" أهل مكة أدرى.." ( من قبل 4 أعضاء ) قيّم
المذهب المالكي بالمغرب بين الإهمال والاستغلال -أحمد الريسوني- مما لا نزاع فيه ولاشك، أن المذهب المالكي هو أحد الأركان الكبرى التي قام عليها الكيان المغربي، وإحدى السمات البارزة للمغرب منذ ما يزيد عن عشرة قرون، وما فتئ علماء المغرب وملوكه وزعماؤه يشهدون ويؤكدون أن المغرب مدين في وحدته وتماسكه وانسجامه واستقراره إلى المذهب المالكي، وأن وحدته المذهبية هذه أعطته قوة وصلابة وتميزا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، قلما حظي به قطر إسلامي آخر. لقد وحد المذهب المالكي في المغرب العلماء فيما بينهم، ووحد العلماء والأمراء، ووحد العامة والخاصة، بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم. فقد دمج بين المحدِّثين والمتكلمين، وبين الأشاعرة والسلفيين، واستوعب الصوفية بكافة طرقهم ومسالكهم. واستوعب خصوم الأشعرية والتصوف أيضا، فهؤلاء جميعا عرفهم تاريخ المغرب، فاختلفوا وتنافسوا، وربما تصارعوا وتعاركوا، ولكنهم جميعا كانوا مالكية، ويسلمون للمذهب المالكي، حتى صارت "الوطنية المغربية" هي "المذهب المالكي". ويظن بعض الناس أن قوة المذهب المالكي وهيمنته بالمغرب، إنما تحققت بفضل ترسيمه ونصرته من بعض الدول الحاكمة التي اعتمدته مذهبا رسميا في التدريس والقضاء والإفتاء. ولا شك أن شيئا من هذا صحيح، ولكن الصحيح الأصح هو أن للمذهب المالكي أهليته وقوته الذاتية، وله علماؤه وفقهاؤه الذين استماتوا ـ وأحيانا ماتوا ـ دفاعا عنه ودفاعا عن حق المغاربة في التمسك به والتوحد حوله. إن قوة المذهب المالكي الحقيقية إنما ترجع إلى قدرته على الاجتهاد والتجدد، من خلال أصوله وقواعده التي تجعله أقدر المذاهب على استيعاب التطورات والمستجدات، كما ترجع إلى ريادته في الأخذ بمقاصد الشريعة المستمدة من نصوصها، إذ لا مقاصد بلا نصوص. كما لا نصوص بلا مقاصد. وإذا كانت بعض الدول قد خدمت المذهب المالكي بتبنيها له ودفاعها عنه، فإنها لا شك قد استفادت منه ومن قوته ومن علمائه أكثر مما أفادته. على أن من أعظم تجليات القوة الذاتية للمذهب المالكي والرسوخ الذاتي له بالمغرب ـ وبالغرب الإسلامي عامة ـ هو تلك الحملات الشرسة التي استهدفته وحاولت استئصاله. وأخبثها وأشدها ما قامت به الدولة العبيدية (المتشيعة) التي قامت في مصر، ثم امتد نفوذها وشرها إلى بقية أقطار شمال إفريقية، بما فيها المغرب. وقد أصيب فقهاء المذهب المالكي على يد العبيديين وأعوانهم بشتى صنوف الضغط والقمع والترهيب؛ من سجن وقتل وتعذيب وتهديد... فصمدوا وتحملوا، حتي ذهب العبيديون، وبقي المذهب المالكي قويا راسخا. وفي المغرب خاصة ـ حاول الموحدون ـ وهم في أوج قوتهم وشعبيتهم ـ إقصاء المذهب المالكي والقضاء عليه ومحوه من المغرب. وقد قام ملوك الموحدين الأوائل بضغوط وحملات شديدة ضد المذهب المالكي وفقهائه، فهددوا وعذبوا وسجنوا وقتلوا، وزادوا فأحرقوا قناطير مقنطرة من كتب الفقه المالكي، ثم في النهاية انتصر المذهب واستسلمت الدولة الموحدية أمامه. ومن اللحظات التاريخية الشهيرة في حرب الموحدين ضد المذهب المالكي، ما رواه المؤرخون عن الفقيه المالكي أبي بكر بن الجد، قال: "لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب أول دخلة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس (في الفقه المالكي)، فقال لي: يا أبا بكر أنا أنظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله، أرأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال أو أكثر من هذا، فأي هذه الأقوال هو الحق؟ وأيها يجب أن يأخذ به المقلد؟ فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك، فقال لي ـ وقطع كلامي ـ: يا أبا بكر، ليس إلا هذا، وأشار إلى المصحف، أو هذا، وأشار إلى كتاب سنن أبي داود، أو السيف". (انظر كتاب: العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين، للعلامة المرحوم محمد المنوني). وإذا كان خصوم المذهب المالكي من الموحدين قد حاولوا أن يفرضوا على العلماء التخلي عن المذهب وفقهه والاقتصار على ظاهر القرآن والسنة، وإلا فالسيف" هذا، أو هذا، أو السيف"، فإن للمذهب المالكي وللفقه المالكي ـ والفقه الإسلامي عامة ـ اليوم خصوم لا هم من الموحدين، ولا هم يعترفون أصلا بالكتاب ولا بالسنة. وإذا كان الخليفة الموحدي قد خير الفقهاء بين "هذا، أو هذا، أو السيف" فإن الخصوم من غير الموحدين اليوم يقولون للفقهاء: "لا هذا ولا هذا، وإنما هو السيف"، سيف العلمانية، وسيف "المواثيق المزعومة"، والحداثة الموهومة، وسيف الاستئساد بالضغوط والتدخلات الأجنبية. عن هؤلاء "المغاربة الأجانب" يقول العلامة الأستاذ علال الفاسي رحمه الله: "فقد أصبح هؤلاء يعتقدون في القاضي الأجنبي والقانون الأجنبي واللسان الأجنبي، أكثر مما يعتقدون في أنفسهم وفي مقدساتهم، زيادة على ما أصبح يربط بعضهم مع الأجانب من رباط مادي ومصلحة شخصية، لا يبالون أن يقفوا من أجلها في صف الدفاع عن مخلفات الاستعمار" (دفاع عن الشريعة ص 23). ................................................ ............................................ |