الثقافة العربية: عودٌ على رؤيةٍ عامة بقلم: الدكتور عدنان مصطفى أستاذ في الفيزياء مدخل: ===== إنتشاءاً بعبير النسيم الحضاري الوطني – العربي الذي بدأ رحلته من قلب مجلة العربي العتيدة، ليثير الفكر الحضاري المعطاءَ الخير حول واقع و مستقبل الثقافة العلمية العربية و استشراف المستقبل، و ليضع الأمور في نصاب العمل على إدراك نفوذها ضمن أمانة المسؤولية الوطنية – الحضارية الموضوعة اليوم بين يدي الجيل العربي الشاب الراهن و ما سيليه من أجيال عربية معطاءة، و مساهمة في إثارة الفكر ( brainstorming ) قبيل انعقاد " ندوة العربي المنظورة: الثقافة العلمية و استشراف المستقبل العربي " في شهر كانون الأول / ديسمبر 2005، و حث الإنسان العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، و الشاب منه بخاصةً، كي يواكب هذا النسيم الحضاري المميز بالتهيؤ لإدراكه و المشاركة في إثرائه و التشمر لإبداء المزيد من الإبداع فيه، و استئناساً بالفكر العربي الوطني الملتزم الذي أبداه قادة الرأي الحضاري العربي الأمجاد فيما بين نهاية القرن التاسع عشر و بدايات عقود النصف الثاني من القرن العشرين، ذلك الفكر الذي أدرك بما لديه من حس وطني حضاري سليم أن ثمة رياح خنوع قد بدأت تهب على أمتنا العربية بغاية تغيير طبيعة أشياء الوجود الحضاري العربي العتيدة، فقد وجدنا من المفيد العودة إلى عمل فكري كبير، و لو أنه متواضع الحجم، نشره المفكر العربي الراحل الأستاذ عباس محمود العقاد في إطار تحقق أول تجربة وحدوية عربية بين سورية و مصر، تلك التي تجسدت بقيام " الجمهورية العربية المتحدة" العظيمة. و بناء على ذلك سنعمد فيما يلي إلى تسليط الضوء على ابرز ما جاء في هذا العمل الفكري المميز. الثقافة العربية: منظور عباس محمود العقاد ===================== في إطار العطاء الثقافي الوحدوي العربي المسئول، أي ضمن ما عرف وقتئذٍ " بالمكتبة الثقافية "، التي بدأت وزارة الثقافة و الإرشاد القومي ( الإقليم الجنوبي – الجمهورية العربية المتحدة ) بإصدارها، هدف الأستاذ ثروت عكاشة ( وزير الثقافة و الإرشاد القومي ) وقتئذٍ إلى أن تتميز بدايتها الشعبية بعمل للمفكر العربي – الإسلامي الكبير المرحوم الأستاذ عباس محمود العقاد فتم ذلك عبر كتيب صغير بعنوان " الثقافة العربية: أسبق من ثقافة اليونان و العبريين "، و في حينه بلغت صفحات هذا الكتيب 120 صفحة، و انطوت بشكل رئيس على تعريف من هم العرب، الكتابة العربية، الأبجدية اليونانية، من العرب الأقدمين تعلم اليونان صناعات الحضارة، الفلسفة، تلاميذ أبديون...، الدين، اللغة و الكتابة، و الشعر. و يبدو من المفيد بمكان التذكير بأهم أفكار هذا العمل الكبير: I. بدأ الأستاذ الكبير العقاد حديثه عن الثقافة العربية بجلاء هيئة الوجود العربي عبر الزمان حين بدأ قائلاً تحت عنوان: " حقيقة مفاجئة... أقدم الثقافات الثلاث"، و هذه الثقافات الثلاث هي: العربية و اليونانية و العبرانية، أقدمها في التاريخ هي الثقافة العربية، قبل أن تعرف أمة من هذه الأمة بإسمها المشهور في العصور الحديثة. و هذه حقيقة من حقائق التاريخ الثابت الذي لا يحتاج إلى عناء طويل في إثباته، و لكنها على ذلك حقيقة غريبة تقع عند الكثيرين من الأوروبيين و الشرقيين، بل عند بعض العرب المحدثين، موقع المفاجأة التي لا تزول بغير المراجعة و البحث المستفيض. و قد كان ينبغي أن يكون الجهل بهذه الحقيقة هو المفاجأة المستغربة، لأن الإيمان بهذه الحقيقة التاريخية لا يحتاج إلى أكثر من الإطلاع على الأبجدية اليونانية و على السفرين الأولين من التوراة التي في أيدي الناس اليوم، و هما: سفر التكوين و سفر الخروج، و لا حاجة إلى الاسترسال بعدها في قراءة بقية الأسفار. فالأبجدية اليونانية عربية بحروفها و بمعاني تلك الحروف و أشكاله، منسوبة عندهم إلى قدموس الفينيقي و هو في كتاب مؤرخهم الأكبر " هيرودوت" أول من علمهم الصناعات. و سفر التكوين و سفر الخروج صريحان في تعليم الصالحين من العرب لكل من إبراهيم و موسى عليهما السلام. فإبراهيم تعلم من ملكى صادق، و موسى تعلم من يثرون إمام مدين، و شاعت في السفرين رسالة " الآباء " قبل أن يعرفوا باسم الأنبياء، لأن العبرانيين عرفوا كلمة " النبي" بعد وصولهم إلى أرض كنعان و اتصالهم بأئمة العرب بين جنوب فلسطين و شمال الحجاز...". و إذ يعزو الأستاذ العقاد جهل هذه الحقيقة إلى أنه غالباً ما تطغي الإشاعة الموهومة على الحقيقة المسجلة و لا سيما الإشاعة التي تحتمي بالصولة الحاضرة و تملاً الآفاق بالشهرة المترددة. و تأكيداً لذلك يمضي الأستاذ العقاد قائلا: " و قد أشاع الأوروبيون في عصر ثقافتهم و سلطانهم ( كما يحدث في عصرنا الراهن ) أن أسلافهم اليونان سبقوا الأمم إلى العلم و الحكمة، و اختلط على الأوروبيين كما اختلط على غيرهم قدم التوراة بالنسبة إلى الإنجيل و القرآن و قدم الإسرائيليين بالنسبة إلى المسيحيين و المسلمين، فتوهموا أن العبرانيين سبقوا العرب إلى الدين و الثقافة الدينية، و كتابه نفسه صريح في حداثة إسرائيل و حداثة إبراهيم من قبله بالنسبة إلى أبناء البلاد العربية..". II. " من هم العرب ؟ " سؤال طرحه الأستاذ العقاد ليجلو جوابه قائلاً: " وجد العرب في ديارهم قبل أن يعرفوا باسم العرب بين جيرانهم، و كانت لهم لغة عربية يتكلمونها و تمضي على سنة التطور عصرا بعد عصر، إلى أن بلغ الطور الذي عرفناه منذ أيام الدعوة الإسلامية، و هذه هي القاعدة العامة في تسمية الأمم و في تطور اللغات، فليس العرب بدعاً فيها بين أمم المشرق و المغرب.". و في هذا الصدد يمضي الأستاذ العقاد مقارباً أحوال أمم أخرى عاشت في الهند و الحبشة و السكنديناف، و إنكلترا، حيث كان لكل أمة منها لغة ما يتكلمون بها قبل ألفي عام و لا يتكلمها اليوم أبناؤها على النحو الذي كان يفهمه آباؤهم و لا يشذ عن ذلك أمة من الأمم و لا لغة من اللغات. في حين يؤكد الأستاذ قائلا: " و قد مضى على العرب أكثر من ألفي سنة و هم معروفون بهذا الإسم الذي يطلقونه على أنفسهم و يطلقه عليهم غيرهم، و لا يزال أصل التسمية و تاريخ إطلاقها غير معروفين على التحقيق إلى اليوم". و مع تفاعل العرب مع أمم الأرض الأخرى، فقد سادت ثمة ثقافة عربية عتيدة و صفها الأستاذ العقاد قائلاً: " الثقافة العربية إذن هي ثقافة الأمم التي نشأت تتكلم العربية و عاشت تتكلمها كما كانت على الألسنة في كل دور من أدوارها على سنة التطور في جميع اللغات..". و يفصل الأستاذ العقاد نشوء اللغات السامية، و الآرامية، و الكنعانية، حيث يضرب مثالاً على ذلك: " و نحن نعلم أن