مرحبا بأهالي الوراق كنت في سنوات قليلة ماضية قد طلبت العون لدراسة كتاب يُعدّ من الكتب التي لم تلق دراسة -على أهميته- لا شرقا ولا غربا وهو كتاب مضاهاة أمثال كتاب كليلة ودمنة بما أشبهها من أشعار العرب، لكن للأسف لم أجد عونا ولم أجد من يعرف هذا الكتاب إلاّ ببعض الجمل التي لا تشفي غليل باحث يسعى لنيل شهادة عليا، ورغم ذلك لم أيأس وعملت على دراسة الكتاب بمجهودي الخاصّ طبعا بمعيّة أستاذي المبجّل فرج بن رمضان الذي أشرف على رسالة الماجستير. وقد كانت النتيجة مشرّفة جدّا من خلال بحث قمت به عنوانه: التلقّي العربي لكليلة ودمنة كتاب مضاهاة أمثال كتاب كليلة ودمنة بما أشبهها من أشعار العرب أنموذجا، وتحصّلت على درجة حسن جدّا. وبكلّ تواضع كان البحث نتيجة عصارة ذهنية كبيرة فككت من خلاله طلاسم كتاب اليمني وتوصلت في خاتمة بحثي إلى نتائج جدّ مفيدة أساسها أولا بطلان ادّعاءات اليمني وثانيا تثبيت قيمة كتاب كليلة ودمنة في التراث العربي. إلاّ أنّ وضعي المادي لم يسمح لي بنشر هذا البحث فاحتفظت به -طبعا بالإضافة إلى النسخ التي بقيت في مكتبة الكلية- وأنا من موقعي هذا أبثّ نداء لمن يريد أن يساهم في طبع هذا الكتاب حتى تعمّ فائدته على الجميع. وفي ما يلي خاتمة بحثي هذا والتي جمعت فيها أهمّ ما توصّلت إليه في نهاية تحليلي لكتاب المضاهاة: إنّ الحديث عن الأدب هو حديث عن ظاهرة متحرّكة أبدا. ومهما انطلقنا في دراستنا له من أكثر النّظرّيات حداثة وأكثرها جدّة، فإنّ ذلك لا ينفي تقادمها وتجاوزها مع مرور الزّمن لأنّ الأدب هو نصّ مفتوح دائما متى أغلقته انتفت منه صفة الأدب. وإذا نظرنا إلى الأدب العربي القديم فإنّنا نلاحظ أنّ "مقام المشافهة قد أسهم إلى حدّ بعيد في جعل التّقبّل مبنيّا على الارتجال، قائما على الانفعال السّريع السّاذج أحيانا" فكان للمعنى الدّور الأكبر في تحديد قيمة النّصّ الإبداعي. وهذا المعنى ما من سبيل لإيصاله إلى المتقبّل إلاّ عن طريق استمالة القلوب عبر صيغ الكلام المنطوق. وفي ذلك يقول الرّمّاني (ت 386 هـ): "ليست البلاغة إفهام المعنى لأنّه قد يفهم المعنى متكلّمان أحدهما بليغ والآخر عيّ... وإنّما البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللّفظ". لذلك ارتبط التلقّي قديما "بلذّة الإقناع بجمال الإصغاء والإقناع الذي يؤدّي إلى فهم النصّ لذاته". لذلك كان ظهور نصوص جديدة تخالف الوضع السائد للأدب وتخترق القواعد التي رسمها النّقّاد له، مدعاة لإثارة الجدل والسّجال والنّقد "المقارني" الذي يقارن النصّ الأصلي الشّفوي (الذي يمثّله الشّعر) بالنّصوص الطّارئة المكتوبة (التي مثّلتها النّصوص المترجمة من لغة غير العرب إلى لغة العرب شكلا أوّل من أشكال النّثر الفنّي). وقد كان للنصّ القرآني المقدّس الدّور الأكبر في تحديد معيار الفصاحة والبيان. فكلّما كان النصّ الأدبي يقترب من حيث فصاحته وبيانه من النصّ القرآني كانت منزلته في نظام الأدب أكبر. لذلك فإنّ النّقد العربي القديم قد استمدّ مقوّماته من الشّعر لا من النثر على أساس أنّ الشّعر كان هو الأقرب من النصّ القرآني من النصوص النّثريّة، وأيضا على أساس أنّ نصّ القرآن ومدوّنة الشّعر، الجاهليّ منه بالأساس، قد مثّلا دستور العرب ومصدر معرفتهم للإنسان والعالم. لكن اقتراب المدوّنة الشّعريّة من حيث بيانها وفصاحتها من النّصّ القرآني المُعجِز من شأنه أن يجعل نقّاد الأدب في إشكال مركزي يتمثّل في الآتي وهو: كيف السّبيل إلى التّفريق بين بيان الشّعر وفصاحته وبين إعجاز النصّ القرآني؟ لذلك، وفي سبيل الخروج من هذا المأزق، اعتبر نقّاد الأدب العربي القدامى الشّعرَ العربي القديم، والجاهليّ منه أساسا، رمزا للهويّة العربيّة لا بدّ من الحفاظ عليه لذلك "أخذ – أي الشّعر- يدنو من مرتبة القيم المقدّسة ثمّ التبست هذه الصّفة بما أخذ يؤدّيه من دور في تفسير النصّ القرآني وحمايته بالتّالي ممّا يتهدّده من ضروب اللّحن والتّحريف والتعدّد، فتكرّست من ثمّة قداسة الشّعر وتأسّست سلطة نموذجه البدوي الفصيح إذ يتقاطع فيه ويتكامل هذان البعدان الثّقافي والدّيني اللّذان تحكّما في حركة تدوين الشّعر والتّنظير له في مراحلها الأولى". فكان دور الشّعر منحصرا في كونه "مصدرا من مصادر جمع اللّغة وتحقيق مادّتها ووضع قواعدها" من أجل حماية النصّ القرآني ممّا يعتريه من اللّحن والتّحريف. ومن هنا أتت المصالحة بين الشّعر والدّين، ومن هنا كذلك تمّ تهميش جنس القصص لعدم استجابته لمواصفات النّموذج الذي اقتضاه عصر التدّوين والمتمثّل في الفصاحة والبيان ولعدم جدواه في جمع اللّغة وحفظها وتقنينها. وضمن هذه النّظرة الإيديولوجيّة الضيّقة المهمّشة للقصص تنزّل كتاب المضاهاة لليمني، فجاء استجابة لما كان سائدا من آراء ومواقف تمجّد الشّعر وتقصي النثر القصصي. ورغم تطوّر النّثر وظهور أشكال عديدة من القصص، كالقصص الدّينية وقصص الأنبياء والقصص التّاريخيّة... إلاّ أنّ أهميّة هذه القصص قد تمّ اختزالها فيما تحويه من معانٍ ومواعظ وحكم ومغازٍ. فظلّت قصصيّة القصص القائمة على التّخييل والتّرميز مهمّشة بغضّ النّظر عن استجابتها لمعيار الفصاحة أو لا. لذلك عمد اليمني إلى اختزال كتاب كليلة ودمنة فيما يحويه من أمثال واعتبر كلّ ما عداه "كالزّبد يذهب جفاء" لأنّه يمثّل "أكاذيب وأباطيل" ويحيل على عوالم متخيّلة مرفوضة مستهجنة... كتاب المضاهاة، وإن بدا في ظاهره يساجل كتاب كليلة ودمنة لابن المقفّع، إلاّ أنّه في الحقيقة، انطلاقا ممّا استنتجناه في البابين الأخيرين من مبحثنا، كتاب يضمّ في جوانبه الأدب والحضارة والسياسة. فهو كتاب "أدب" موجّه إلى خليفة شيعي هو المعز لدين الله الفاطمي يدعو إلى التشبّث بالمبادئ الإسماعيلية الشّيعيّة. ثمّ هو كتاب في إثبات إعجاز القرآن وبيانه وبيان المتكلّمين به ورفعتهم دينا ولغة وأدبا وحضارة. وهو إلى ذلك كتاب أدب قد أثار –سواء بوعي من صاحبه أو من غير وعي منه- عديد القضايا الأدبيّة من قبيل علاقة الشّعر بالنّثر وعلاقة اللّفظ بالمعنى وغيرها من القضايا التي تطرقنا إليها في بحثنا. وإذا كان متن كتاب المضاهاة قد انحصر في السّجال بين نصّين أدبيين هما نصّ ابن المقفّع من جهة والمدوّنة الشّعريّة من جهة ثانية، فإنّ مقدّمته قد كشفت النّقاب، رغم تعمّد اليمني إخفاء مقاصده في أغلب الأحيان وتعتيم مراميه التي يبغي الوصول إليها، عن أنّ المقصود ليس كتاب كليلة ودمنة فحسب، وإنّما المقصود هو كلّ ما هو دخيل على الثّقافة العربيّة الإسلاميّة سواء أكان هذا الدّخيل عرقا أو أدبا أو حضارة أو دينا... إنّ ما يمكن أن نخلص إليه من كلّ ما تقدّم هو أنّ اليمني يتحدّث من موقع الرّجل العربي المسلم القلق الذي بدأ يشاهد أثر المدّ الخارجي على البلاد العربيّة لا من موقع النّاقد الأدبي الذي ينقّب عن مظاهر التأثر والتّأثير في الأدب ويبيّن أسبابها ونتائجها. لذلك ورد كتابه في ذلك القالب السّجالي الإيديولوجي سعيا منه إلى ردّ الاعتبار إلى مركزيّة الشّعر الشّفوي في الظّاهر وإلى مركزيّة العرب في مختلف المجالات المعرفيّة الأخرى ضمنيّا. والحقيقة أنّ جلّ الكتب العربيّة القديمة قد سعت إلى نفس مسعى اليمني سواء منها كتب الأدب أو غيرها من التّصانيف الأخرى ككتب التّاريخ والجغرافيا والكتب الدّينيّة عامّة. فكان النّص التّأسيسي مدار أغلب العلوم عند العرب إن لم نقل كلّها، وكان إثبات مركزيّة العرب الهاجس الأكبر لمصنّفيها. فجاءت أغلب تصانيفهم صدى لهذا الهاجس، ممّا جعلها –على أهميّتها العلميّة في كثير من الحالات والمجالات- تتلبّس بالبعد السّجالي الإيديولوجي الذي يصوّر الذّات بؤرة والآخر هامشا ممّا يجعلها بالتّالي في حاجة إلى قراءة نقديّة جديدة. ولا بدّ من التّنبيه هنا إلى أنّ هذا الرّأي يمكن أن نعتدّ به في حالة واحدة وهي افتراض تبرئة اليمني من وضعها أو وضع ما لا يوجد منها في كليلة ودمنة، خاصّة إذا علمنا أنّ أغلب الأشعار –كما صرّح بذلك محقّق الكتاب نفسه- غير موجودة فغير مستبعد إذن ألاّ تكون بعض الأمثال الواردة في كتاب المضاهاة –والتي لم نعثر عليها في كتاب كليلة ودمنة كما بيّنا ذلك في الفصل الثّاني من الباب الثّاني من مبحثنا- موضوعة كذلك. |