ثانياً- العلاقات الإنسانية داخل المجتمع لا ريب أن أهم أسباب نجاح دعوة النبي محمد كان إزالته (ولو مؤقتاً) للعصبيات والعبودية التي كانت مستشرية في الجزيرة العربية، ولعل أبرز انتصار حققه كان عملية المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أبرز "وحدة وطنية" على مدى التاريخ الإسلامي إذا جاز التعبير، ولنلاحظ هنا أن هذه العملية كانت أول ما قام به النبي لدى دخوله المدينة وذلك من خلال وعيه العميق بأن هؤلاء الناس جميعاً والمتحدّرين من قبائل وشعوب مختلفة لا يمكن أن يهزموا عدواً أو يبنوا أمة بغير الوحدة والمساواة التي تعطي للجميع حقوقهم وتحمّل الجميع واجباتهم ومسؤولياتهم. ولنعد إلى القرآن الذي حدد وفي مواضع شتى ملامح العلاقات الاجتماعية الإنسانية بين أفراد المجتمع الواحد، فيأمرهم أولاً بالعدل، العدل في الأحكام وفي معاملة الآخرين بغض النظر عن مراتبهم الاجتماعية أو الاقتصادية :{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} [النساء:135]، ونلاحظ أن الآية توجه جماعة المؤمنين أن يكونوا عدولاً على جميع المستويات فبدأ بأصعبها وهو النفس ثم بالدرجة الأدنى (الوالدين) ثم الأقربين في إشارة إلى نفي العصبية حين التحكيم وقول الحق، فلا يجوز أن ينحاز الإنسان إلى والده أو عمه أو غيرهم من الأقارب لمجرد قرابتهم ويظلم الآخرين (قارن مع المثل الشائع: أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب!)، وتنتقل الآية بعد ذلك إلى المستوى الاقتصادي لتطلب من المؤمن عدم التمييز بين غني أو فقير (نذكّر هنا بالحديث النبوي: "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، فوالله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها") وفي الختام تحذّر الآية من اتباع الهوى الذي يعمي الأبصار ويطمس الحقائق. ويذهب القرآن أبعد من ذلك عندما يطلب من المؤمنين أن لا يعميهم البغض والكره عن العدالة في المعاملة ولعل هذه من أرقى الأخلاق وأصعبها في آن، {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرِمَنّكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} [المائدة:8]. بعد إقرار العدالة كمعيار اجتماعي ننتقل إلى مستوى التعامل اليومي بين أفراد المجتمع لينظم العلاقات بينهم فنبدأ بقضية عدم التدخل في شؤون الآخرين وخاصة على مستوى العقيدة (وهو ما يبدو حلماً صعب المنال هذه الأيام!) وهذا ما تؤكده الآية الكريمة: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبؤكم بما كنتم تعملون} [المائدة:115]. ولعل أحد أهم الأمراض الاجتماعية في زمننا هو التدخل السافر في حياة كل الناس حتى أن المرء ليحسب آلاف الحسابات قبل الإقدام على أي عمل لا خشية من شيء سوى "ألسنة الناس" كما يُعبّر عن ذلك اجتماعياً وهذا في الواقع آفة خطيرة، ويشير القرآن في آية أخرى إلى هذه القضية الهامة: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} [البقرة: 44]، كما ينبّه القرآن في هذا السياق أولئك الذين يميّزون بين الناس حتى على مستوى السلام: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الدنيا فعند الله مغانم كثيرة، كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبيّنوا إن الله كان بما تعملون خبيراً} [النساء: 94]. إن مصطلحات الزندقة والكفر والردة والإلحاد والفسق وغيرها يتبادلها المسلمون فيما بينهم وكأن أهل كل طائفة أو مدرسة أو مذهب هم "الفرقة الناجية"، فهؤلاء لا يجوز الأكل عندهم والآخرون لا يجوز الزواج منهم وفرقة لا تجب صحبتهم وطائفة لا يجوز تشغيلهم وهؤلاء لا يصح توليتهم مناصب معينة إلى آخر ما هنالك من اتهامات ومراشقات يرددها العوام والخواص على حد سواء كالببغاوات، ولا ريب أن علماء أو فقهاء أو منظري (سمّهم ما شئت) كل فرقة يتحمّلون الوزر الأكبر فيما آلت إليه الأمور في المجتمع، فقد كانوا على الدوام يملكون مفاتيح الوحدة كما كانوا يملكون مفتاح