| تعليقات | الكاتب | تاريخ النشر | | قمر فى السماء كن أول من يقيّم
منذ ان رحلت أختي "قمـر" و اختفت تلك البسمة التي كانت تلاقيني بوهن في أواخر الليل و أنا عائد من سهرة مع الشباب أو إجتماع مع الرفاق. وفقد النهار خصلات ذهبية من شمسه و امتلأ الليل بضياء القمرين ...
أهو الوهمٌ نعيشه أم الكذب نزعمه فننحى الموت عن تفكيرنا ونطرحه جانباً، نرهبه ونخشاه ونكرهه . ألسنا نحن عابرون ، مجرد أعداد عابرة في هذه الحياة..؟؟
غرورنا يُزيّن لنا عبورنا المؤقت على أنه إقامة . ذهولنا أمام الموت يجعله خلودا.
كما أن الإنسان يُمعن فى مراوغة الموت ناشداً إقصاءه ، نرى الموت بدوره يُمعن فى الظهور والتجلى .
ها هو الموت يستيقظ فى داخلى كنشيد نسيته منذ زمن . بل إن هذا النشيد الصاعد من أعماق النسيان ،هو الآن يخترقنى وينساب عبر صحراء روحى ويغمرنى بنور فياض.
و أرى ابتسامة أختي ، قمـر يتثاءب في دمعة الصباح
| *عبدالرؤوف النويهى | 20 - يناير - 2010 | | نحن والموت كن أول من يقيّم
من الأمورالجادة التى تنال اهتماماً واضحاً ودراسات متعمقة ، مسألة الموت ،هذا المترصد والمرصود للجنس البشرى والنهاية المحتومة التي يأخذنا إليها مهما طال العمر و امتد الأجل ، تبقى شغل الإنسان الشاغل .
لقد قرأت أبحاثاً ودراسات وأشعاراً وقصصاً وملاحم وروايات عن نهاية البشرية يضيق المكان عن سردها ، وآخر دراسة متفردة تتكلم عن الموت ، وجدته في سفر ضخم ، أصدره المجلس الأعلى للثقافة بمصر ، بترجمة جيدة جداً للأديب الكبير / بدر الديب بعنوان :الموت والوجود.جيمس .ب.كارس،الكتاب رقم 29المشروع القومى للترجمة ، مصر .
كما سبق لى قراءة دراسة ممتازة (الموت فى الفكر الغربى) تأليف /جاك شورون و ترجمة /كامل يوسف حسين ،مراجعة وتقديم د/إمام عبدالفتاح إمام ، الكتاب رقم 76،إبريل 1984م ، عالم المعرفة ،الكويت . قلق الموت ،تأليف د/أحمد محمد عبدالخالق ،عالم المعرفة ،الكويت ،رقم 111 .مارس 1987م.
أصبح هاجس قلق الموت من خلال الدراسات الميدانية و البحوث الإمبيريقية محط اهتمام الباحثين العرب.
وبما أن الموت كان و لا يزال و سيبقى مصدراً مثيراً للبحث فى شتى مجالات العلوم المختلفة ، نرى أن علم دراسة الموت والاحتضار فى العقود الأخيرة ، أصبح مقرراً فى الجامعات المختلفة .
وإذا كان الموت من القضايا التى تَوَقَف حيالها الإنسان مفكراً ومندهشاً ومكتوف الأيدى لا يملك سوى الصمت الأبدى والدهشة المستمرة والحيرة الطويلة والتساؤل المرير ، نراه لا يفقد محاولة مقاومة الفناء بالإبداع الحضارى عبر العصور المختلفة .
المعابد الشامخة والملاحم الخالدة والأشعار والقصص والدراسات التى ما زلنا ننهل منها حتى الآن ، كلها تُجسد مدى تأثير فكرة الموت على الإنسان في حياته اليومية .
كتاب الموتى من التراث المصرى القديم يكون من أرق وأعمق ماكتب عن الموت والإستعداد له .
