البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الرواية والقصة

 موضوع النقاش : (نَزْرَعُ وَنَدْرُسُ لِبُطْرُس).    كن أول من يقيّم
 ابو هشام 
15 - أبريل - 2009
(نَزْرَعُ وَنَدْرُسُ لِبُطْرُس).
   ... بَعْدَمَا سَقَطَ النَّبُّوتُ مِنْ يَدِ أبي نَبُوتٍ ( الَّذِي ضُرِبَ بالمِذْرَاة والشَّلُّّوت ) ، سَرَعَانَ مَا تَلَقَفَهُ الشَّيْخُ محمَّدٌ ، حِينَمَا التَفَّ حَوْلَهُ أهْلُ قَرْيَتِهِ ، فَصَارَ يمشِي مُتَبَاهِيَا بِنَبُّوتِ الزَّعَامَةِ وَصَوْلجانِ الفَخَارِ، وبِعَبَاءَتِهِ السَّوْداءَ وَعَمَامَتِهِ البَيْضَاءَ التي يَتَوَسَطُهَا طربوشٌ أحْمَرُ وَهْوَ يَتَفَقَّدُ عَسَاكِرَهُ وَحَرَّاسَهُ  ، الَّذيْنَ سَلَّحَهُمْ بالبَنَادِق العُثْمَانيَّة الصُّنع لا النَّبَبابِيت الخشبيَّة ، و سَلْمَانُ ـ  الذي ضَرَبَ أبا نَبُّوت ـ قَائدُهُمْ ،كُلُّ صَبَاحٍ يَتَفَقَّدُهُمْ ، وَيُشْرِفُ عَلَى تَدْرِيبِهِمْ  ، الشَّيْخ وَفَّرَ الأَمْنَ والآمان لقريتهِ والقرى المجاورة ، فصار يُعَاقِبُ الْمُجْرِمَ ، ويُحِلُّ المنازعات ، وصارتْ القُرَى الْجَبَلِّيَةُ الأخرى تَخْضَعُ له قَرْيَةً تلْوَ الأُخْرَى ، فاتسع نفوذُهُ حتى صار يُوْصَفُ بـِ (شَيْخ الْجَبَل) ، بَني وعَمَّر، عَمَلَ الأَسْوَاقَ وَشَقَّ الطُّرُقَ ، وَحَفَرَ الآبَارَ وَبَنَى الجُسُورَ ، وَصَارَ يُولِّي عَلَى كُلِّ قَرْيَة عُمْدَةً مِنْ أَهْلِهَا ، أَمَّا الْخَفَر وَشَيْخ الْخَفَر هُم مِنْ رِجَالِهَا ، ، لِيُحَافِظُوا عََلى الممْتَلَكَاتِ وَلِيَسْهَرُوا عَلَى المصَالح ،  وَصَارَ يَأْخُذُ مِنْ الفَلاَّحِينَ نِسْبَةً ضَئِيلَةً مِنْ مَحَاصِيلِهِم السّنَوية مِنْ بُرٍّ وَشَعِيرٍ يوزعها على الخفر والْحُرَّاس ، فَيَدْفَعُ الْفَلاَّحُون لَهُ ذَلِكَ عَنْ طِيبِ خَاطِرٍ وَهُمْ رَاضُونَ ، وَبِمَا يَقُومُ بِهِ هُمْ مُقْتَنِعُونَ.. 