الفرقة. على أن أهم الآيات التي تلخّص الأخلاق الاجتماعية على الإطلاق هي تلك الآيات الأربع في سورة الحجرات، والتي لم تكتفِ بالعموميات بل تجاوزت ذلك إلى تسمية الأمور بمسمياتها حتى أن النهي فيها عن بعض الأفعال تجاوز تحريم الخمر وأكل لحم الخنزير، وأنا أرى في هذه الآيات دستوراً اجتماعياً كاملاً يضع الناس أمام مسؤولياتهم ويحد لهم حدوداً يقفون عندها في تعاملاتهم. تقول الآيات: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم تُرحمون* يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون* يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم* يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات: 10-13]. ونظراً لأهمية هذه الآيات فسوف نفصل معانيها لما تستحقه من اهتمام ودراسة. فهي تبدأ بتقرير مبدأ هام قمنا بدراسته في الفقرة الأولى وهو المساواة والآيات تسميه "الأخوة" كمبدأ سامٍ في التعامل بين الناس، وهي تحمّلهم المسؤولية الاجتماعية في القضاء على المشاكل والخلافات بينهم، لتنتقل بنا الآيات بعد ذلك لعرض الأمراض الاجتماعية التي لا تزال سارية حتى اليوم، فهي تنهى الناس عن السخرية من بعضهم بعضاً بل تجاوزت ذلك إلى توجيه الخطاب إلى النساء وكأن القرآن يريد التأكيد على أن الخطاب موجه لكافة أفراد المجتمع، وينبه القرآن إلى حقيقة أن الكثير من الناس موضع السخرية قد يكونوا أفضل ممن يسخر منهم. ولا تقف الآيات هنا بل تنهى الناس عن الطعن وتعيير بعضهم بعضاً كما تنهاهم عن التراشق بالألقاب السيئة والصفات الكريهة والشتائم والسباب وغيرها مما نمارسه يومياً، فبمجرد قيام شخص ما بفعل مستهجن حتى يضحي كل أهل قريته/مدينته/دينه/طائفته عرضة لسيل من الصفات المعدة سلفاً، وهذا ما يثير العجب، فكيف يتم نعت شعب بأكمله بالكذب مثلاً إذا كان مواطن منه كاذباً؟ وهل يخلو شعب من الشعوب من أي صفة حميدة كانت أم سيئة؟ غير أنه يبدو أن كل مجموعة تعتقد في نفسها عصمة الأنبياء وفي غيرها شقاء الأشقياء. وتتابع الآيات في نهي المؤمنين عن الظن وهو بالفعل مأساة كبيرة حيث يستخدم القرآن كلمة "اجتنبوا" وهي بالمناسبة نفس الكلمة التي تم استخدامها لتحريم الخمر "فاجتنبوه" دلالة على تحريم كل ما يمت إلى الظن بصلة، فهي توضح أن الظن إثم وهو جريمة في حق المظنون به، فإذا كان المتهم بريئاً حتى تثبت إدانته في كل القوانين والأعراف الدولية فكيف يقوم البعض بإطلاق الأحكام العشوائية والظنية بحق آخرين جزافاً؟ وبعد النهي عن التجسس وتتبع العورات وإيذاء الناس، تنهى الآيات عن الغيبة حيث تُسمع في المجالس العامة عجائب وغرائب بحق "الآخرين"، وقد عرّف البعض الغيبة بأنها ذكر الآخر بما يكره حتى لو كان فيه فكيف إذا لم يكن فيه؟ ولا عجب أن يشبه القرآن ذلك بأكل لحم الميت لكراهة الغيبة وآثارها المدمرة. وتختم الآيات بالتأكيد على وجود التمايز بين الناس في الجنس والانتماء وهو التمايز الطبيعي الذي تكون نتيجته التعارف والتقارب وتقرر حقيقة هامة وهي ما ذكرناه في الفقرة الأولى "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" بما لا يدع مجالاً لإطلاق أية أحكام أو تهم أو طعن في عقيدة أو إيمان شعب من الشعوب أو كفر جماعة من الجماعات فهذا من اختصاص الرب وحده وهو لم يوكل أحداً للقيام بذلك. ولا ننسى هنا حديث النبي المؤكد للآية المذكورة: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"، ولا يخفى أن النبي ضرب أروع المثل في الترفع عن العصبيات طوال حياته حيث كان مثال التسامح مع الجميع مع اعترافه بالاختلاف معهم في الرأي أحياناً وكان هذا موقفه حتى مع اليهود عندما هاجر إلى المدينة وأعلنهم مواطنين في الدولة الجديدة لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وما قام به تجاههم لاحقاً كان لخروج بعضهم عن العهد المكتوب وليس لكونهم أصحاب دين مختلف. يتبع- الجزء الثالث والأخير التعصب بالأمس واليوم وغداً |