عبر التاريخ الإنسانى الضارب الجذور فى القدم والذى يكتنفه الغموض، تبدو الومضات المتلألئة للإبداع الإنسانى ، الإلياذة والإوديسا لهوميروس ،وتناسخ الكائنات لإوفيد ،والإينيادة لفرجيل ،ورسالة الغفران للمعرى ، والكوميديا الإلهية لدانتى ،والفردوس المفقود لملتون . هذه الشوامخ الإبداعية، تراث الإنسانية العريق. كنت أتساءل دوماً ومنذ نعومة أظافرى ومصاحبتى لوالدى رحمة الله عليه وحضورى معه جنازات الأهل والأصدقاء وهذا الصمت الطويل الذى يعقد الألسنة ألا تتكلم ،وهذا السكون العميق الذى يملأ المقابر ،وهذا الجلال المقدس الذى يحيط بالموت. كنت أهمس لنفسى آنذاك وأنا ألتفت لأرى المشيعيين والواقفين بخشوع حول المقابر حتى يتوارى الجثمان فى جوف المقبرة . هل هذا الصمت هو تواصل مع الميت الذى واره التراب؟ هل هو تضامن معه ومشاركة إياه فى لحده الأبدى ؟ هل هو الخوف من النهايةالمرتقبة ؟
| *عبدالرؤوف النويهى | 20 - يناير - 2010 | | رحلتى مع فلاح بوهيميا كن أول من يقيّم
كنت صغيراً لكن السؤال لم يمت بداخلى رغم مرور الأيام وتوالى الأعوام.كنت مشغولاً بالموت ومهموماً به،لكن القرآن الكريم ملاذى الآمن ومستقرى الأمين ، أعود إليه مرتلاً وحافظاً ومجوداً ، يقينى الذى لايتزعزع وإيمانى بحياة أخرى بعد الممات.
و من هنا بدأت رحلتي مع فلاح بوهيميا و حواره مع الموت ، وكنت معه فلاحا مصرياً من طنطا أستكنه مايدور فى نفسه وما يعتمل بفكره و قلت لنفسى الموت علينا حق ومن التراب إلى التراب نعود ولمن الملك اليوم ؟؟ لله الواحد القهار ... وبصراحة وجدت فى هذا الحوار قضية من أروع وأعظم الأقضية التى تُطرح فى ساحة القضاء .
فالقضية أى قضية لابد من وجود متهم ومجنى عليه ومواد العقاب ، و من ثم فلابد من تقديم صحيفة الإتهام ثم الدفاع من المتهم والمجنى عليه وتقديم المستندات الدالة على صدق الإتهام من المجنى عليه وتقديم المتهم للمستندات التى تنفى صحة ماتم تقديمه والرد عليها ثم حجز القضية لإصدار الحكم .
و لعل دراسة القانون والتعامل مع مشاكل الناس وهمومهم لا تفتأ تُلقى بظلها الرمادى على حياتى، فأجد زوجتى وأولادى وأهلى يحاولون الإختصار فى الكلام عن مطالبهم وشكواهم ، لأن رحابة الصدر واتساع الأفق لم يعودا جاهزين لسماع الحديث الممل وبلا طائل ، و هذا ما جعل من المحكمة الدائرة بين فلاح بوهيميا و بين الموت متنفساً يشغلني عن القضايا اليومية في مكتب العمل .
| *عبدالرؤوف النويهى | 20 - يناير - 2010 | | غمغمات الحروف المنكسرة كن أول من يقيّم
فلاح بوهيميا ،هذا الذى أطار صوابه موت حبيبته وزوجته وأفقده الصبر وأضاع الحكمة وزعزع يقين روحه وألهج لسانه بالشكوى المرة من الموت وشن حرب شعواء ، لم يسكت كما سكت الملايين من البشر ، لم يصمت ويتشح بسواد الكلمات وهمهمات النفس الملتاعة والحزينة وغمغمات الحروف المنكسرة وانكسارالروح ، وإنما أقام محاكمة هى الأولى من نوعها فى التاريخ الإنسانى ليترافع فيها ضد الموت وقدم أسانيد الإدانة ونصوص الإتهام والجريمة الشنعاء لما اقترفه الموت فى حقه بأخذ رفيقته وحبيبته من الحياة ، ثم دفاع الموت عن نفسه لما أقدم عليه ........... إنها محاكمة غير مسبوقة فى تاريخ الإنسان.
