وأعني بالشعر الفج الشعر الذي يذهب في لحظة واحدة إلى الموضوع مباشرة، يفقد بغتة رغبته بالمواربة و المناورة و يقول الأشياء كما هي بعبارات "غير شعرية" و رغم هذا أو بسبب هذا يظل شعراً أو هو يتألق تحديداً لأنه هكذا أنه يقول: لا مناص من أن نسمي الأشياء بأسمائها ثمة الشعرية "الفجة" التي لسعدي يوسف؛ فهو حين يريد أن يكتب عن العراق الآن، لا يتردد أن يكتب عنوانا لقصيدة له: "الخونة" والتي تبتدء هكذا:
تحت سماء ذات نجوم
أحصاها لورنس العرب ، الليلة، واحدة واحدة ، حتى نام
...
ثم بعد بضعة أبيات من نفس القصيدة يقول:
فكر لورنس ( الجاسوس يفكر حتى في الحلم )
سأستدعي فجراً عملائي السبعة
أعمدة الحكمة ( فيما بعد )
و هكذا يكون حدثنا عن "خونة" و "جواسيس" و "عملاء" ( في إسقاط مباشر لعملاء لورنس على عملاء اليوم في العراق ) فيما عادة كلمات كهذه يتميز من "فجاجتها" النقاد، و يقلبون الشفاه ...
و لقد أهدر حبر كثير في تقريع الأيديولوجيا و الخطابة السياسية و النعوت السياسية في القصيدة، لدرجة أن أنك ستحسب أن كلمات من هذا النوع ستدمر القصيدة و تفسد الشعر وستحسب ربما أن على الشعر ألا يتحدث إلا عن الفراشات والأزهار، أو عن عزلة الكائن، والكنـزة المرمية على الكنبة ...
وأن على الشعر أن "يدوّر" الأشياء حتى تغدو رخوة و "حالمة"و "جميلة " و بدون زوايا.. وكليلة...
ثمة الشعرية أيضاً "الفجة" التي للأمريكي "آلان غينسبرغ" ، كثيرون لا بد سمعوا بأبياته الشهيرة التي فيها: " أمريكا اذهبي ضاجعي نفسك بقنبلتك الذرية "
أكيد أنني لا أعني أن على الشعر أن يتحدث بالضرورة في السياسة و أكيد أنني لا أعني أن على الشعر أن يحمل على عاتقه " القضايا "(الخطابية عادةً)، الكبرى منها.. أو الصغرى، و ربما أعيد أن الشعر هو شعر في ذاته كما هو الفن عموماً ، إلا أنني أستغرب أن كثيرين يرضخون للأبواق التي تردد، بدون أن يسأم نافخوا الأبواق من طول نفخهم، أن على الشعر أن لا يقول شيئا ما سياسياً أو أيديولوجياً (هذه الكلمة الأخيرة يحبونها كثيراً، ولا يملون من ترديدها ) و كأن الشعر طليق في كل شيء إلا أن يتحدث في السياسة.. و كأنه " تابو" آخر ينصّبه هؤلاء فيما يؤكدون (ولكن في مكان آخر) أن الشعر ينحو لتفكيك التابوات جميعها من كافة الأصناف و العيارات.. إلا هذا.. يبدو ..
و ثمة شعر سياسي رديء أيضاً، أكثره رديء، لا لأن السياسة شابته و لكن لأنه ليس شعراً بالأساس، الكيمياء التي تصنع الشعر نفسه هي ذاتها التي تبقي قصيدة " سياسية " شعراً فيما تجعل غيرها لغواً و خطاباً رديئاَ، أما في كيف يحدث هذا فلا أعرف...، ربما النقاد يعرفون، أو أنه شيء غامض غموض الشعر نفسه، الكائن الأشد غموضاً في العالم
هذه قصيدة سعدي يوسف كلها :
الخونة
تحت سماء ذات نجوم أحصاها لورنس العرب، الليلة، واحدة واحدة، حتى نام
على بضع زرابي، وُضعتواحدة فوق الأخرى
(تعرف أن الرمل تقيم به حيات وعقارب ...)
أبحر لورنس،عميقاً، في الحلم:
وكان قطار عثماني / ألماني يهدر بين اسطنبول ومكة
كانقطار عثماني / ألماني يهدر، فعلاً، بين اسطنبول ومكة...
وفكّر لورنس (الجاسوس يفكر حتى في الحلم ) :
سأستدعي فجراً، عملائي السبعةَ
أعمدةَ الحكمة (في مابعد)
وسوف أقول لهم:
ستكون دمشق لكم، أو بغدادُ
علينا ان نقطع تلكالسكة بين اسطنبول ومكة...
..........
..........
..........
واليوم
وفي آخر شهر شباط
من القرن الواحد والعشرين
يقلّب لورنس،البصر..
الصحراء هي الصحراء
وأعمدة الحكمة ما زالوا السبعة
والسكة مثقلة بالألغام