعَ التِّمْثَالَ التِّذْكَارِيَّ لِضُفْدَعَةٍ صَغِيرَة -
لاَ الضُّفْدَعَةَ نَفْسَهَا - إِنَّهَا النُّعُومَةُ مَا يُرِيد،
الْمِيكَانِيكِيَّةُ الْمُرَكَّبَةُ لِلْقَفَزَاتِ الْوِرَاثِيَّة
فِي الْحَدِيقَةِ الْمَرْوِيَّةِ فِي اللَّيْلِ تَحْتَ الدُّبَّيْن
لَحْظَةَ أَن كَانَت هِيلِين تَخْلَعُ ثِيَابَهَا خَلْفَ الْبَابِ الزُّجَاجِي.
*************
سَأُغَادِر ُ- يَقُولُ - أَصْوَاتَ السُّوقِ، وَالثَّلاَّجَاتِ، وَالسِّلاَل،
الْمُنْتَجَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ، التَّافِهَةَ، وَالإِعْلاَنَاتِ الْجَدِيدَة؛
سَأَذْهَبُ إِلَى الْمَنْزِلِ، أُغْلِقُ الْبَابَ، أَجْلِسُ فِي مِقْعَدِي،
أَبْرِي سِنَّ قَلَمِي الرَّصَاصِ بِأَدَبٍ، بِعِنَايَةٍ، وَأَصْرُخ.
************
شَرِيحَةُ بَطِّيخٍ أَحْمَرَ فِي الطَّبَق.
الْكِتَابُ الَّذِي أَعَرْتَه لِي كَانَ جَمِيلاً.
أُفَكِّرُ الآنَ فِي كِتَابَةِ قَصِيدَة.
فِيهَا، لَن يَتَحَادَثَ سِوَى الطُّيُور.
************
كُلُّ مُعْتَقَدٍ - يَقُول ُ- إِمَّا سَذَاجَةٌ أَو جُبْنٌ أَو ذَرِيعَةٌ مَاكِرَة.
أُدَخِّنُ سِيجَارَتِي بِسَكِينَةٍ تَحْتَ أَنْفِ الْمَوْت؛
أُزَرِّرُ قَمِيصِي أَو أَفْتَحُه؛ أُغَادِرُ أَوَّلاً
قَبْلَ أَن يَتَمَكَّنُوا مِنْ مُطَالَبَتِي بِالْمُغَادَرَةِ أَو طَرْدِي.
فِي اللَّيْلِ أَجْلِسُ نُقْطَةً مَيِّتَةً فِي الْفَرَاغِ، أَعْقِدُ ذِرَاعَيَّ،
أَتَظَاهَرُ بِأَنِّي جُثَّتِي أَمَامَ الْمِرْآةِ وَأَمْضِي لأَنَام.
***************
طُوَالَ أَيَّامٍ بِلاَ انْقِطَاعٍ تَتَلَمَّسُ يَدُه فِي جَيْبِه
عِظَامَ الْخَدِّ النَّاتِئَةَ لِلْفَرَاغ. ثُمَّ فَجْأَةً
يُخْرِجُ دُمْيَةً عَمْيَاءَ، يُضِيفُ لَهَا عَيْنَيْن،
وَيُعْطِيهَا لابْنَةِ مُتَعَهِّدِ الأَشْيَاءِ الْمُسْتَعْمَلَة.
تُعَرِّيهَا بِاسْتِمْتَاعٍ، وَتُخْرِجُ عَيْنَيْهَا مِنْ جَدِيد.
************
كَانَ الشِّعْرُ مِنْ جَدِيدٍ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَعَ حُدُوسٍ بِاحْتِمَالاَتٍ مُعْجِزَة. كَانَت خُطَى
الْمَرْأَةِ الآثِمَةِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي تُلاَزِمُ الْجِدَار،
وَحَفِيفُ ثَوْبِهَا أَعْلَى الزَّعْرُورِ الْكَبِيرِ فِي حَقْلِ الْكِلاَب؛
أَضِيئَت رَائِحَةُ إِبِطَيْهَا فَجْأَةً بِمِصْبَاحِ الشَّارِعِ فِي مَيْدَانِ الْمَدِينَة
لَحْظَةَ أَن كَانَت يَدُ الْمَوْتِ تَخْتَبِئُ خَلْفَ هَذَا الْمِصْبَاحِ بِالذَّات.
****************
لاَ يَهُمُّ كَم يَكُونُ الْمَرْءُ وَحِيدًا فِي خَوْفِهِ وَأَلَمِه،
مَعَ الطَّحَالِبِ وَزُجَاجِ النَّوَافِذِ، مَعَ ظِلاَلٍ مَجْهُولَةٍ عَلى السَّقْفِ الْوَاطِئ،
الخَطُّ الأَحْمَرُ لِنَارِكَ مِنْ الْفُرْجَة تَحْتَ الْبَاب
يُخْبِرُنَا مِنْ جَدِيدٍ عَن أَبْجَدِيَّة الْحَيَاةِ، التَّلاَحُمِ، وَالامْتِيَازِ، وَالْكِبْرِيَاء،
اللَّحْظَةِ الْجَمِيلَةِ عِنْدَمَا تُغَادِرُ الْمَنْزِلَ وَتَلْتَقِي بِشَجَرَة،
عِنْدَمَا تُصْبِحُ وَرَقَةَ شَجَرٍ وَسْطَ الأَوْرَاق، فِي نَفْسِ الأُغْنِيَة،
يَا أَنْتَ الَّذِي تَنْبَثِقُ مِنَ التَّمَاثِيلِ وَأَشْجَارِ السِّرْوِ الطَّوِيلَة.
*****************
فِي الْحَقْلِ الْمُقْفِرِ نُحْرِقُ ظِلاَلَنَا فِي اللَّيْل.
تَوَهَّجَت النَّار. وَسْطَ اللَّهِيب
انْتَصَبَ عُكَّازٌ ضَخْمٌ نَحْوَ السَّمَاء
مِثْلَ نَجْمَةِ الدَّيْنُونَة.
أَسْفَلَ ذَلِكَ السُّلَّم
هَبَطَ الْمَلاَكُ الْمُحْتَرِقُ، مُحْتَضِنًا جَنَاحَيْهِ إِلَى قَلْبِهِ كَفَتَاتَيْن مَيِّتَتَيْن.
******************
سُئِلُوا عَن رَغْبَتِهِم الأَخِيرَة.
«حَقَائِبُ وَرَقِيَّة»، قَالُوا. جِيءَ لَهُم بِهَا.
نَفَخُوهَا، اسْتَدَارُوا،
فَجَّرُوهَا عَلَى الْجِدَارِ، وَسَقَطُوا.
*****************
مُنْذُ أَن عَرِفَ أَنَّهُم يُرَاقِبُونَه مِنَ النَّافِذَة،
كَيْفَ يُمْكِنُ لَه أَن يَتَحَرَّكَ بِبَسَاطَةٍ، بِجَمَال؟
أُرِيدُ مَعْرِفَةَ مِيكَانِيكِيَّةِ هَذِهِ الْبَسَاطَة.
أُغْلِقُ الْمَصَارِيعَ، أَنْظُرُ إِلَى نَفْسِي فِي الْمِرْآة.
يُحْبِطُنِي ثُقْبٌ فِي جَبِينِي.
                                   ترجمة رفعت سلام