عبر إثنين وثلاثين حديث (مرافعة ) يتداولها فلاح بوهيميا والموت، إتهاماً ودفاعاً ، يأتى وفى الختام ،الحكم القاطع والجازم من الله عز وجل . ثم لايجد فلاح بوهيميا سوى الصلاة والدعاء على روح زوجته بأعظم الكلمات وأعمق المشاعر ولهاث الحزن الفوار الساكن بروحه .
هذا الحوار الدائر بين أكرمان والموت ،من الأعمال التى أخذت بأنفاسى وشدتنى إليه شداً ،أقرأه كلما إدلمهت بروحى الكأبة ،وتصاعد الحزن بقلبى و فُجعت بموت صديق أوقريب ،ألعن الموت وأسبه وأرفع فى وجهه السيوف والرماح ،وعندما أصل إلى الختام أسكت وتشملنى رعدة تهز أطرافى ،وتتملك كلماتى السكينة ،وتطل من رأسى كلمات الغفران وأهتف صارخاً معنفاً هواجسى :إيه يانفسى ورحمة بى ياروحى .....الأجل قريب والموت بالمرصاد .
وأتذكر محمد إقبال وهو يقول :أنا لا أخشى الموت ،أنا مسلم ،ومن شأن المسلم أن يستقبل الموت مبتسماً.
| *عبدالرؤوف النويهى | 20 - يناير - 2010 | | فلاح بوهيميا والموت كن أول من يقيّم
الفصـل الأول فلاح بوهيميا حوار مع الموت وعزاء عنه كتب هذا الحوار الأدبى الرصين يوحانيس فون تيل ،المولود سنة 1378م ومات فى سنة 1413م وترجمه من الألمانية الوسيطة وقدم له الدكتور /كمال رضوان ،ونشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1984م .
وتبدأ المعركة بين أكرمان والموت:-
1- أكرمان (الشاكى) :
أيها القاتل الفاجر, حاصد الأرواح,هادم اللذات, مفرق الجماعات, مشتت الكائنات, مغتال المخلوقات-أنت أيها الموت,عليك اللعنة.. فليمقتك الله- خالقى وخالقك – ولتنزل عليك النقمة, وتصيبك التعاسة والغمة, وفضح أمرك الى الأبد.. فليلازمك الخوف والعوز والبؤس والنحيب حيثما سرت, وليرافقك الألم والغم والهم أينما حللت, وليطاردك فى كل مكان العداء الجارح والاحتقار الفاضح والكره الصارخ. فلتبغضك بل وتصب عليك اللعنات الى أبد الآبدين كل من السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم, والبحار والمحيطات, والجبال والحقول, والوديان والمروج والسهول, بل وهاوية الجحيم, وكل ماهو كائن يتمتع بالحياة. فلتغرق فى الخبث والشرور , وليقض عليك البؤس المؤلم, ولتبق دائما منبوذا طريدا, دون غفران لك من الله أو عفو من الناس والمخلوقات أجمعين....أيها الشرير الحقير, دامت عليك أفكارك السيئة, ولازمك الخوف والفزع حيثما توجهت وأينما حللت ..... أشكوك أنا وكل الآنام صائحين مولولين, رافعين أيدينا متضرعين.
2- الموت(المشتكى عليه ) :
اسمعوا, اسمعوا, فلتسمعوا العجب العجاب..
