ومن الملامح الفنية الظاهرة في القصيدة تكرار الشاعر لمجموعة من الأساليب التركيبية، ليستطيع الشاعر أن يفرغ مشاعره المضطربة، فهو يسترسل في الحديث جاعلا التكرار الأسلوبي رابطا وثيقا لروح النص برباط تركيبي وثيق ليمنح النص تماسكا بنيويا، ومن ثَمَّ يعطي النص تماسكا على المستوى الدلالي، فقد تتابعت في النص الجمل الفعلية المنفية المعبرة عن الحنين تتابعا سلسا، يفيض بالإحساس المرهف والحزن الطافح: وكل ما قيل وما يقال بعد غدْ لا ينتهي بضمة أو لمسة من يدْ لا يُرجع الغريب للديار لا يُنزل الأمطار لا ينبت الريش على جناح طير ضائع منهدّْ ويصوغ الشاعر أسئلته لذويه بالطريقة نفسها، فعندما يسأل عن والده يقول: "وكيف حال والدي؟" والسؤال نفسه عندما يسأل عن إخوته: "وكيف حال إخوتي؟" أو أخته: "وكيف حال أختنا؟" وجدته "وكيف حال جدتي؟"، وحتى التركيب نفسه في سؤاله عن البيت: "وكيف حال بيتنا؟" إن الشاعر بصنيعه هذا قد جعل الجميع – جميع من سأل عنهم هنا – بمرتبة واحدة في الأهمية الوجدانية والمشاعرية، فكلهم سواء في النظرة والاهتمام، ويفكر فيهم بالطريقة نفسها، ولم يستثن الشاعر البيت الذي جعل السؤال عنه بالكيفية ذاتها ليدل على إحساس بأهمية البيت الذي جاء آخر المسؤول عنه، لتكون سلامة البيت عنوانا لسلامة كل أفراد الأسرة، التي يجمعها ظلال سقف هذا البيت، فهو رمز بقاء وثبات وحياة واستقرار واستمرار. وبالتقنية ذاتها، فإنه يصوغ أسئلته عن نفسه بلغة يملؤها الأسى والحسرة؛ فالعامل الذي تغرب وعاش وحيدا، يخاف أن يموت في الغربة ولا يعرف عنه أحد، ولذا فإنه يوجه لأمه ولشجرة الصفصاف مجموعة من الأسئلة على نمط واحد: هل تعلمين ما الذي يملأني بكاء؟ هبي مرضت ليلة... وهد جسمي الداء! هل يذكر المساء مهاجرا أتى هنا... و لم يعد إلى الوطن؟ هل يذكر المساء مهاجرا مات بلا كفن ؟ يا غابة الصفصاف! هل ستذكرين أن الذي رموه تحت ظلك الحزين - كأي شيء ميت- إنسان؟ هل تذكرين أنني إنسان و تحفظين جثتني من سطوة الغربان؟ إنه لربط مبكر وعجيب ربْطُ الشاعر في هذا المقطع ما بين أمه وشجرة الصفصاف، فكلتاهما توحدتا في حمل هم الإنسان المغترب، بل إن العامل الذي وجه رسالته لأمه، موجها لها هذه الأسئلة التي تنضح بالضعف الإنساني والحميمية، وأخص مَن يتفهم مشاعره هذه هي أمه، ومع احترام الشاعر لهذه العلاقة الوجدانية بينه وبين أمه، فإنه يقدم عذرها له؛ فهي بعيدة عنه، فكيف ستحميه من غدر الغادرين وشؤم عاديات السنين، وهنا وفي هذه اللحظة، يتذكر الصفصافة معادلا لأمه في غيابه وغيابها القسريين، طالبا من هذه الشجرة أن تمنحه الكرامة الإنسانية عندما يموت فتحمي جثته من سطوة الغربان. وتصل الرسالة إلى نهايتها، فيعبر كاتبها عن شكه في إمكانية وصول هذه الرسالة، فقد "سدّت طريق البر والبحار والآفاق"، ولكنه يؤكد موقفه من القضية الإنسانية الكبرى التي حضرت عندما غاب العنوان؛ غاب العَلَم وغاب الوطن فغابت الهوية، وبالتالي فإن السؤال الذي أنهى فيه الرسالة أضحى مشروعا بلا أدنى ريب: ما قيمة الإنسان بلا وطن بلا علم ودونما عنوان؟ ما قيمة الإنسان؟ هذه كانت رسالة الشاعر، وقد أفلح إذ اختار لهذا المضمون الإنساني الشفيف الجمل القصيرة المتوترة المشحونة بتموجات العاطفة الإنسانية، لبناتها اللفظية وتراكيبها اللغوية قريبة من فهم العامة والبسطاء، وقريبة إلى فهم أمه التي أرسل إليها هذه الرسالة، ومناسبة لشخصية العامل، الذي تحدث بلغة تنضح من اليومي والعادي المتداول لتحوله إلى شعر فيه القيمة الفنية العالية، وهذه اللغة بهذه الكيفية تنتظم كل قصائد ديوان أوراق الزيتون، نابعة من تصور مذهبي فكري، حيث تحيل إلى ما كان يعتقده الشاعر وقتها من أهمية القصيدة المقاومة التي يفهم الناس البسطاء معانيها، فقد صرح الشاعر في هذا الديوان قائلا في قصيدة بعنوان "عن الشعر": قصائدنا بلا لون بلا طعم000 بلا صوتِ إذا لم تحمل المصباح من بيت لبيتِ وإن لم يفهم "البسطا" معانيها فأولى أن نذريها ونخلدَ نحن... للصمتِ ولذا فمن حق الشاعر صاحب الرسالة والقضية أن يكون واضحا، فعندما تغيب القضايا الكبرى، يفقد الشعر وضوحه، ويصبح همهمات ومتواليات لفظية لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تسد ثغرة في جدار البؤس العربي الممتد من المحيط إلى الخليج. |