    كَانَتْ بجانبِهِ دًوْلَةٌ  جَارَةٌ تُدْعَى "الدَّوْلَة السُّلْطَانِية" ترْقُبُ بِمَا يَحْدُثُ فِي الْجَبَلِ عَنْ كَثَبٍ ، وَمَا يَقُومُ بِهِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ ، فَلَمْ يُعْجِبْهَا الْحَالُ ، وَلَمْ يَرُقْ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْفِعَالِ الْبَالُ ؛ يُخَيَّلُ لَهُمْ إنّ الشَّيْخَ محمداً يُرِيدُ أنْ يُؤَسِسَ "الدَّوْلَةَ الْجَبَلِيَّةَ".. فَجَهَّزَتْ "الدَّولة السُّلْطَانِية" حَمْلتَهَا العَسْكَريَّةَ بِقِيادَةِ (آغَا الجيْشِ) ، وَتَقَدَّمَتْ صَوْبَ الجبَلِ مُبَاشَرَةً تًارِكَةً مَنْطِقَةَ السَّاحِلَ، فَتَصَدَّى لها الشَّيْخُ محمَّدٌ بِرِجَالِهِ وَفَلاّحي القُرَى ، وَهَزَمَ جَيْشَ الآغا شرّ هزيمة ..
     "زَغْرِدِي يَا زْلِيخَة وَغَنِّي يَا هْلالَة ، الْفِرْحَة تَمَّتْ والنَّصْر جَانَا[1]" ما أحْلَى النَّصْر ، قالها سَعْدٌ وَيُوسُفُ وُجَبْرٌ ، وَرَدَّدَهَا سَالِمٌ وَخَالِدٌ وَعَمْرُو ...
     فازدادتْ "السُّلطانيةُ" حُنقاً وغيظاً ، وَلامَ السُّلْطَانُ (آغَا الْجَيْشِ) عَلَى سُوءِِ تصرُّفِهِ ،وقُبْحِ فِعَالِهِ ، بِقُدُومِهِ مِنْ جِهَةِ الْجَبَلِ واعْتَبَرَ هَذَا مِنْ سُوءِ التَّدْبيرِ وَعَدَمِ الحِنْكَةِ ، كما أَمَرَهُ أَلاَّ يأخْذُ الْبِلادَ والعِبَادَ بِسُخُونَةِ صَدْرِهِ[2] بَلْ بِأَهْلِهَا [3] .. قَامَتْ "الدُّوْلَةُ السُّلْطَانِيَّةُ" بـِ "الحَمْلَةِ الثَّانِيَةِ" بَقِيادَةِ "آغَا الجيْشِ" نَفْسِهِ ولكنَّ هذه المرّة سَلَكَتْ الطَّريقَ السَّاحِليَّ ، حَيْثُ المدِنِ وَالقُرَى الهَادِئةِ الجَاثمَةِ عَلَى الثُّغُورِ[4] ، مَدْعُومَة بإسْطُولِها البَحْريِّ وبالخيَّالةِ والْمُشَاةِ ، وأثناءَ سَيْرِهَا اسْتَمَالَ القَائِدُ السُّكَانَ[5] فَسَاعَدُوه وَنَصَرُوه ، فَعَقَرَ جيْشَ الشيخِ مِنْ مَأْمَنِهِ ، لأنَّهُ يَعْرِفُ إنَّ مُدنَ وقرى السَّاحِلِ طَريقُهَا طَويلٌ ، وَتُقَاوِمُ الغُزَاةَ ، وَتَصُدُّ المعْتَدينَ .. فأخْضَعَ "آغا الجيش" في هَذِهِ الحمْلَةِ السَّاحِلَ بأكْمَلِهِ ودخلَ الجبَلَ مُنْتَصِرَاً وَهَزَمَ عَسَاكِرَ (شَيْخِ الجبَلِ) هَزِيمَةً مُرَّةً  ... وأَصْدَرَ "الآغا" وقْتَئِذٍ مَرْسُومَاً بإلْقَاءِ القَبْضِ على شيخِ الجبلِ وأعوانِهِ من أهلِهِ وذويِهِ وإعدامهم في السَّاحَةِ العامَةِ للقرْيَهِ ليكونوا عبرةً لمنْ لا يعْتَبِر ..