شكاوى ثائرة ضدنا وأصوات ظالمة تطعن فينا , ولسنا ندرى شرفا من هو الشاكى, حقا لم ينل منا للآن أى تهديد أو وعيد, لعنات أو صيحات واستغاثات, ومختلف أنواع التهجمات ومع ذلك: فمن أنت يابنى؟ قدم نفسك, وأعلن عما ارتكبناه فى حقك أو فجعناك فيه, وما من أجلة تعاملنا معاملة لاتليق بنا ولم نألفها من أحد للآن, مع أننا حصدنا فعلا أرواح الكثيرين, من متعلمين ونبلاء, ووجهاء وأقوياء, مما سبب الكوارث الجمة للأرامل واليتامى وللناس وممتلكاتهم. يبدو أنك جاد فى شكواك, وكأن ضيقا يكتم أنفاسك , أو مصيبة قد حلت بك. شكواك تخلو من القافية والمحسنات, مما يدعونا للأخذ بأنك مهتم بالمعنى أكثر من المبنى, وتركز على مضمون الشكوى, دون أن تأبه بالقوافى ورنين الألفاظ. فاذا كنت فاقدا لوعيك, أو على بصرك غشاوة, أو أصابك مس أفقدك الصواب,فعلى رسلك ولاتتسرع وتقسو فى السباب, وذلك حتى لاتعض على أصابعك ندما بعد فوات الأوان... لاتظن أنك قد تستطيع بأى حال أن تنال من جبروتنا الرائع أو تضعف من سلطاننا الواسع.. _ ومع ذلك فأعلن عن نفسك, ولاتكتم أمر ما أصابك منا من ظلم صارخ, وسوف نسوق أمامك مبرراتنا, فالتبرير هو أسلوبنا. أننا لاندرى حقا سبب دعواك الجريئة ضدنا.
| *عبدالرؤوف النويهى | 20 - يناير - 2010 | | اسمى أكرمان كن أول من يقيّم 3- أكرمان :
اسمى أكرمان, محراثى من لباس (ريش) الطير, أقيم فى اقليم بوهيميا, وسوف أظل الى الأبد أكرهك وأمقتك وأحتج عليك, حيث انك انتزعت منى الحرف الثانى عشر من حروف الأبجدية , وكان ملاذ سعادتى. لقد اقتطفت من بستان نعيمى الوردة المضيئة الفياحة, واقتلعتها من أعماق فؤادى, لقد سلبتنى بدهائك سند سعادتى, وحمامتى الوديعة المختارة. لقد ارتكبت فى حقى جريمة سلب لاتعوض. وعليك أن تزن الأمر بنفسك, لترى هل أنا على حق فى أن أغضب منك وأثور عليك وأتقدم بشكواى ضدك: فجعتنى وسلبت منى حياتى السعيدة, حرمت على يديك من جميل الأيام, وضاع منى مصدر السعادة والالهام. كنت قبل ذلك فرحا مسرورا, تمر بى الليالى والأيام قصيرة ممتعة مليئة بالسعادة والوئام, وتتوالى على الأعوام وكلها خير وبركة وسلام أما الآن فأسمع صوتا ينادينى قائلا: فلتمت كمدا.... داوم على أفكارك الحزينة, وابق على عودك السقيم,كئيبا ذابلا تنتحب بلا هوادة أو توقف.._ وهكذا تذرونى الرياح, وأعوم وسط فيضان البحر العارم, تتقاذفنى الأمواج الهائجة, فلا أجد لمرساتى برا.. لكل هذا أود أن أصرخ بكل قواى وأصيح قائلا: أيها الموت, عليك اللعنة!.
