كلمة بليغة في المخطوطات كثيرٌ من المستشرقين أمضَوا أعمارَهم، وصرفوا أوقاتَهم في دراسة علوم المسلمين، وأخرجوا كثيرًا من تراثهم المخطوط، وكثيرٌ منهم لم يؤمنوا مع علمهم بالحق نعوذ بالله تعالى من الخذلان. وقليل منهم قادهم ما عرفوا من الحق إلى الإسلام، فكان دخولهم ميدانَ الاستشراق، وتخصصهم في علوم المسلمين، واستخراج تراثهم سببَ هدايتِهم {وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} البقرة 213 وأخيراً: علينا أن ندرك أنّ المخطوط أشبه بالكائن الحيّ، فيعتريه ما يعتري الكائنات من حرق وغرق وتآكل وانطماس وفقدان وشيخوخة وبلل ومرض وغير ذلك من عوامل لا تخفى، وقد قال أبو سعد ابن دست رحمه الله في ذلك شعرا: عليك بالحفظ دون الجمع في كتب * فإنّ للكتب آفاتٍ تفرّقــها النّار تحرقـها والمـاء يغرقـــها* والفار يخرقها واللّصّ يسرقها لذا كان إصلاح ما وهى منه عمل شريف له قواعده وضوابطه، وقد كان مؤلّفو هذه الكتب يهدفون إلى تخليد ذكراهم للأجيال القادمة، ويأملون ثواب ربّ العالمين، ويبذلون قصارى جهدهم لتجاوز ما قد يعيقهم عن تحقيق أملهم في ذلك؛ فهذا أبو عبد الله الحسين بن أحمد البيهقي ت 536 هـ، يذكر السّمعاني في كتابه «التّحبير» أنّه لحقته علّة الدّم فقطعت أصابعه العشر ولم يبق له إلاّ الكفّان فحسب، ومع هذا كان يأخذ القلم بكفّيه ويضع الكاغد على الأرض ويمسكه برجل ويكتب بكفّيه خطّاً حسناً مقروءاً مبيناً. وقد وصلتنا هذه المخطوطات من أعماق زمنية سحيقة تطول وتقصر، وقد تلقّيناها في حاضرنا باعتبارين: الأوّل: كونها نصّاً معرفياً كتبه مؤلّف هو الآن في عداد الموتى، وللموتى حقوق في الإسلام، فلنعتبر أثر هذا العالم وإخراجه بوجه يليق بمقامه العلميّ حقّاً من حقوقه علينا. الثّاني: كونها أثراً ماديّاً قطع رحلة زمنية طويلة عبر الزّمن، ومن حقّه علينا ترميمه وصيانته ليعيش عمراً آخر، ويخلّد اسم مؤلّفه وأختم هذه الإطلالة بكلمة لعالم نسخ كتاباً بعد أن كاد يبلى من القدم، وفيه تتجلّى عاطفة العالم الصّادق الذي يهدف من إعادة نسخ الكتب إحياءها نظراً لقيمتها العلميّة، وفيه درس لمن استسهلوا إعادة طباعة الكتب ولو نشرت من قبل وهمّهم الوحيد الجشع الماديّ فقط. قال رحمه الله تعالى: " قد وقفتُ على بعض عبارات من هذا الكتاب في حواشي «جمع الجوامع»، فإذا هي كالشّهد المستطاب، ولهذا كانت أشواقي تهيج لرؤيته، ونواظري مترقّبة لبهيّ طلعته، حتّى عثرت عليه في المدرسة المتبوليّة، بدمياط المحميّة، فأدركتُه وهو من الحياة على آخر رمق، تمزّقت أوصاله، وكاد يموت في جلده هذا الورق، وجدتُّه في المكتبة البدرية، وهو يئنّ ويصرخ لما حلّ به من الرزيّة، رأسه عند رجليه، ورجلاه عند عينيه؛ لأنّه ليس معقّباً ولا منمّراً، بل مشتّتاً مبعثراً، فأخذته وأغثته وجعلته في حضانتي، ووضعته في كفالتي، وشرعت أعالجه، وباللّطف أمازجه، متأنّياً بلا ملل، حتّى زال معظم الخطر والخلل، ووضعت كلّ عضو منه في موضعه، فاستراح نوماً ولم يتجاف عن مضجعه، وأنفقتُ في إصلاحه سنتين، حتّى صار قرير العين، وعززت نسخته الأصليّة، فنقلت منها بخطّي نسخة ثانية سنيّة، وقلت للأصل: سنشدّ عضدك بأخيك، ومع بذلي المجهود في هذا المقصود، لم يعد جسم هذا الكتاب على مقدار أصله المستطاب، بل ضاعت منه أوراق لم نكن بها نلتقي، والحمد لله على هذا الذي بقي، فإنّي لم أجد له في القطر المصري أثراً ولا خبراً، لا في الدّيار ولا عند الأحبار ... جزى الله مؤلّفه خير الجزاء، ووالى عليه سحائب رحمته الفيحاء آمين". |