   "ابْكِ ياَ هْلالةُ وانْدُبِي يا زْلِيخَةُ ، مَا أَبْشَع الذُلِّ... وقَهْر الهزيمَةِ !!!" ما أمَرّ الهزيمة !!!، قالتها ليلى وسارة وسليمة ، ورددتها خديجة وسلمى وفطيمة .... 
     للشيخِ محمدٍ من أمه وأبيه أخوان ، سانداه في ردعِ العدوانِ ، لكنّهما ـ ولسوء حظيهما ـ وقعا في قبضة جيش السلطانِ ، فأُعْدِما شنقا في ساحة الميدانِ ، فانخلع من رهبة الموت الجنانُ ، منظرٌ مهيبٌ رهيبٌ ، طارتْ منه عقولُ الْوِلْدَانِ ، خارتْ أمامه أفئدةُ الشُّجَعانِ ، وبعد يومٍ من الموتِ أخذتْ تدورُ حولَ جثمانيهما الكلابُ والذئابُ والغربانُ ، فالبَطْنُ مَبْقُورٌ والأمْعَاءُ أشْلاءُ ، والرَّأسُ مَبْتُورٌ والأطْرافُ فيها أذيّةٌ، صورةٌ فظيعةٌ لم يتحملْهَا عقلُ البشريَّةِ ....


[1] جانا كلمة عامية ، المقصود جاءنا
[2] سخونة الصدر : يقصد بها العنف والقهر .
[3] بأهلها : أي يقرب رؤساء وشيوخ البلاد منه بالرفق واللين .
[4] الثغور جمع ثغر وهي المدينة على شاطىء البحر .المعجم الوسيط
[5] السكان : أهل المدن والقرى الساحلية الواقعة على البحر
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
تكميل قصّة (نَزْرَعُ وَنَدْرُسُ لِبُطْرُس).    كن أول من يقيّم
 
   لكنَّ آغا الجيشِ لا يُرْوي ظَمَأَهُ إلاّ من دمِ الشيخِ الذي هزمَهُ ، فَصَارَ يَتَتَبَّعُ أَثَرَهُ، ويَبْحَثُ عَنْه فِي كُلِّ حيٍّ وَ( زُقَّة ) ،  فَضَاقَ عَلَى الشَّيْخِ الخِنِاقُ، فاخْتْبْأ وَخَادِمه في مَغَارَةٍ ، ولَكِنَّهُ خَافَ إنْ مَكَثَ طَوِيلاً في مَكْمَنِهِ فقَدْ يُكْشَفُ أَمْرُهُ ، ويَلْحَق به ما حدث لأخويه ، فخفف الشيخ محمد من عَارِضَيْهِ[1] ، وحَلَقَ شَارِبَهُ وشوَّهً وجْنَتَيْهِ ، ولوَّحَ للشَّمْسِ وَجْهَهُ حتّى اسمرَّتْ بَشْرَتُهُ  ، وَتَنَكّر بملابسِ الفلاحينَ ، وَرَمَى العَبَاءَةَ والعَمَامَةَ والصَّوْلجانَ ، وخَرَجَ فارّا هُو وخَادِمُهُ بِأَمَانٍ ، مُتَّجِهَاً صَوْبَ الصَّحْرَاءِ ، لِيَعِيشَ بَقِيَّةَ حّيَاتِهِ بَيْنَ العُرْبَانِ ، يَرْعَى الإبِلَ وَالقُطْعَانَ .....
     وَطَّدَ "آغَا الجيْشِ" دعائمَ الحُكْمِ عَلَى السَّاحِلِ والجبْلِ ، بما عَمِلَ مِنْ مُنَاوَرَاتٍ وَحِيَلٍ ، فاسْتَقَامَتْ لَهُ الأمُورُ ، وَعَاشَ فِيهِمَا بهنَاءةٍ وَسُرُورٍ ، وَخَفَّ الطَّلَبُ عَنِ الشَّيْخِ الَّذِي دَمُهُ مِنَ السُّلْطَانِ مَهْدُورٌ   ..وبمرُورِ الأيَّامِ والشُّهُورِ ، ازْدَادَتْ عَلَى "الآغا" نَفَقَاتُ الجنْدِ ، فأرَادَ أنْ يَغْزُو القَبَائلَ البَدَويَّةَ المتَواجِدَةَ فِي الصَّحْرَاء ، لِيسَْلبَ مِنْهُم أغْنَامَهُمْ ومُطِيَّهُمْ .....