4- الموت :
اننا ندهش لمثل هذا التهجم الغاشم الذى لم يسبق أن تعرضنا له قط. وبما أنك فلاح من بوهيميا, فانه يبدو لنا أنك تتجنى علينا تجنيا صارخا, ذلك لأننا لم نمارس مهامنا هناك منذ وقت طويل, باستثناء ماحدث منذ قريب فى مدينة جميلة حصينة, تقع فوق جبل, ويتكون اسمها من الحروف رقم18-1-3-و23من حروف الأبجدية. وهناك شملنا برحمتنا امرأة شريفة عفيفة(أى قبضنا روحها).وكان اسمها يبدأ فعلا بالحرف الثانى عشر( وهو الميم).لقد كانت حقا نشيطة طاهرة,خالية من كل عيب أو دنس: فقد رأيناها يوم ولادتها, حيث وهبتها آلهة الشرف معطفا وتاج شرف. وقد حافظت طوال حياتها على المعطف والتاج, الى أن وافتها المنية, فأخذت تلك الهدية معها الى القبر كاملة غير منقوصة. شاهدنا وشاهدها على ذلك هو العليم الخبير. لقد كانت نقية السريرة, حية الضمير, ماهرة حاذقة, مخلصة صادقة, كريمة بارة بكل الناس. ندر فعلا أن وقعت أيدينا على واحدة فى مثل وداعتها واستقامتها. وربما كانت هى تلك التى تعنيها, فنحن لانعرف سواها.
| *عبدالرؤوف النويهى | 20 - يناير - 2010 | | هى حبيبتى كن أول من يقيّم 5- أكرمان :
أجل ياسيد, أنها هى حبيبتى وأنا معبودها وحاميها. لقد انتزعتها منى وهى جفون عينى الفياضة بالسعادة, ماتت وهى درع الأمان لى من كل مكروه, ضاعت منى عصاى السحرية التى كانت تحقق لى كل أمنية, ذهبت وولت, وها أنذا أقف وحيدا. اختفى نجمى الساطع من كبد السماء, غابت شمس سلامتى ولن تشرق ثانية أبدا, لن يسطع لى نجم الصباح المتألق, لقد أفل وغاب ضياؤه, ولم أعد أملك مايفرج كربتى, وأظلمت الدنيا أمام عينى وصارت ليلا حالكا. اننى لاأعتقد أن ثمة شيئا من بعدها يمكن أن يدخل البهجة والسرور على نفسى, ذلك لأن الراية المرفرفة على نعيمى وسعادتى قد نكست, ويؤلمنى تنكيسها. اننى أصيح من أعماق الفؤاد: ياللعنة, ياللظلم.. واحسرتاه على العام الكئيب واليوم المشئوم والساعة الأليمة التى انكسرت فيها جوهرتى الصلبةالأصيلة,تلك الساعة التى انتزع فيها متكأى( عكازى) من يدى بعد أن كان يهدينى فى سيرى, تلك الساعة التى سدت فيها أمامى الطريق المؤدية الى البئر الصغير حيث أنهل مايجدد سلامى وأمنى. فلتنزل بك الحسرة بلا انتهاء, والألم والبلاء, والسقوط والشقاء, ولتحرم من رحمة السماء..فلتمت مدنسا بالرذائل, غارقا فى العار, قارضا أسنانك غيظا وكمدا, مفقودا فى قاذورات الجحيم, ليسلبك الله قواك ويسحقها الى رماد! ولتعش الى الأبد فى ظل الشيطان!