*ضياء
6 - مارس - 2010
الفلسفة وعلم الأحياء     كن أول من يقيّم
 
تجهد علوم الجهاز العصبي في عصرنا الحالي ، كما قلنا سابقاً ، في تفسير العلاقة القائمة بين الدماغ والتفكير . هو مشروع هائل ينضوي تحت سقف نظرية النشوء والارتقاء ( نظرية داروين في تطور النوع ) ولا يقل هدفه طموحاً عن رغبة القدماء في العثور على حجر الفلاسفة أو إكسير الحياة الذي نشأت بسببه علوم الكيمياء التطبيقية كلها، وهو علم شاسع جليل الفائدة قدم ولا يزال يقدم خدمات عظيمة للإنسانية . فبقدر ما تبدو العلاقة واضحة وبديهية بين الفكر والدماغ بقدر ما سيتبين لنا بأنه من الصعب إخضاعها لمفهومي الزمان والمكان التي هي من مسلمات أي علم وضعي .
 
أين يفكر الإنسان ( اكتشاف مراكز القدرات في الدماغ )؟ ومنذ متى يفكر ( أي في أي مرحلة من مراحل تطوره بدأ يفكر ) ؟ ذلك هو السؤال الذي يطرحه علم الأحياء العصبي .
 
أما الفلسفة فهي تسأل عن وجهة هذا التفكير ( الذي هو من ضرورات حفظ النوع بحسب نظرية التطور )  وهو سؤال الكينونة : الغاية من وجود الإنسان في " العالم "  بالمعنى الميتافيزيقي الديني الثقافي والأخلاقي .
 
ولتوضيح هذا التناقض الصريح والمعلن بين وجهتي النظر سأعرض في فقرات لاحقة تلخيصاً لكتاب هو عبارة عن نقاش أو مواجهة تم تسجيلها على نحو مكتوب للمحاورة التي جرت وجهاً لوجه بين عالم في مجال الدراسات العصبية هو جان ـ بول شانجو ( Jean - Paul Changeux) والفيلسوف الفرنسي المعاصر ( Paul Ricoeur ) والكتاب يحمل اسم :
 " الدافع للتفكير : الطبيعة والقانون  " ( Ce qui nous fait penser . La nature et la règle )
éditions Odile Jacob , Paris 1998
 
إنما يبدو لي من الملائم أن نبدأ بالتعرف أولاً إلى وجهة نظر علم البيولوجيا العصبية ، ولو بالحد الأدنى الممكن الذي يتناسب وإمكانياتنا المتواضعة في هذا المجال ، وذلك للتمكن من متابعة النقاش لاحقاً .
 
 
*ضياء
9 - مارس - 2010
مرحباً وأهلاً    كن أول من يقيّم
 
الحمد لله على السلامة أستاذة ضياء، أرجو أن تكوني بخير وصحة وعافية.. والأهل جميعاً.
*أحمد عزو
12 - مارس - 2010
لفتة كريمة من أخ كريم    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
عافاك الله وسلمك يا أستاذ أحمد ، أو يا أحمد بك كما يطيب لي أن أسميك في هذه اللحظة ، وأنا أشكر لك لطفك ودماثتك وسؤالك عنا. أتيت لأتفقد المكان فوجدت تعليقاتك الجميلة وسررت بها . سلامي لك وللأولاد ، كذلك للوالدة الكريمة  ولصفاء ، وتصبحون على خير جميعاً . 
 
 
*ضياء
12 - مارس - 2010
عن طبيعة الطرح واتجاهه حتى نسير في نفس المستر من النقاش والتبادل    كن أول من يقيّم
 
المحترمة المبدعة الأستاذة ضياء: أثارني الموضوع بعمقه والآفاق الرحبة التي يطرحها لمناقسة ولتبادل تنسيقات التصورات الفلسفية الأكثر انتشارا في هذا الباب أو لطرح، لم لا، تصورات شخصية مفكر فيها في نفس السياق، لكنني والحق يقال لم أستطع فهم الإشكال المعرفي الذي يطرحه الموضوع بوضوح، لذا أطلب من الأستاذة الكريمة التفضل بتحديد السياق الفلسفي لطرح مسألة الكينونة و"لعبة الحياة والموت كما أسميتها، مع خالص المودة والتقدير
*إدريس
15 - مارس - 2010
سؤال المسافة بين الفطرة والثقافة    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
كل الشكر والتحية للأديب الفاضل الأستاذ إدريس القري :
 
إن كل سؤال فلسفي هو لا بد تعبير عن أزمة وجودية بالعلاقة مع المعرفة بمصادرها وأدواتها . أظن بأننا نعيش حالياً حالة اغتراب ثقافي ووجداني حولتنا إلى دمى مسلوبة الإرادة تتحكم بها خيوط غير مرئية . والخيوط الغير مرئية كثيرة سأذكر منها الأن واحداً ليس أوحداً : المعرفة التي ورثناها مثلاً من الماضي تعبر عن وعي أجدادنا بواقعهم وشروط حياتهم وهي تجربة أكيدة لا تقدر بثمن على المستوى الإنساني لو عرفنا كيف ننزع عنها بعدها الأسطوري . وأما المعرفة التي نتلقاها اليوم ويتم أنتاجها في الغرب فهي تعبر عن وعي الغرب بنفسه وبمركزيته التي كرسها عبر قرون طويلة والتي أنتجت وتنتج ثقافة تشبهه ولا مكان لنا فيها على المدى المنظور ، مع هذا هي ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها . نحن نمتلك إذن : من جهة وعياً أسطورياً بالماضي أي أننا نرتبط به بعلاقة عاطفية فيها نوع من التماهي الوجداني غيبنا عنها العقل ( مع أن هذه المعرفة موجودة في الذاكرة والذاكرة من أهم وظائف العقل ) ، ووعياً اغترابياً بالحاضر الذي لم نعد ننتجه ولا نمتلك من أدوات التعامل معه إلا حدها الأدنى . تتعايش هاتان المعرفتان القاصرتان في ذواتنا على مستوى الإدراك ويتسبب لنا هذا المزيج المتنافر بالإعاقة المعرفية والسلوكية التي تمنعنا من التفكير السليم وتوجيه حياتنا بطريقة منطقية واعية .
 