     جَهَّزَ جَيْشَهُ وَقَادَ بِنَفْسِهِ حَمْلَتَهُ ، نَزَلَ الْجَبَلَ وَدَخَلَ الصَّحْرَاءَ ..فَقَابَلتْهُ أولُ قبيلةٍ ، وهي بِعَدَدِ رِجَالِها ليْستَْ بِقَلِيْلَةٍ ، حَيْثُ كَانَتْ مَضَاربُهَا مِنَ الدَّرْبِ الَّذي سَلَكَهُ جُنْدُ "الآغا" قريبةً ، وكانت هي للشَّيْخِ محمَّدٍ مُجِيَرةً ، وَخَيْمَتُهُ مشرَّعَةٌ  هُناَكَ عِنْدَ المسَاكِنِ البَدَويَّةِ..
    اقْتَرَبَ "الآغا" وجيشُهُ مِنَ  الحِمَى مِنَ الدِِّيَارِ ، وَكَانَ الوَقْتُ أوَّلَ النَّهارِ ، وَعَلَى مُرْتَفَعٍ مِنَ الأرْضِ نَصَبَ القَائدُ خَيْمَتَهُ ، والشَّيْخُ محمَّدٌ وَخَادِمُهُ كَانَا مِنْ بَعِيدٍ  يَرْقُبَانِ الميْدَانَ ..أخَذَ "آغَا الجيْشِ" يُدِيرُ مَعْرَكَتَهُ ، فَكَانَتْ رَحَى المعْرَكَةِ حَامِيَةً ، وَعَلَى جَيْشِهِ قَاسِيَةً ، فاشْتَدَّ عَلَيْهُم مِنَ الصَّحْرَاء وقت الهجير لهيبٌ ، واستمرتْ الْمُطَاحنَةُ من الصُّبْحِ حتى المغيب ، فقاتَلَ مِنَ القَبِيْلَةِ شَبَابٌ وَشِيْبٌ  قتالَ الأسُودِ ، آثروا الصُّمُودَ ، ذَوْدَا عَنِ الحِيَاضِ ، دِفَاعَا عَنِ الإِبْلِ والجِْيَادِ ، وَخَوْفَا عَلَى شَرفِهِمْ مِنَ الْجُنُودِ ، والموْتُ عِنْدَهُم فِي مِثْلِ هَذَا محْمُودٌ.. فَهُزِمَ "الآغا" شَرّ هَزيمةٍ ، وكبّدتْهُ القبيلةُ خسائرَ جسيمةً ، سَلَبَتْ مِنْهُ البَنَادِقَ والْخُيُولَ غَنِيمَةً .. أما "آغا الجيش" وما تبقى مَعَهُ مِنْ جُنْدٍ بَعْدَ الغُرُوبِ تقهْقَرَ ، وخيمتْ وَحْشَةُ الظّلْمَةِ وَكَانَ الليْلُ غيرَ مُقْمِرٍ،  .. فظلَّ سَائرا طِيلَةَ الليْلِ ، لِيُحَافِظَ عَلى الْجُنْدِ والخَيْلِ..