6-الموت لطم ثعلب أسداً نائماً على خده, فمزق الأسد جلده. قرص أرنبا ذئبا, ففقد الأرنب ذيله حتى اليوم. خربشت قطة كلبا أراد أن ينام, فأصبح عليها أن تتحمل عداء الكلب لها الى الأبد. هكذا شأنك معنا, وتلك عقبى احتكاكك بنا. إلا أننا نؤمن بأن العبد يبقى عبدا , كما يبقى السيد سيدا. نريد أن نسوق الأدلة والبراهين, على أننا نزن الأمور بأدق الموازين, لنكون فى حكمنا عادلين, وأن طريقتنا هى المثلى فى الحياة الدنيا : فنحن لانعفى أحدا لحسبه ونسبه, ولانأبه بالمعرفة مهما عظمت ولايعنينا الجمال أو المال, أو الحب أو الأسى, أو الشيخوخة أو الشباب, أو غير ذلك من الأمور والأسباب. إننا نفعل كما تفعل الشمس, فهى تشرق فوق الطيب والردىء والصالح والطالح, ونحن بدورنا نضم تحت لوائنا كلا من المؤدب والبذىء والمحسن والمسيىء. حتى المتخصصين فى تسخير الأرواح لابد وأن تستجيب روحهم لنا ويستسلمون. والسحرة والمشعوذون لايعفيهم فنهم من أن نطبق عليهم القانون, ولاحيلة لهم أمامنا حتى ولو ركبوا العصى أو امتطوا التيوس. والأطباء الذين يطيلون أعمار الناس لابد وأنهم تحت طائلتنا واقعون, فلن تنفعهم العقاقير والمراهم وكل مساحيق الصيدليات. ولو صح أن يحاسبنا الفراش والبعوض على مانفعل فى بنى جنسه, فلن يكفيه الحساب. فهل ينبغى علينا أن نترك الناس يعيشون حسب مانكنه لهم من محبة أو عداء, وسعادة أو شقاء؟ لو كان ذلك كذلك, لصارت الدنيا بأسرها مملكة لنا, ولتنازل جميع الملوك عن تيجانهم لنا, ولسلمونا صولجاناتهم, ولصار كرسى البابوية ومعه طاقية الأسقفية ذات التيجان الثلاثة تحت أمرتنا وسلطاننا._ دعك إذن من السباب واللعنات, ولاتختلق الأكاذيب والخرافات, لاتنكش على خراب عشك, ولاتهدم مافوقك فيتطاير رماده الى عينيك. | *عبدالرؤوف النويهى | 20 - يناير - 2010 | | فلاح بوهيميا وفلاح طنطا كن أول من يقيّم
7- أكرمان :
لو كنت أستطيع السب وأجيد اللعن ويمكننى هجاءك والامتهان بك, ولو تمنيت أن يصيبك ماهو أكثر من الأذى_ لكان ذلك هو أقل جزاء تستحقه لأن الألم البالغ يولد الشكوى المريرة._كيف أكون بشرا ولاأبكى على فقدان هبة من هبات الله لايستطيع أحد أن يمنحها سواه؟ نعم, لابد أن تغمرنى سكرات الحزن دائما: فقد طار منى عصفورى الشريف, فقدت زوجتى ذات المحامد و الفضائل. لى الحق كل الحق فى شكواى , لأنها كانت كريمة المنبت , أصيلة المحتد, شريفة عفيفة, قوية عفية, تفوق كل بنات جنسها فى البنية, عفة اللسان صادقة البيان, لم يمسسها إنس ولاجان , طيبة المعشر, حسنة المظهر..... ويستحسن أن أكف عن الكلام, خاصة وأننى أضعف من أن أستطيع حصر فضائلها وذكر محاسنها التى وهبها الله اياها, وأنت أيها الموت أدرى بها جميعا وأعلم._ اننى أشكوك بسبب فجيعتى , ولو كان فيك ذرة من صلاح , لتمزق قلبك اشفاقا عليها. لقد سقطت من نظرى وان أذكرك بخير أبدا. سوف أحتج عليك الى الأبد بكل ماأوتيته من قوة ومواهب, وعلى جميع المخلوقات أن تؤيدنى وتشد من أزرى فى احتجاجى عليك. فليناصبك الكل العداء, وليكرهك أهل الأرض والسماء بل وجهنم الحمراء!
فـلاح بوهيميـا و فـلاح طنطـا
أليس غريباً أن يجمع الموت بين فلاح من قرية عاشت في خيال كاتبها و بين فلاح من طنطا سكنه الموت حقيقة مؤلمة و ذكرى جميلة لروح هادئة تقبلت الموت بشغف المؤمن و لم تتساءل الحكمة فيه أو الإجحاف ؟
ها أنا حىٌ يجرني العمر بطيئاً في طيات الزمن أفتقد الروح الهادئة و أُقاوم لحظات الكآبة التى تعترينى بعد وفاة صديق أو زميل . أحاول ألا أبكى أو أدمع و أنأى بنفسى عن الناس صامتاً ملتحفاً بالزهد فى الحديث، أقاتل النفس ألا تنهار أو تنجرف فى جب الكآبة العميق تيمناً بمن رحلت راضية لتتربع في جنات الخلد مبتسمة .