نحن بحاجة لفهم ذواتنا وآلية تفكيرنا . فالعقل الذي نمتلكه هو آلة هائلة القدرات ما فتأ الإنسان يستخدمها منذ أقدم العصور لحماية وجوده وهي لم تكشف لنا عن كل أسرارها بعد . نحن بحاجة لإعادة تشريح آلتنا الخاصة بنا لكي نتمكن من استخدامها بطريقة مفيدة وناجعة ، ولن يكون ذلك الأمر ممكناً إلا عبر معاينة  التجارب التي مرَّ بها العقل الإنساني خلال بحثه الطويل عن طبيعة وجوده . 
 
إنه سؤال الثقافة وأدواتها ومدى ارتباطها بضرورات الواقع ، وطبيعة الإنسان ، ومدى قربها أو بعدها عن الحقيقة التي نطمح للوصول إليها .
أرجو أن اكون قد تمكنت من تقديم إضافة جديدة لتوضيح الفكرة وأتمنى أن تشاركوني بتقديم وجهات نظركم وكل الشكر والتحية لك مجدداً .
 
 
*ضياء
15 - مارس - 2010
ما هي الثقافة ؟ ( 1 )    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
 

الثقافة بالعربية من ثقف . وثقف الشيء تعني حذقه ، احتواه . الثقاف هو ما تسّوى به الرمح وتثقيفها يعني تسويتها ، وكان العرب يستخدمون عبارة " غلام ثقف " للتدليل على نباهته وسرعة بديهته .
الجذر اللاتيني لكلمة ثقافة ، الذي تبنته أكثر اللغات الأوروبية ،هو كلمة " Cultura » والفعل منها " Cultio «  يفيد معنى العناية بالشيء وتهذيبه ورعايته ، ثم أصبحت هذه الكلمة مرادفة لكلمة زراعة التي تستدعى العناية  والرعاية والتشذيب بقصد النماء ثم تعدتها إلى معنى التبجيل الطقسي والعبادة الدينية .

الثقافي والفطري :