     أمَّا الشَّيْخُ محمَّدٌ تَوَجَّهَ إلَى خَيْمَةِ "الآغَا" المهْزُومِ { أثْنَاءَ مَا كَانَتْ القَبِيلَةُ تُسْعِفُ المكْلُومَ ، وتحْصِي القَتْلَى ، وتجْمَعُ ما خَلَّفَهُ الجْنُودُ ؛ مِنْ خُيُولٍ و(بَارُودٍ[2] )}،  فَوَجَدَ فِي الْخَيْمَةِ بُنْدٌقِيَّةً وَدَلَّةً وَفَنَاجِينَ وَصِينِيَّةً كُلَّهَا ذَهَبِيَةً ، وما تبقَّى  مِنْ سُكَّرٍ وَقَهْوَةٍ ، فأخذها ولحق مُسْرِعَاً ليلحقَ بالجيشِ المهزومِ ..


[1] عارضيه : لحيته .المعجم الوسيط
[2] البارود:مسحوق البارود يتألف من نترات البوتاسيوم "Potassium Nitrate"، والكبريت "Sulfur"، والفحم "Carbon"،برهان، محمد حسين بن خلف التبريزي، برهان قاطع، تحقيق محمد معين، طهران - 1951، 1952، ص1308  وهنا المقصود البنادق .
*ابو هشام
16 - أبريل - 2009
تكميل (نَزْرَعُ وَنَدْرُسُ لِبُطْرُس).    كن أول من يقيّم
 
     عِِنْدَمَا اشْتَدَّ عَلَى الجيْشِ وَ"الآغَا" النَّصَبُ[1] ، أمرَهُمْ القَائِدُ بالتَّوقُّفِ بعدَ طُولِ المسِيرِ ، وما تبقّى مِنْ نهايةٍ الليلِ إلاَّ اليسير ، نَصَبَ الجنْدُ  له خيمةً كيْ يسْتَرِيحَ ،ثم جلسَ القائدُ فيها وحولَهُ من الجنْدِ المقَرَّبِينَ ، ومع الفَجْرِ أدْرَكَ الشَّيْخُ محمدٌ الجنودَ المنهكينَ ، فتسللَ متنكرَاً هو وخادمُهُ  وجلسَ بينَ الجندِ وقَرِيْبَاً مِنَ الأمِيرِ ، فطابَتْ الراحةُ للقائِدِ بعْدَ هذا الجَهْدِ المريرِ، فتنهَّدَ ، وقالَ : آآهٍ .. آآهٍ ..آه .....على فِنْجَانِ قَهْوَةٍ !!.. قالها بِشَوْقٍ وَلهْفَةٍ .....
    قالَ الشيخُ محمدٌ : أذهبْ واحضرْ لقائدِنَا مَا تمنَّى ، مُوَجِّهَاً كَلامَهُ لخَادمِهِ .. عندما سمع "الآغا" هذا الكلامَ ، ردتْ له نفسُهُ التي غابَتْ عنه إثْرَ المجالَدَةِ وَطُولِ الْمَسيرِ  ، وانْفَرَجَتْ مِنْهُ الأَسَاريرُ .... دخلَ الخادِمُ بالقهوةِ والدلَّةِ والفناجينِ والصينيةِ  .... وتقدَّم نحْوَ "الأمِيرِ" ـ وَهْوَ مُنْهَمِكٌ فِي الهزيمةِ مَعِ الشَّرْحِ وَالتَّبْريرِ ـ وقدَّمَ إليهِ الفنجانَ  ..شَاهَدَ "آغا الجيشِ" الفنجانَ ، فرفعَ بصرَهُ صَوْبَ الخادمِ ، فرأى الصينيَّةَ والفناجينَ والدَّلَّةَ الذَّهبيَّةَ الآغاويةَ ، فَعَرَفَهَا ..  