اعتياد الطاعة بالترهيب ( من قبل 5 أعضاء ) قيّم
تحياتي إلى الإخوة الأحباب دون ذكر الألقاب : أحمد عزو ، أبي بشار ، محمد هشام ، عمر خلوف ؛ شاكرا لهم مشاركاتهم الشائقة ، وتحياتي أيضا إلى كل من ينوي المشاركة من الإخوة الأكارم والأخوات الكريمات ، أو يرقبنا ويطالع مشاركاتنا من وراء ستار ، من أهل الوراق وسراته ومرتاديه ، ترافقها تحية إكبار إلى أستاذنا زهير ظاظا وفقه الله . من ذكرى الطفولة اعتياد الطاعة بالترهيب : ذكريات شيخنا أبي بشار ذكرتني بـ (الكُـتاب) الذي مكثت فيه ما يقرب من سنتين بعد أن ألحقني والدي به وانا في الخامسة أو أقل قليلا ؛ جنبا إلى جنب مع تلاميذ من مختلف أعمار الطفولة ، وكان ذلك سنة أربع وخمسين وتسعماية وألف ، وها هي بعض ذكريات بداية طفولتي مع الكُتاب : لما رأيت شيخ الكُتاب (الشيخ ياسين) أول مرة رأيته كبير السن ضخم الجثة طويل القامة ، يرتدي زي الشيوخ من أهل الدين. ولأن أحاديث من هم أكبر مني عمرا ممن التحقوا بالكتاب من قبلي شكوا من سوء ما يلاقون من معاملة ، زادت الرهبة من الشيخ في نفسي حين جمعت بين ضخامة جسمه وما سمعته من سوء المعاملة ؛ ولكن الشيخ لم يضرب ولم يوبخ أحدا في ذلك اليوم الذي كان أول أيامي في الكتاب ، بل إنه أحسن معاملة الأطفال ، واجتهد في تعليمهم قراءة سورة الفاتحة طوال ساعة من الزمن؛ فاستغربت ما كنت سمعته عنه ؛ ولكني بقيت مرتابا في أمره . في اليوم التالي تفاجأت بأن الشيخ لم يحضر ، وقد حضر بدلا منه شاب يرتدي بذلة ويعتمر حطة وعقالا فسألت أحد التلاميذ عنه ممن أُلحقوا بالكتاب قبلي ، فقال : هذا هو الأستاذ صبحي ابن الشيخ ياسين ، أبوه يعلمنا تلاوة القرءان ، وهو يعلمنا القراءة والحساب .. وبدأت مع حضور الأستاذ صبحي أيام الإرهاب... حين اكتشفت أن مجموعة من التلاميذ شكلها الأستاذ صبحي وسماها " الزبانية " . ولم أكن يومها أعرف معنى الزبانية أكثر من أنها تحتمل أن تكون قريبة من معنى زبيب العنب أو ، وهذا ما كنت أخشاه ، ان تكون ذات صلة وثيقة بزبانة الدّبور أو زبانة النحلة على الأقل ، وهذا ما تبين لي بعد بضعة أيام... لقد تبين لي أن الزبانية ( وهم أكبر تلاميذ الكُتاب عمرا وأشدهم قوة)عليهم أن يتعقبوا كل من يغيب عن الكتاب ، ويحضروه إلى الأستاذ صبحي ليشبعه ضربا على قفاه من أسفل ، أو يطعمه فلقة أو علقة كما كانت تسمى ، وذلك بضرب راحتي قدميه بعصا رفيعة . والأمر الذي لم أكن أتوقعه أو حتى أتخيله هو أن يجعلني الأستاذ صبحي بعد مدة واحدا من أولئك الزبانية الغلاظ الشداد على الرغم من كوني أبعد ما أكون عن الغلظة والشدة ، وأبعد ما أكون عن التسلط والرغبة في عقاب غيري ، وكان يكفيني أن أكون مجتهدا في دروسي ، بل إنني كنت أحزن أشد الحزن مما يقوم به الأستاذ من عقاب صارم ؛ ولكن الأستاذ ، على ما أظن الآن ، رأى في التزامي الطاعة والهدوء والبعد عن الشغب والتزام الحضور اليومي ، وفي معرفته والدي ، وفي تفوقي في القراءة والكتابة ، وفي نجاحي في تمثيل دور الذئب او الثعلب الذي كان يتظاهر بالعمى وهو ينشد : ضيف اعمى في ناديكم = يرجو النعمى من أيديكم ، رأى في كل ذلك سببا للتفضل علي وتكريمي ، وذلك بجعلي من أفراد زبانيته المكرمين . ومرت شهور لم يكن يهمني فيها ما يفعله البق وأصناف الحشرات في بدني ، وما تتركه ساعات العقاب من ألم في نفسي ، وما ينتج عن مكوثي جالسا على لوح من الخشب الخشن، أكثر من مشاركتي الزبانية ولو مشاركة غير جوهرية ، وأكثر من غياب رفيقي الذي كان يجلس إلى جانبي منذ بداية التحاقي بالكتاب . غاب رفيقي الذي أحببته كثيرا ؛ أحببت فيه طيبته وهدوءه وخلقه الحسن ؛ إضافة إلى جمال محياه الذي لم أكن أمل من النظر إليه : شعره أشقر ، وعيناه زرقاوان ، وبشرته لونها لون الزهور البيضاء المختلط بصفار خفيف وحمرة أخف . لم يتحرك الزبانية لجلب رفيقي الذي غاب ، ولم تبدر من الأستاذ صبحي أية بادرة تنبيء عن سبب