موعد مع عبق التاريخ الجميل.. ( من قبل 2 أعضاء ) قيّم
بدأت الصور تتمشى أمام ذاكرتي المبتلة بالضباب إلى أن حضر، أعد نفسي لاستقباله بما يليق بمكانته الجبل بين أضلع صغيرة في صدري، فقد كان تاريخنا المشترك يهيئ نفسه لننفض عنه غباراً طال مكوثه في ذواكرنا، لقد كان موعدي مع التاريخ حينها، حين ظهيرة دمشقية. خيالاً أو طيف خيال يهتز بذاكرتي ويلحُّ عليها، كان ضعيف البنية قوي العزيمة، قليل اللحم كثير الحب، رقيق البطن عظيم القلب، أبيض البشرة أبيض السريرة. هكذا كان، وهكذا هو.. استمر على هذه الحال كونه لم يُرني نفسه منذ زمن، لم أستطع تغييره أو زحزحة صورته من جدار الذاكرة التي تحتفظ بصورة واحدة لتاريخ من نراهم ونبتعد عنهم، صورة لا تتغير إلا بعد أن نشاهد التغيير، هو ثبات أقوى وأمتن من ثبات المبادئ والقيم في هذا الزمن المتقلب.. هل أمد يدي لأصافحه فقط؟.. أم أعانقه معانقة عائد من حرب لا أدري إن كان انتصر فيها أم لا؟.. أم أضمه ويضمني؟.. هل يمكن أن أمنع نفسي من البكاء لحظتها؟.. هل أضع خدي على كتفه الذي حمل من هموم الدنيا ما حمل خلال سنين لم أر فيها طلته؟.. تتقاذفني موجات الحيرة والترقب، أهرب من أسئلتي، وأهرع لإعداد الضيافة بما يليق قبل أن يدق باب شراييني. وجاء.. يا لحلاوة الذكرى الأليمة، أخ ثان وجد بيننا، عيناه اشتقت إليهما شوقي لصديقه.. أغرق في تجاعيد وجهه التي بدأت تغزوه، كنت أترقب وصوله إلى بيتنا بين كل حين ليلعب مع أخي الشطرنج، ويشربان الشاي تحت شجرة الرمان الكبيرة في الصيف، وداخل الغرفة التي تسلم على حارتنا الشعبية بنافذة صغيرة في الشتاء. أحبك يا أبا هاشم حبي لأخي، وأنت تحبني حبك له أيضاً، حتى أنني غفرت لك طول غيابك بعد ذلك اليوم الموجع، فقد أدركت أن ثمة حزناً لن تكفيه مساحيق الدنيا لتخفيه، غفرت لك عن عدم قدرتك على زيارتنا، عن عدم استطاعتك دخول بيتنا بعد أن رحل زهرة بيتنا. ها أنت ذا.. عدت إلى بطن التاريخ لتجلس في رحم الصداقة القديمة.. جلسنا في ذات الغرفة التي كنت تجلس فيها حين كنت في ريعان البهجة، مع أن الأثاث قد تغير إلا أن رائحة التاريخ أجزم أنك ما زلت تشمها بين الجدران الأربعة.. تنظر بإرهاق إلى تلك النافذة الصغيرة التي كنت تدق عليها عندما تحضر بدلاً من أن تدق باب الدار. سقى الله أيام زمان بأمطار الذكريات الجميلة.. كم عدد السنين التي وطئت جسدك النحيل منذ ذلك اليوم الذي تركت فيه الحارة؟.. وكم حصدت من شوك حين اخترت غول الغربة هارباً من غول الوطن، ومنذ ذلك اليوم الذي قررت فيه أن تذهب ليس بعيداً عن حبيبك حي الميدان فقط بل بعيداً عن البلد بأكمله؟. عشر سنين، خمس عشرة، عشرون، نعم عشرون سنة أو تزيد، مضت واحدة بعد أخرى كما تمضي أعمارنا جميعاًً. انسلت من عمرك وعمري حين كنا نمشي في زحمة الزمن. كنت هنا ذات عمر بهيج.. كنت هنا شاباً ممتلئاً عنفواناً ورفضاً وكبرياء.. كنت هنا تملأ ضحكاتك المكان والزمان، وتملأ المناخَ حضوراً وبهجة.. جلسنا جلسة ربيعية، مع أنها في منتصف الصيف، هي نفسها نبرة الصوت، هو نفسه بريق العينين، هي نفسها ضحكتك السكرية التي أخذتني إلى الشمس.. في مكان واحد.. وزمان مختلف. |