عندما وجد الإنسان نفسه عارياً في الطبيعة لأول مرة ، ولم يكن له من وجوده سوى ذلك الجسد الثقيل بغريزته وطاقاته وفطرته الأولى كان عليه أن يتدبر أمره : أن يبحث عن قوته ، أن يحمي جسده ويعتني به ، وأن يتابع مراحل نمو ذلك الجسد وتغيراته وحاجاته منذ الولادة وحتى الموت . لم يكتف الإنسان بالفطرة والغريزة لفهم ومرافقة تطورات حياته في نموها وتبدلها بل أخذ يضيف إليها مما استنبطه بذكائه، فكان المسكن والملبس والطعام والعناية بالبدن وطرق تدبير الولادة والدفن والصيد والحرب … ثم عمد إلى تخزين هذه المعارف وحفظها في الذاكرة عن طريق المشاركة والتعلم والطقوس والحكايات والأساطير . هذه الإضافة التي نشأت بفعل الحاجة ، وتمحورت حولها ، هي معطى وجودي آخر ضروري مواز ومرافق لوجود الإنسان في البيئة والزمن ووسط غيره من أفراد المجموعة التي ينتمي إليها . بردنا الثقافة إلى عناصرها الأولى التي استلزمت نشأتها يمكننا تعريفها على أنها : المعرفة الغير فطرية التي استنبطها الإنسان بعقله المفكرأو اكتسبها عن غيره تلبية لحاجات وجوده الاجتماعي .
الثقافي هو إذن ما ليس غريزياً أو طبيعياً في حياة البشر ، بل هو الوعاء الذي يحتوي الفطري ويرعاه ثم يترجمه عبر سلوك وأفكار وكلمات هي صور عن الحقيقي المعاش في الداخل أو صدى لحاجاته . يخرج الفطري والطبيعي عن صمته باللغة والثقافة التي تؤطره وتحكمه وتوجهه في وجهة معينة تكون غالباً مصلحة المجموعة كوحدة وجودية ، العائلة والعشيرة والقبيلة أو الحي والمدينة أو الزمرة والطائفة … ، والتي تسعى إلى توظيفه وتطويره في منحى جمالي ونفعي ما فتأ يتغير ويتنامى الوعي به يوماً بعد يوم ، وعلى مر العصور . تكون الثقافة ، بهذا المعنى ، مظهراً من مظاهر تكيف الإنسان الاجتماعي من أجل حفظ وجوده وتحسين شروط حياته على حساب طبيعته الأولى ، حريته وحقيقته الجوهرية وطاقته الحيوية الخفية الكامنة فيه ، التي هي أصل وجوده ، والتي يتم التنازل عنها ، بشكل جزئي أو كلي ، وتوظيفها في مشروع عام . نقصد بهذا أن الثقافة هي التسوية الضمنية والرابط القائم بين حاجات الإنسان الفردية اليومية والوجدانية الحميمة من جهة ، وحاجات الاجتماع الإنساني الذي تعبر عنه شبكة من العلاقات الاقتصادية والعائلية المتشابكة ، تديرها وتؤطرها النخبة الدينية والسياسية الحاكمة فيه . إنها شكل ووعاء لهذا الرابط الموجود بين الحاجات الخاصة والحاجات العامة والتوافق الضمني الحاصل بين الأفراد الذين يعيشون في مجتمع ما وأولي أمره .
الثقافة والهوية :
فإذا أضفنا إلى كون الثقافة عملية تطوير لبعض القدرات الفكرية الخاصة بالإنسان بواسطة التعلم والقراءة واكتساب المعارف وممارسة النشاطات الذهنية ، هذه المعارف التي تمكنه من اكتساب أنماط من السلوك الخاصة بالاجتماع والتي تحدد شخصيته وتدلل على بيئته ومنشئه ، يمكننا أن نفهم في عصرنا الحالي كلمة " ثقافة " على أنها أيضاً : مجموعة ما تنتجه حضارة ما من آثار فكرية ومادية تؤطر حياة الإنسان وتؤثر في سلوكه وتقوده في اتجاه محدد .
من الناحية السلوكية ، تعبر الثقافة إذن في منحاها الظاهر عن شكل العلاقات وقنوات التواصل ، المادية والمعرفية ، التي تربط بين أبناء المجتمع الواحد الذين تجمع فيما بينهم أصول مشتركة وضرورات ومصالح العيش المشترك ، سواء كان مصدرها تشريعات دينية أو عرفية أو قانونية وضعية أو تاريخية متوارثة، وتتعداها إلى كونها تشكل النسيج الحميم لهذا المجتمع الذي يلحم بين أجزائه لأنها تطال جميع مستويات الحياة ، الفردية والجماعية ، بدءاً من السلوك اليومي الخاص بالعادات والتقاليد والعبادات المتبعة في كل مجتمع وحتى مستويات الحياة الأكثر حميمية كالعلاقات داخل البيت وبين أفراد الأسرة والدائرة الخاصة بكل مجموعة من البشرفتجعل منها جميعاً بنياناً واحداً مشتركاً لأن هذا التشابه في المرجعية والسلوك هو الشكل الاجتماعي للهوية .
