(نَزْرَعُ وَنَدْرُسُ لِبُطْرُس). ... بَعْدَمَا سَقَطَ النَّبُّوتُ مِنْ يَدِ أبي نَبُوتٍ ( الَّذِي ضُرِبَ بالمِذْرَاة والشَّلُّّوت ) ، سَرَعَانَ مَا تَلَقَفَهُ الشَّيْخُ محمَّدٌ ، حِينَمَا التَفَّ حَوْلَهُ أهْلُ قَرْيَتِهِ ، فَصَارَ يمشِي مُتَبَاهِيَا بِنَبُّوتِ الزَّعَامَةِ وَصَوْلجانِ الفَخَارِ، وبِعَبَاءَتِهِ السَّوْداءَ وَعَمَامَتِهِ البَيْضَاءَ التي يَتَوَسَطُهَا طربوشٌ أحْمَرُ وَهْوَ يَتَفَقَّدُ عَسَاكِرَهُ وَحَرَّاسَهُ ، الَّذيْنَ سَلَّحَهُمْ بالبَنَادِق العُثْمَانيَّة الصُّنع لا النَّبَبابِيت الخشبيَّة ، و سَلْمَانُ ـ الذي ضَرَبَ أبا نَبُّوت ـ قَائدُهُمْ ،كُلُّ صَبَاحٍ يَتَفَقَّدُهُمْ ، وَيُشْرِفُ عَلَى تَدْرِيبِهِمْ ، الشَّيْخ وَفَّرَ الأَمْنَ والآمان لقريتهِ والقرى المجاورة ، فصار يُعَاقِبُ الْمُجْرِمَ ، ويُحِلُّ المنازعات ، وصارتْ القُرَى الْجَبَلِّيَةُ الأخرى تَخْضَعُ له قَرْيَةً تلْوَ الأُخْرَى ، فاتسع نفوذُهُ حتى صار يُوْصَفُ بـِ (شَيْخ الْجَبَل) ، بَني وعَمَّر، عَمَلَ الأَسْوَاقَ وَشَقَّ الطُّرُقَ ، وَحَفَرَ الآبَارَ وَبَنَى الجُسُورَ ، وَصَارَ يُولِّي عَلَى كُلِّ قَرْيَة عُمْدَةً مِنْ أَهْلِهَا ، أَمَّا الْخَفَر وَشَيْخ الْخَفَر هُم مِنْ رِجَالِهَا ، ، لِيُحَافِظُوا عََلى الممْتَلَكَاتِ وَلِيَسْهَرُوا عَلَى المصَالح ، وَصَارَ يَأْخُذُ مِنْ الفَلاَّحِينَ نِسْبَةً ضَئِيلَةً مِنْ مَحَاصِيلِهِم السّنَوية مِنْ بُرٍّ وَشَعِيرٍ يوزعها على الخفر والْحُرَّاس ، فَيَدْفَعُ الْفَلاَّحُون لَهُ ذَلِكَ عَنْ طِيبِ خَاطِرٍ وَهُمْ رَاضُونَ ، وَبِمَا يَقُومُ بِهِ هُمْ مُقْتَنِعُونَ.. كَانَتْ بجانبِهِ دًوْلَةٌ جَارَةٌ تُدْعَى "الدَّوْلَة السُّلْطَانِية" ترْقُبُ بِمَا يَحْدُثُ فِي الْجَبَلِ عَنْ كَثَبٍ ، وَمَا يَقُومُ بِهِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ ، فَلَمْ يُعْجِبْهَا الْحَالُ ، وَلَمْ يَرُقْ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْفِعَالِ الْبَالُ ؛ يُخَيَّلُ لَهُمْ إنّ الشَّيْخَ محمداً يُرِيدُ أنْ يُؤَسِسَ "الدَّوْلَةَ الْجَبَلِيَّةَ".. فَجَهَّزَتْ "الدَّولة السُّلْطَانِية" حَمْلتَهَا العَسْكَريَّةَ بِقِيادَةِ (آغَا الجيْشِ) ، وَتَقَدَّمَتْ صَوْبَ الجبَلِ مُبَاشَرَةً تًارِكَةً مَنْطِقَةَ السَّاحِلَ، فَتَصَدَّى لها الشَّيْخُ محمَّدٌ بِرِجَالِهِ وَفَلاّحي القُرَى ، وَهَزَمَ جَيْشَ الآغا شرّ هزيمة .. "زَغْرِدِي يَا زْلِيخَة وَغَنِّي يَا هْلالَة ، الْفِرْحَة تَمَّتْ والنَّصْر جَانَا" ما أحْلَى النَّصْر ، قالها سَعْدٌ وَيُوسُفُ وُجَبْرٌ ، وَرَدَّدَهَا سَالِمٌ وَخَالِدٌ وَعَمْرُو ... فازدادتْ "السُّلطانيةُ" حُنقاً وغيظاً ، وَلامَ السُّلْطَانُ (آغَا الْجَيْشِ) عَلَى سُوءِِ تصرُّفِهِ ،وقُبْحِ فِعَالِهِ ، بِقُدُومِهِ مِنْ جِهَةِ الْجَبَلِ واعْتَبَرَ هَذَا مِنْ سُوءِ التَّدْبيرِ وَعَدَمِ الحِنْكَةِ ، كما أَمَرَهُ أَلاَّ يأخْذُ الْبِلادَ والعِبَادَ بِسُخُونَةِ صَدْرِهِ بَلْ بِأَهْلِهَا .. قَامَتْ "الدُّوْلَةُ السُّلْطَانِيَّةُ" بـِ "الحَمْلَةِ الثَّانِيَةِ" بَقِيادَةِ "آغَا الجيْشِ" نَفْسِهِ ولكنَّ هذه المرّة سَلَكَتْ الطَّريقَ السَّاحِليَّ ، حَيْثُ المدِنِ وَالقُرَى الهَادِئةِ الجَاثمَةِ عَلَى الثُّغُورِ ، مَدْعُومَة بإسْطُولِها البَحْريِّ وبالخيَّالةِ والْمُشَاةِ ، وأثناءَ سَيْرِهَا اسْتَمَالَ القَائِدُ السُّكَانَ فَسَاعَدُوه وَنَصَرُوه ، فَعَقَرَ جيْشَ الشيخِ مِنْ مَأْمَنِهِ ، لأنَّهُ يَعْرِفُ إنَّ مُدنَ وقرى السَّاحِلِ طَريقُهَا طَويلٌ ، وَتُقَاوِمُ الغُزَاةَ ، وَتَصُدُّ المعْتَدينَ .. فأخْضَعَ "آغا الجيش" في هَذِهِ الحمْلَةِ السَّاحِلَ بأكْمَلِهِ ودخلَ الجبَلَ مُنْتَصِرَاً وَهَزَمَ عَسَاكِرَ (شَيْخِ الجبَلِ) هَزِيمَةً مُرَّةً ... وأَصْدَرَ "الآغا" وقْتَئِذٍ مَرْسُومَاً بإلْقَاءِ القَبْضِ على شيخِ الجبلِ وأعوانِهِ من أهلِهِ وذويِهِ وإعدامهم في السَّاحَةِ العامَةِ للقرْيَهِ ليكونوا عبرةً لمنْ لا يعْتَبِر .. "ابْكِ ياَ هْلالةُ وانْدُبِي يا زْلِيخَةُ ، مَا أَبْشَع الذُلِّ... وقَهْر الهزيمَةِ !!!" ما أمَرّ الهزيمة !!!، قالتها ليلى وسارة وسليمة ، ورددتها خديجة وسلمى وفطيمة .... للشيخِ محمدٍ من أمه وأبيه أخوان ، سانداه في ردعِ العدوانِ ، لكنّهما ـ ولسوء حظيهما ـ وقعا في قبضة جيش السلطانِ ، فأُعْدِما شنقا في ساحة الميدانِ ، فانخلع من رهبة الموت الجنانُ ، منظرٌ مهيبٌ رهيبٌ ، طارتْ منه عقولُ الْوِلْدَانِ ، خارتْ أمامه أفئدةُ الشُّجَعانِ ، وبعد يومٍ من الموتِ أخذتْ تدورُ حولَ جثمانيهما الكلابُ والذئابُ والغربانُ ، فالبَطْنُ مَبْقُورٌ والأمْعَاءُ أشْلاءُ ، والرَّأسُ مَبْتُورٌ والأطْرافُ فيها أذيّةٌ، صورةٌ فظيعةٌ لم يتحملْهَا عقلُ البشريَّةِ .... |