فقال للخادم : فِنْجَان "الآغا".. قدِّمْهُ لِصَاحِبِ النَّدَى الذي جَلَبَ عِدَّةَ القَهْوَةِ ‘ فهْوَ مِنَ القائِدِ أوْلى ، وأصَرَّ القَائِدُ وأبَى .... فَشَرِبَ "آغا الجيشِ" الفنجانَ الثَّاني ، وشَرِبَ الشَّيْخُ محمدٌ فنجانَ القائِدِ ..وبعد الانْتِهاءِ مِنْ شُرْبِ القَهْوَةِ ،قال الشيخ : أريد ـ سيدي ـ أنْ أُقَدِّمَ لَكَ بَعْدَ القَهْوةِ هَدِيَّةً .. وأمَرَ الخَادِمَ أنْ يحْضِرَ البُنْدُقِيَّةَ الذَّهَبِيَّةَ .. ففرح بها "الآغا" لأنها كانت مع عدّة القهوة "شعارا للآغاويَّة ورمزا للسُّلْطانيَّة" ..وعندها طلب "آغا الجيش" من الشيخ أن يعرفه على نَفْسِهِ .. فقال الشَّيْخُ: أتَعْطِيني ـ يا سيدي ـ الأمَانَ ، حَتَّى أَقُولُ لَكَ مَنْ أَنَا ؟؟..فَزَادَ هَذَا الكَلامُ الفُضُولَ..فَقَالَ لَهُ : مَنَحْتُكَ الأمَانَ ، وَأنْتَ لِي الآنَ مِنَ الأصْحَابِ والخلاّن  .. فَقَالَ لَهُ : أنَا الشَّيْخُ محمَّدٌ الَّذِي أهْدَرْتَ دَمَهُ ، وَحَكَمْتَ عَلَيْهِ بِالإعْدَامِ ،...
    قال "آغا الجيش" : عَفَوْتُ عَنْكَ يَا "شَيْخَ الجبَلِ" وَسَأرْجِعُكَ إلى أهْلِكَ لِتَعِيشَ بَيْنَهُمْ وَمَعَهُمْ بِسَلامٍ وَوِئَامٍ ...
    بالفِعْلِ رَجَعَ الشَّيْخُ بِصُحْبَةِ "الآغا"  ، الَّذِي أَرْجَعَ لَهُ الحكْمَ والسَّطْوَةَ كَمَا كَانَ ، لَكِنْ هذه المرَّة أصْبَحَ مُوُالِيَاً  لـ "الآغا" وللسُّلْطانِ.. صَارَ الشَّيْخُ مُنَفِّذَاً لِلأوَامِرِ ، على حِسَابِ أهْلِهِ وَكُلِّ القُرَى الجبَلِيَّةِ ،.. فزادَ الضَّرَائبَ ..الضَّريْبَةُ صَارَتْ ضَريْبَتَين الأولى للدَّولةِ السُّلْطانيِّةِ ، والثَّانِيَةُ لَهُ وَلمنْ تجنَّدَ عِنْدَهُ فِي العَسْكَريَّة ،  فَثَقُلَ الأمْرُ عَلَى النَّاسِ ( والأتَاوَاتُ كَسَّرَتْ ظُهُورَ الفَلاَّحِينَ ،وخَيَّمَ عَلَيْهِم شَبَحُ الْجُوعِ اللَّعينُ ) ...تَحَوَّلَ الشَّيْخُ ـ بِضَغْطٍ مِنْ آغَا الجيْشِ أوْ لِيُرْضِي السُّلْطَانَ ـ إلى نبُّوتٍ يحطّمُ الرؤوسَ ويكسّر العظامَ ، فألهبَ السَّوْطَ والنَّبُّوتَ فِي سَاكني القُرى الجبَليَّةِ  حتَّى صَاروا كلُّهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الذُلِّ مَطِيَّةً ..


[1] النصب :التعب الشديد .