بهذا المعنى أيضاً تكون الثقافة ذاتاً فاعلة ومنفعلة في المحيط الذي تقيم فيه وتعبر عنه ، غايتها : المحافظة على هذه الروابط وتطويرها أو تعديلها أو تبديلها بما يخدم العلاقة المتوازنة بين الحاجات الشخصية الخاصة بكل فرد من أفراد الجماعة والنسيج العام للمجتمع المقنن لهذه العلاقة ، وبحيث يكون التأثر والتأثير متفاعلاً ومتبادلاً وهو ما تعبر عنه حركة المجتمع بكل مظاهرها . إن مظاهر العنف والتوتر الاجتماعي ما هي إلا دليل على وجود شرخ في البنية الثقافية ، وليس التفكك الاجتماعي وفقدان الشعور بالهوية سوى مظهر من مظاهر انفراط هذه العلاقة الضمنية بين النخبة الحاكمة وبقية أجزاء المجتمع ، أو بين المجموعات المكونة للمجتمع الواحد ، وانفصال عراها بسبب فقدان هذا الإطار السياسي الاقتصادي والاجتماعي الذي تعبر عنه الثقافة ، او فقدانه للشرعية المؤسسة لهذه العلاقة ، أو تحوله لمجرد شكل فارغ دون مضمون حقيقي .
.
*ضياء
16 - مارس - 2010
ما هي الثقافة ؟ ( 2 )    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
دور المكون العاطفي الوجداني :
يتوفر السياسي على مؤسسات ذات طابع استراتيجي تمكنه من إدارة اللعبة الثقافية على المدى الطويل إدراكاً منه لأهميتها ودورها ، فالمناخ الثقافي السائد في كل مجتمع ودولة يعكس بالضرورة طبيعة ومستوى العلاقات القائمة بين السلطة ونخبتها الاجتماعية التي تتولى أمور الثقافة . تتوفر معظم الحكومات في العالم على وزارات للثقافة وتعتمد في بناء سلطتها هذه على المدارس والمعاهد الدراسية والجامعات ومؤسسات الدراسات والأبحاث والمؤسسات الإعلامية من صحافة وإذاعة وتلفزيون وتتعداها إلى المعارض والجوائز والمهرجانات وإلى آخر ما هنالك من نشاطات ثقافية والتي لا تتم مباشرة بإشراف الحكومات في كل الأحيان إلا أنها غالباً ما تحظى بمباركتها ورعايتها . لا زال دور الثقافة هو الامتداد والشكل المتطور لدور شاعر القبيلة : الإشادة بالشرعي الذي هو الشكل المادي للقانون المتعارف عليه والذي يمثل السلطة السياسية الحاكمة ، وتأمين عناصر القوة التي تلحم بين أبناء المجتمع إلى جانب الدور الفني والجمالي والتعبير عن الوجداني والخاص والحميم . من هنا تأتي أهمية التوافق والانسجام بين هذه العناصر كافة وضرورة البحث الدائم عن الإطار الفكري والجمالي وتطويره بالشكل الذي يسمح بتعايش هذه العناصر مجتمعة
فالإنسان ليس مجرد كائن فيزيولوجي مادي تسيره غريزته ومكوناته الطبيعية الكامنة فيه والتي تتشابه لديه مع غيره من المجتمعات الحيوانية ، ولا يمكننا أن نفصل لدى الإنسان بين نشاطه ونتاجه المادي ، ونتاجه ونشاطه الذهني والعقلي . من الصعب كذلك أن نفصل ما بين الإنتاج الفكري والذهني من جهة ، والمكون العاطفي الوجداني في الذات المفكرة من جهة أخرى لأن الحالة الانفعالية كالإحساس بالجوع أو الخطر أو الحب أو الغضب كانت الدافع والمحرض الأول على التفكير ، وهي في غالب الأحيان موجهة للتفكير . هذه المجموعة المتكاملة من النشاطات الذهنية والمادية والعاطفية الانفعالية لمجموعة من الأفراد يعيشون حياة مشتركة في بيئة محددة ، تحرك وجدانهم فيها عاطفة مشتركة ، دينية عقائدية أو قومية عرقية ، هي جوهر الثقافة وهويتها الضمنية .