غياب محمد وقد مضى على غيابه أكثر من عشرة أيام . وطال الغياب ، ثم علمت من والدتي أن محمدا لن يعود إلى الحياة الدنيا . لم يكن صفار محيا محمد إلا علامة على مرض عضال جعله الله سببا لاختياره إياه إلى جواره ، ونعم الجوار! في السنة الثانية من الالتحاق بالكتاب عانيت أكثر وأكثر : غياب محمد ، والعقاب المستمر ، وكوني من الزبانية دون رغبة مني . ولم يكن عنائي يخف إلا مرة أو مرتين كل أسبوع حين كان يحضر الشيخ ياسين من اجل تعليمنا تلاوة القرءان ، ويغيب ابنه الأستاذ صبحي.. وفي يوم كنت اقترب من نهاية السنة الثانية في الكتاب ؛ آملا بالخلاص منه ومن صاحبه ، وبالالتحاق بالمدرسة الابتدائية الرسمية ، فإذا عقاب الأستاذ صبحي يحل بأحد التلاميذ بشكل لم يكن ليخطر لهم على بال ...وإليكم ما حدث : فر ذلك التلميذ من بين يدي الأستاذ بعد أن أشبعه الأستاذ ضربا . ولما فر ، صاح الأستاذ بنا نحن الزبانية ، أن احضروه حالاً بالاً ؛ فهرعنا مسرعين راكضين وراء التلميذ الفار مسافة لا تقل عن كيلو متر بين الأشواك والأشجار والصخور ، وكان أكثرنا حفاة الأقدام ، حتى أدركناه ؛ فجره ثلاثة أو أربعة منا جرا حتى قدمنا به على صبحي ، الذي ما إن امسك به حتى صاح : اجلبوا الحجارة ، وصفوها كهيئة القبر ثم ادفنوه فيه حيا.. صارت رجلاي ترتجفان ودموعي تتساقط بغزارة ، ونظرت صوب جمع التلاميذ فإذا بهم بين باك ومرتعد ، وهالع هلعا شديدا.. أما الطفل الذي أمسك به صبحي فلا تسألوا عن حاله ، ولن تتخيلوها كيف كانت وقد حل بها ذلك البلاء العظيم .. لقد كاد يهلك رعبا . ومع خوفي وارتعاد مفاصلي وارتجاف فكي لم أغفل عن تخيل منكر ونكير وهما يتأهبان لسؤال من يموت وبأيديهما الدبسيات ( العصي ذوات الرؤوس الكروية) الغليظة .. هكذا كنا نعلم أمر الملكين المذكورين ، فقد كان أهلونا يرهبوننا بذكرهما إن لم نداوم على الصلاة ، التي كثيرا ما كنا نهملها في خفية عن عيون الآباء والأمهات . ويكتمل بناء الحجارة على شكل مستطيل مساحته تتسع لجسم الطفل وزيادة ، وعندها يلقي صبحي بالطفل على أرضية القبر، والطفل يصرخ صراخا عاليا حتى تكاد أنفاسه تنقطع ، ويفحص برجليه الأرض يحاول الفرار ؛ ولكن أنى له الفرار ويداه مقيدتان بكفي صبحي القويتان!! ويصرخ صبحي بالتلميذ المسكين : هل تتوب أم أكمل دفنك حيا ؟ ويجيب التلميذ صارخا ودموعه تهطل كما يهطل الغمام المدرار : بتوووب! ، بتووووب! ، بتوب يا سيدي ، بتوب !.. هذه الحادثة التي ملأتني وملأت كل أترابي في الكتاب رعبا ، كان لها أثر في تكويني الفكري فيما بعد .. أثر ربما لم يقصد الأستاذ صبحي إلى تحقيقه لدي أو لدى غيري من تلاميذه.. ولكنه اثر أراه الآن محمودا . فهو ما جعلني أرفض طريقة العقاب بهذا الأسلوب المروع رفضا قاطعا تجاه الأجيال اللاحقة ، وان احترم إنسانية الإنسان ، بل واحترم كل ما خلق الله وأبدع . غفر الله لك يا أستاذ صبحي ، وأرجو أن لا تكون تعاملت مع أبنائك بهذه القسوة . أما تعليمك إيانا القراءة والحساب فقد أفادنا وأفادك ؛ نحن تعلمنا ، وأنت اتخذت على التعليم أجرا . كان اليوم الذي أنقذني فيه والدي من الكتاب أسعد أيام طفولتي وأنا في ذلك العمر الصغير.. قال لي : لا تذهب يا بني إلى الشيخ صبحي بعد الآن ، فبشرتك مليئة بقرصات البق ، وأخشى أن يصيبك المرض ، كما أن أيام الدراسة في المدرسة الرسمية باتت تقترب . ويحضر الزبانية في يوم الإنقاذ ليعيدوني إلى الكُتاب قسرا ؛ ولكنني بادرتهم ، أنا وطفل من جيراننا ، بالحجارة نقذفها نحوهم قذفا ، وأنا مسرور بأن غيابي سببه والدي . رحمك الله يا والدي وغفر لك وبارك في حسناتك . خشيت علي من البق وحق لك أن تخشى ؛ ولكنك لم تكن تعلم ما كنت أعانيه ، فلم أخبرك به طوال حياتك خشية أن أسبب لك أي إزعاج . لقد كانت معاناة يظنها الكثير من الأهالي في صالح أطفالهم ، وهي لم تكن كذلك دون ريب . دمتم بخير ، ودامت مشاركاتكم الحافلة بالعبر . |