مؤرخي العرب كانوا ينسبون شعوب العرب البائدة جميعاً إلى " إرم " و يسمونهم بالإرمان – كما جاء في تاريخ سني الملوك لحمزة الأصفهاني – و يجوز أن يكون الآراميون من سلالة هؤلاء الأرمان الذين هاجروا إلى وادي النهرين في تاريخ مجهول، و لكن تاريخهم المعلوم يرجع إلى عهد دولتهم التي حكمت بابل و قام منها بالأمر حمورابي صاحب التشريع المشهور ( سنة 2460 قبل الميلاد) حيث سادت اللغة الآرامية وادي النهرين و بادية الشام و أرض كنعان و بلاد الأنباط، و ظهرت لهجتها العامة – كلاماً و كتابةً – في كل قطر من الأقطار". و عند الحديث عن سقوط الدولة الآرامية، يؤكد الأستاذ العقاد على أن السبب الرئيس في حدوث ذلك هو " فقدان الحرية السياسية " ( كما يحدث اليوم؟!)، لتسود بعدئذٍ أمم الأرض الأخرى مثل اليونانية، و الهندية. III. و يخص الأستاذ العقاد قدراً مميزا من الاهتمام للكتابة العربية و كيف كانت أساس الأبجدية اليونانية، التي جاءت مع رياح الحضارة العربية التي هبت من الجنوب على شمال البحر الأبيض المتوسط.و في هذا الصدد يورد الأستاذ العقاد كلاماً للمؤرخ اليوناني الكبير هيرودوت جاء فيه: " يقول هيرودوت في الكتاب الخامس من تاريخه: و الآن نذكر أن الفينيقيين الذين جاؤا مع قدموس يعد قدومهم إلى بلادهم صناعات كثيرة منوعة، منها: صناعة الكتابة التي كانوا يجهلونها على ما أحسب، قبل ذلك. فنقلوا حروفهم – أولاً – على مثال الحروف الفينيقية بغير تصرف. ثم تغيرت مع الزمن لهجاتهم فتغيرت معها رسوم حروفهم...". و يمضي الأستاذ العقاد قائلاً في نفس السياق: " و الفلسفة ليست بالاستثناء من هذه القاعدة العامة في تاريخ الثقافة الشرقية اليونانية، خلافاً لم يظنه القائلون بأن فلسفة اليونان قد نشأت في منبته نشأة منقطعة عن ثقافة العالم في جملتها". و بذلك شكل اليونانيون تلامذة موفقون أبديون للفكر العربي العتيد. IV. و عند الحديث عن الثقافة العبرية يقول الأستاذ العقاد: " إن سبق العرب للعبريين في ثقافتهم الدينية أوضح من سبقهم لليونان في ثقافة المعرفة و صناعات الحضارة: ووقائعه و قرائنه أقرب سنداً من الوقائع و القرائن التي الممنا بها في الصفحات السابقة من هذا الكتاب، لأن السند القريب هنا مستمد من أسفار التوراة و من أحوال المعيشة التي لا محل للخلاف عليها". و لقد خص الأستاذ العقاد بضعة فصول لبيان العلاقة القديمة بين ثقافة العرب و ثقافة العبريين في الناحية الدينية، و جلاء حقيقة الأخيرة. V. و يتوج الأستاذ العقاد كتابه بالحديث عن الشعر العربي باعتباره أحد ابرز واجهات الفكر الحضاري العربي عبر الزمان. و في هذا الصدد يقول: " إذا كان في نشأة الشعر العربي من الحداء بعض الشك، فليس هنالك أقل شك في الصلة الوثيقة بين الحداء و الشعر في تطور تركيبه و توفيق أوزانه و تقسيم أعاريضه. لأن أوزان الشعر التي نظم فيها شعراء الجاهلية تنتظم الأعاريض جميعاً مع حركة الإبل في السرعة و الأناة...". و بناء على ذلك، يقول الأستاذ العقاد: " و الحداء نفسه مناسبة شعرية تستوحي الغناء في ليالي البادية القمراء، بين الحنين على الموطن الذي بارحه الركب، و الأمل في المنتجع الذي يتنقل إليه، و ليس لترديد الغناء بمعانيه الشعرية مجال أقرب إلى الحياة البدوية و ألصق بها من مجال الحداء. فلا