في رحلة التسويات المعرفية هذه التي رافقت حركة المجتمعات وتبدلاتها وصراعاتها فيما بينها وداخل المجتمع الواحد ، ما فتئت الثقافة تهدم أساطير لتشيد مكانها أساطير أخرى أكثر تكيفاً وملائمة للواقع الراهن . لكن هذه التسويات لا تحصل دائماً بطريقة واعية ومقصودة لأن الكثير من مما تفرزه الثقافة من منتجات أدبية وفكرية وفنية تحتوي على عناصر تم استجلابها بطريقة عفوية وتلقائية من خيال الفنان أو الشاعر أو الكاتب . إنها تجليات تعبر عن شخصيته وخياله وعن المؤثرات التي خضع لها من تربية وتجربة ذاتية . هذا التوغل نحو الداخلي والحميم الذي يتم بواسطة العمل والتعبير في الإطار الثقافي هو ما يتيح للشاعر أو الأديب أو الفنان ممارسة حريته الداخلية ، وإنشاء أسطورته الخاصة به من خلال الصياغة الواعية أو غير الواعية لتلك المشاعر والخلجات الحميمة التي يحاول فهمها وترجمتها وتحويلها إلى أصوات وكلمات ، أو إلى عمل فني تشكيلي من خلال لغة العصر وأدواته وتقنياته . مجموعة هذه التجارب هي الثقافة التي نتكلم عنها والتي يجب أن يكون منوطاً بها مهمة تكوين الفضاء المعرفي الذي تنضوي تحت سقفه رغبة العيش المشترك والتلاحم بين ما هو موجه للمصلحة العامة وما هو خاص وحميم ، بين مستوى الوعي العام السياسي والنفعي ، والذائقة الفنية والشعورية الخاصة بكل مجموعة ثقافية
 
