يحلو لبعض المثقفين في عصر العولمة أن يجردوا العربية من أي فضيلة أو مكرمة، وأن يلصقوا بها كل نقيصة أو مذمة، غافلين أو متغافلين عما تتمتع به العربية من مزايا وخصائص، وناسين أو متناسين أنها كانت لغة العلم والحضارة، لا يكاد فن من فنونه يكتب إلا بها، ولا يتعلم إلا بواسطتها، ولا ينشر إلا تحت لوائها. ويقيني أن أمثال هؤلاء إنما أُتي إما من انبهار بما حققته الإنجليزية من تقدم وانتشار وقدرة على التعبير عن العلوم والفنون والشؤون الحضارية. وإما من إحباط بما تردَّتْ إليه العربية بل أصحابها من تأخر وانحسار وعجز عن التعبير عن متطلبات الحضارة الحديثة في العلم والفن وما إليهما. وبادئَ بَدْءٍ أقول لهؤلاء وأمثالهم: فــيا قـــائـــلا هـــــذا بــدون تـحـقّـــــقٍ ** كأنـك لا تـدري ولا أنت تعـلـمُ فإن كنتَ لاتدري فتلك مصيبة ** وإن كنتَ تدري فالمصيبة أعظمُ إي و ربي إنها لمصيبة حقاً ألا يعلم هؤلاء أن العربية من اللغات القلائل الثابتة الأصول المتينة البنيان الممتدة العمر ، يفهم الآخر فيها ما كتب الأول, و تمخر نصوصها عبر العصور والقرون ، ويتواصل أبناؤها عبر الزمان والمكان ، فما كتبه امرؤ القيس ، والنابغة، وعنترة في أقدم عصورها ، حاضر ماثل اليوم يتغنى به الشعراء والكتاب ، بل يتعلمه التلاميذ والطلاب ، ويسير في الناس مسير الأمثال . على حين لا يفهم الإنجليزي اليوم ما كتبه شكسبير وأمثاله قبل بضع مئات من السنين ! فأين من أين ؟ بل أين من لا أين ؟. وإنها لمصيبة حقاً أن يتعامى هؤلاء عن أن هذه العربية حملت لواء العلم زهاء عشَرة قرون بعد أن جبيت إليها ثمار العلوم والفنون من كل لغات الدنيا في حركة للترجمة والتعريب لم يعرف لها التاريخ مثيلاً ، حتى لقد بلغت مكافأة ترجمة الكتاب وزنه ذهباً ، ووزن الكتاب ما هو آنذاك ! ثم ماذا ؟! لقد وعت العربية تلك العلوم ، وتمثلت تلك الفنون ، وقدمت للبشرية جمعاء خير حضارة أخرجت للناس بلسان عربي مبين . يقول د. حسين نصار: " إن أكبر تحدٍّ واجهته العربية كان عندما أخرجها الإسلام من جاهلية غنية كل الغنى في الإبداع الأدبي فقيرة كل الفقر إلى حد الإملاق في الإنتاج العلمي, ثم ألقى بها في القرنين الثاني والثالث الهجريين في بحر زاخر من الحضارات والعلوم والفلسفات والفنون وكل صنوف المعرفة التي ابتكرتها الأمم المتاخمة للجزيرة العربية كالفرس والروم والسريان والمصريين,والأمم البعيدة عنها كالهنود والصينيين والأتراك والبربر وشعوب أسبانية. ولكن العربية صمدت لهذا التحدي بفضل ما بثه الإسلام في العرب من رغبة في المعرفة وسعي في طلبها وطموح وعزم وتخطيط وتنفيذ وتعاون مع غير العرب من أبناء الشعوب العارفة باللغات الأجنبية واللغة العربية فلم يمض إلا وقت غير طويل حتى نقلت العربية كل ما وجدت عند هذه الأمم إليها, فاستطاع أبناؤها بعدُ أن يتمثلوها فهماً, ولم يمض كبير وقت حتى شاركوا في الإنتاج والابتكار. فصار ما كتبه هؤلاء المفكرون والعلماء منذ القرن الثالث نبراسا استضاءت به شعوب العالم القديم. لا يستطيع أن ينكر ذلك إلا منكر لعقله, منكر لشمس النهار الصحو, منكر لتاريخ الإنسان وتطوره الحضاري.".(1) وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل و هكذا انعتقت العربية من إسارها ، و انطلق المارد من القمقم لتشهد هذه اللغة حركة من الترجمة ما شهدتها لغة ، فقد ا نطلق أهلوها يجوبون البلاد ، و يتخيرون منها ما ألّفه الأوائل في علومهم المختلفة بشتى لغات المعمورة الفارسية و الهندية و اليونانية والرومانية و النبطية... و غيرها لتنقل إلى العربية ، فإذا بالعربية تستوعب كل علوم الأوائل على اختلاف لغاتهم ، حتى لقد وسم ذلك العصر بسمة هذه الحركة من الترجمة فسمي عصر الترجمة الذهبي ، وأقيمت للترجمة مؤسسات وبيوتات اشتهر منها بيت الحكمة، و تجاوزت معرفتهم باللغات حدود اللغات السائدة إلى اللغات البائدة ، التي لم يبق منها إلا حروفها و باتت أبجديتها تستعمل في تعمية بعض العلوم المضنون بها على غير أهلها ، ومن هنا أن نشأ علم التعمية و استخراج المعمى ( الشفرة و كسر الشفرة) الذي أخرجنا فيه سفرين اثنين في هذا المجمع المبارك ، ومن هنا أيضاً أن ألفت كتب مفردة كشفت اللثام عن أبجديات اللغات القديمة و أقلام الأقوام المندثرة ككتاب شوق المستها م في معرفة رموز الأقلام لابن وحشية النبطي الذي نعمل على إخراجه ليكون الجزء الثالث من موسوعة علم التعمية و استخرج المعمى عند العرب . إن شاء المولى سبحانه.
|