رحلت "قمـر" أختى ، فى ريعان صباها الذي تعب منوطأ السنون القادمة و قرر الإستراحة في السادس عشر من عمرها .
حزني عليها كان عظيماً .
كيف أتاها الموت محطماً و هادماً لأحلام أوراقها خضراء و زهورها لا تزال براعماً في تلك العينين الجميلتين ، تنتظر التفتح على حياة وردية ، في خطاها تتقافز الأحلام إلى مستقبل تتحقق فيه الأمنيات ؟
كيف استطاع الموت أن يزرع في أوصالها بذرة المرض الذي نهش بها و عبث بأحلامها ؟
أهو الجمال في وجهها سحره فأراد أن يوئده أم أنه الإيمان في صدرها تحداه فأراد أن يُثبت تفوق قوته و جبروته ؟
أنا لم أكن أتساءل كفراً بمشيئة الله سبحانه و تعالى و إنما محاولاً أن أفهم الحكمة في المعاناة المريرة مع المرض (حمى روماتيزمية ) الذي إلتهم النضارة والجمال وأحال ضجة الحياة وصخبها إلى شبح يتهاوى إعياءا وهزالا ... و ذلك الشعر المتوهج بلون الحياة ، فقد ضجيج الضياء في خصلاته و تهاوى تعباً كما تهاوت القوة في القدمين الصغيريتن و أصبحت قمر جسداً نحيلاً يعتمد على مساعدة من حوله في التنقل في أرجاء البيت.
| *عبدالرؤوف النويهى | 20 - يناير - 2010 | | ماهى بسمة ..قمر كن أول من يقيّم
كنت عائدا ليلا بعد منتصف الليل ، من سهرة مع أصدقائى ، وقبل أن أفتح الباب ، سمعتها وهى وحدها فى وسط البيت والجميع نيام ، تقول : يارب أنا تعبت قوى ، وبعدين مش قادرة أمشى ، طب أعمل إيه ??? تراجعت عن فتح الباب وضربت الجرس الموجود فى الشارع ، ووجدتها تقوم بفتح الشقة وتسأل مين ???
ضحكت وقلت لها : أنا يا قمورة (إسم الدلع )
فردت: إقفل البوابة ، أنا سهرانه مستنياك عشان تتعشى أصلهم كلهم ناموا وسابونى .
يا إلهي كيف أضغط على ذلك الوجع الذي يتخبط في صدري وأنا أعلم إنها أيام قليلة وسترحل ... الحمى الملعونة وصلت إلى القلب الحنون تهاجمه بضراوة البطش .
في زيارتها الأخيرة للطبيب ، انفرد بي بعيداً عن مسمع أمي و أبي وقال لى "أختك بتموت وسيبها تاكل إللى هى عايزاه" .
خرجت من عيادة الطبيب مجاهداً وخافياً عصف الصراع الدائر في صدري و محاولاً إخفاء قسوة الحزن الذي صعق كل آمالي ووجدت نفسي – ضاحكاً - أعاكسها بأغنية فيروز (قمرة يا قمرة ما تطلعي عالشجرة ، والشجرة عالية وأنتى بعدك صغيرة ... يا قمرة ) .
اصبحت تلك الأغنية مدار الجد و الهزار في تعاملي مع "قمـر" كنت أرددها مبتهجاً ومعاكساً إذا لم تستطع قراءة كتاب أحضرته لها. كنت أُشدد على أنها ستنهض من كبوتها و المستقبل الزاهر ينتظرها.
قلت لها يوماً كانت تلابيب المرض مرسومة ألماً في وجهها : "إنتى كويسة قوى وعايزين نشوف لكى عريس" .... و بمعرفة المؤمن نظرت إلي جادة و راضية بما تعرفه و تشعره و كأنها تؤنب محاولتي لإخفاء الحقيقة عنها قائلة ... "بـلاش تضحـك علـيَّ" ..