 أزمة الثقافة العربية المعاصرة :
هذا التوازن بين العقل النفعي المنطقي والعقل العاطفي الغريزي هو من أهم محددات الثقافة كما تجلت وعرفناها في مراحل تاريخية تميزت بها الحضارات الكبرى التي تمكنت من خلال الثورات الفكرية والعقائدية والتشريعية ، وبفضل الأطر الدينية والثقافية التي شكلتها من تحرير طاقات الإنسان الفكرية والوجدانية الحية القابعة في عمقه التاريخي الخاص وتوظيفها في مشروع حضاري إنساني عام .هذا المعطى البديهي والحميم للثقافة هو الحلقة المفقودة في واقعنا الثقافي الراهن .
 
تعيش الأمة العربية منذ ما يزيد على ثلاثة قرون من الزمن حالة من المواجهة والحراك الدائم وعدم الاستقرار التي طرأت وتطرأ على بنيته مجتمعاتها السياسية والاجتماعية ، نتيجة للهجمة الإستعمارية عليها منذ حملة نابليون بونابرت الأولى وما حملته في جعبتها من العلوم و " الحداثة " التي وصلتنا محملة على مدافع الجيوش الغازية ومطامعها، إلى الحروب والصراعات الداخلية والخارجية الدائرة على أرضها منذ ذلك الحين والتي أدخلت تعديلات جوهرية في الخارطة السياسية وفي بينة المجتمعات وشكل المؤسسات الحاكمة فيها
في هذا المخاض العسير الذي اتخذ ولا يزال يتخذ شكلاً عنيفاً من المقاومة والممانعة على التغيير رغم ما عرفته هذه المجتمعات من محاولات جدية للخروج من أزمتها في عصر النهضة ، ومروراً بمرحلة التحرر من الاستعمار التي تمت بمساعدة منظومة الدول الاشتراكية والتي أجهضت مكتسبات النهضة الأولى ، وحتى الفصل الأخير من هجمات " الحداثة المعولمة الذي تكلل بالحرب الأميركية الأخيرة على العراق والتي أعادتنا إلى خانة الصفر ورغم التضحيات الهائلة التي قدمتها الأمة ولا تزال عبر قوافل لم تنته بعد من الشهداء والأجيال المتعاقبة من الأدباء والعلماء والمثقفين والمناضلين وبسطاء الناس من الغيورين والحريصين على عدم قبول هذه المجتمعات للذل والاستكانة والأوضاع المزرية التي آلت إليها ، وعن رفض هذه المجتمعات ربط مصيرها بأنظمة خارجية غريبة عن ثقافتها ومكوناتها التاريخية ، إلا أنها تبدو اليوم عاجزة ، وأكثر من أي وقت مضى ، على مواجهة التحديات التي يفرضها عليها الواقع الذي يربض فوقها بكل ثقله ، محملاً بالقواعد العسكرية الأجنبية ، والاتفاقيات المذلة ،والمسيطر اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً ، محملاً فوق هذا كله  بترسانة من العلوم والأفكار التي بنى عليها حضارته وقوته وتفوقه التكنولوجي .
 
الخروج من هذا الأزمة لن يكون بتمرير الحلول الجاهزة سلفاً والمعدة لاستيعاب ما لم يعد بالإمكان استيعابه ، بل بإعادة قراءة نقدية جدية للتجارب السابقة في محاولة مواجهة حقيقية مع الذات لإعادة وصل ما انفصل بطريقة واعية وصادقة وجريئة ، تحترم خصوصية المكون العاطفي والوجداني لهذه المجتمعات التي ما زالت تستعصي على التغيير وتتمسك بولائها التاريخي الضمني الذي يوحد بين سلوكها وقناعاتها الدينية والقومية .
 
 
*ضياء
16 - مارس - 2010
 1  2  3