نزاع في الصلة بين الصلة بين الحداء ووزن الشعر العربي". و يفرد الأستاذ العقاد فصلاً كاملاً لتفسير أصالة وجود الوزن و القافية في الشعر العربي و إرجاعه لتلازم قوة الفكر العربي مع عمق إحساسه بطبيعة أشياء الوجود التي يعيش في إطارها الإنسان. الأمر الذي أدى إلى القول: " و في الأمة العربية وحدها تم التطور فانتظم الوزن بتفعيلاته و أسبابه و أوتاره و روعيت فيه القافية، و قامت صياغة الشعر فناً خالصاً مستقلاً عن الغناء، يعرف بأسماء بحوره و قواعد أوزانه، و لا يلحق بشخص هذا الناظم أو ذاك في تعريف أساليبه و تمييز أقسامه.". VI. و في " نهاية مطاف " كتاب الأستاذ العقاد، أي في الفصل الأخير منه، يقول الأستاذ العقاد: " ولعلنا في نهاية المطاف قد أتضح لنا المقصد الذي توخيناه و أجملنا بيانه في كلمة التمهيد لهذه الرسالة: فهو تصحيح الأوهام الشائعة بين الغربيين عن تخلف الأمة العربية في ميادين الثقافة و الحكم عليها أبدا، و في جميع الأحوال، بأنها تبع مسبوق يقتدي باليونان في ثقافة الفكر، و بالعبريين في ثقافة العقيدة، و ليس للأمة العربية من سوابق الفضل يدين لها أولئك اليونان و أولئك العبريون. و قد لج الأوروبيون في هذه الدعوى لجاجة بغيضة تتكشف عن سوء نية، و يبدو عليها كأنها تعسف في البحث عن أسباب الجني و الإنكار فتخلقها خلقاً و تحيد عن الطريق السوي حيداً، لكي تنتهي من ذلك إلى قدح في الطبيعة العربية وتمجيد لطبيعة من طبائع الأمم سواها، حيثما تكون". خاتمة: ===== و يثير قول الأستاذ عباس محمود العقاد رغبتنا في الرجوع إلى أولئك الذين يقيسون اليوم قدر الفكر العربي، و من ثم الثقافة العربية، و أغلبهم في الإطارات الأكاديمية الشمالية، حيث يأتي أحدهم مؤخراً ( 2005 ) و هو الدكتور مايك كرانغ ( الأستاذ بجامعة دورهايم البريطانية ) الذي يقرُّ في كتابه المنشور بالعربية حديثاً ( من خلال سلسلة عالم المعرفة الكويتية ) تحت عنوان " الجغرافيا الثقافية" بأن ليس ثمة إدراك معرفي دقيق لتعبير الثقافة ( culture ) حين قال: " في نهاية الخمسينيات استطاع المؤلفون أن يجمعوا أكثر من 150 تعريفاً مختلفاً للثقافة قيد الاستعمال في الكتب الأكاديمية... و المبدأ الموجه في هذا العمل هو أن الثقافات هي مجموعة من المعتقدات أو القيم التي تعطي معنى لطرق الحياة و تنتج و يعاد إنتاجها من خلال أشكال مادية و رمزية..". و من خلال ضلال المعيار ( gauge ) الذي يقيم من خلاله المفكرون الشماليون قدر الفكر العلمي العربي بخاصة، يحق لحكيم و مفكر عربي مثل الأستاذ عباس محمود العقاد القول و قبل نصف قرن مضى ما يلي: " لا نريد أن نمحو فضلاً لصاحب فضل، و لا أن نبخس حقاً لصاحب حق، و لا أن نبطل احتكار المزايا الإنسانية على أناس لكي ننقل هذا الاحتكار إلى أناس آخرين. كل ما نريده أن ندفع شبهات القصور الأبدي المفترى على أمة عريقة حية، كان لها فضلها العميم على الإنسانية، و يرجى أن يكون لها فضل مثله أو يفوقه على أجيالها المقبلة، و هي في مقامها الأوسط بين القارات، و بين العقائد و الثقافات. و لقد كان نصيب الأمة العربية من تلك الشبهات نصيب الأسد إن صح التعبير، فأصابها منها أكبر نصيب تصاب به الأمم، منذ أيام الشعوبية إلى أيام الاستعمار و التبشير و الآرية و الشيوعية... ".
|