لم يكتمل ذلك الأسبوع قبل رحيلها ... و انتقلت "قمـر" من قبضة المرض و الألم إلى رحمة الله تعالى و رأفته .
ثلاثون عاماً مضت على رحيلها من بيتنا ... ثلاثون عاماً عشتها في عيني تتربع ضحكتها و في قلبي ينبض ذكراها و بقي وجهها الباسم وترحابها الحار "أمـل" يستقبلني على باب الدار ... إذا غبت عن البيت أياماً ، وأنادى ابنتى بسمة (ياقمر) ثم أضحك من نفسى واقول يابسمة ........تتأملنى زوجتى بصمت ثم تقول بحنان:ما هي بسمة ... قمر ؟؟؟؟؟ .
| *عبدالرؤوف النويهى | 20 - يناير - 2010 | | لماذا قمر؟؟ كن أول من يقيّم
الفصل الثانى فلاح بوهيميا / محاكمة الموت بعد قراءة أعمال الشاعر المصري الكبير "صلاح عبد الصبور"، وجدت نفسي مأخوذاً بما كتبه و مشغولاً بما جاء في أدبياته . بعد قراءة "موت فلاح" و "زرنا موتانا في يوم العيد" و "شنق زهران" قمت بكتابة دراسة قيمة عن رؤية الشاعر للموت و الحب و القصائد التي تصور الإنسان ما بعد موت أحبته كانت وفيرة و مثيرة..
أتذكر الفاروق عمر بن الخطاب ،عندما سمع بموت الرسول الكريم، لم يتوان فى الإنكار ومهاجمة من أذاع هذا الخبر المُفزِع،ويرفع السيف فى وجه كل من يقابله .
كلما هجست لى نفسي أتساءل و أضع الموت في قفص الإتهام أستجوبه صارخاً: لماذا "قمـر" لماذا قمر و هناك الملايين أمامك من البشر ، الذين تضيق بهم الحياة و تتمنى زوالهم !!؟؟ ألست_ أنا _بشراً أيضاً؟؟؟؟؟
و بثبات المؤمن أجد نفسي تثوب راضية و أعود الى نفسي قائلاً : لكل أجلٍ كتاب .
8- الموت
لقد كتب الله الجنة للأطهار, وجهنم للأشرار وأورثنا نحن (الموت) الأرض والديار. وخص الجنة بالسلام والثواب لما فيها من فضائل, كما اختص النار بالشقاء والعقاب لما فيها من بحار,فقد كلفنا بها القوى القهار, وأمرنا بأن نقتلع منها الزائد ونجتث الفائض.
تخيل _ أيها الأحمق_ تريث وأمعن الفكر وحكم العقل, فلعلك تفهم مايلى: لو أننا منذ عصور البشرية الأولى تركنا الأعداد تتزايد من بنى الانسان ومن الحيوان ومن الديدان فى الصحارى وفى لغابات الكثيفة, ثم تركنا الماء بما فيه من الأسماك, ذات الحراشف منها والثعابين, ولم نستأصل منها الزائد والفائض, لما استطاع أحد اليوم أن يقاوم البعوض , وماجرؤ أحد على الخروج خوفا من الذئاب, كما أن الانسان قد يفترس أخاه الانسان, ويفترس الحيوان بنى جنسه,ويقضى كل كائن حى على غيره , ذلك لأن الغذاء سوف ينقصهم وتضيق عليهم وبهم الأرض بما رحبت. أحمق هو كل يبكى على الأموات .... دعك من هذا وخفف عن نفسك. دع الأحياء يعيشون , والموتى فى قبورهم , فتلك سنة الحياة للآن, يحسن بك أيها المأفون أن تفكر فيما هو بالشكوى جدير.
| *عبدالرؤوف النويهى | 20 - يناير - 2010 |
|