*ابو هشام
16 - أبريل - 2009
تابع (نَزْرَعُ وَنَدْرُسُ لِبُطْرُس).    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
       الفَلاَّحُونَ ـ مِنْ شَبَابٍ وَكُهًولٍ ـ فِي الليَالِي الشَّتْوِيَّةِ وَهُمْ يَتَسَامَرُونَ فِي المجَالِسِ والحَاراتِ القَرَويَّةِ.... فَقَالَ أحَدَهُمْ : لا نعرفُ .. هَلْ هَذَا يُعَدُّ مِنَ الوفاءِ ؟!!.. أمْ الخوفُ عَلَى النَّفْسِ ضَيَّعَ الْحَمِيَّةَ ، وصَارَتْ الرُّوحُ دنيَّةً ، أو الحفاظ على الكرْسِيِّ صَارَ عَلَى الشَّعْبِ بَلِيَّةٌ ، يحْجِبُ الأنْظَارَ عَنْ قَهْرِ الشَّبَابِ ، وَذُلِّ الانْكِسَارِ ، وَجُوعِ الثَّكَالَى ، وَآهَاتِ الصِّغَارِ ، وآلامِ الفقرِ وأنَّاتِ أمراضٍ عصيّةٍ ،يَرْحَمُ أيَّامَ أبِي نَبُّوتٍ ، يَا لَيْتَ مَا ضَرَبْنَاهُ بالمِذْرَاةِ والشَّلُّوت !!!. فردَّ عليه آخرُ: أولتثبيت الحكْمِ في المنْطقةِ الجبَليَّةِ ، فالسُّلْطَانِيَّةُ صَارَتْ عَلَيهِ وَصِيَّةً ؟!!!.. ، أو لِيَلْحَقَ بالرَّكْبِ مِثْلَ غَيْرِهِ فِي زَمَنِ التَّبَعِيَّةِ ؟!!!..أمْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَصَارَتْ مِنَ التَّارِيخِ مَنْسِيّة !!!...صار حالنُا أعجبَ مِنَ العِجَابِ !!! عيْشُنَا عيش كِلابٍ ، صِرْنَا خيالاتٍ كالسَّرابِ .. وقال ثَالِثٌ : أم جعلتْهُ الأحْدَاثُ الجِسَامُ ضَحِيَّةً !!!!، أمْ شَبَحُ الموْتِ الَّذِي طَارَدَهُ فِي المغَارَةِ أوْ فِي الأَرْضِ البَدَوِيَّةِ  !!! .. هلْ بفعالِهِ خَانَ أهْلَهُ ، خَانَ أخَوَيِّهِ وَكُلِّ المنْطِقَةِ الجبَلِيَّةِ ؟!!!. نشقى ونتعب ، و(نزرع وندرس لبطرس)، يرحم أيام أبي نبوت ..
     فكان من ضمن الجالسين رجلٌ كهلٌ عجوزٌ فقال : قولكم "يرحم أيام أبي نبوت" ذكرني "بِسَارِقِ الأكْفَانِ" .. فكان عندما إنسان يموت ـ من ذكر أو أنثى ـ ينبش قبرَهُ ، ويَسْرِقُ كَفَنَهُ ، وبحفنات من التراب يغطي بدنه ، ويتركه ويمشي .. فعندما يزورُ الأهلُ القبورَ ، يلاحظون إنّ القبْرَ مَنْبوشٌ محْفُورٌ ، وكفن الميّتِ مسروقٌ ، فيلعنون ويشتمون السارق ، ويوكلون أمره للخالق ، فعندما كَبِرَ وانقضت أيامه الشقيِّة ودنت منه المنية ، قال لابنه : يا ولدي أنا فعلت الكثير من الدنية ، وذنوبي وفعالي عصيّة ، وآثامي عند الناس غير مَنْسِيَّةٍ ، لأن سرقة الأكفان مهنة غير مَرْضيَّةٍ ، والعاقبة وخيمة عند رب البرية .. فيا ولدي اعمل أي شيء لتجعل أهل قريتي يترحمون عليّ على أبيك ، لعل رحمة واحدة تقبل عند ربَّي ، فتنفعني في آخرتي ، وتشفع لي في قبري ، وهذه مني لك وصيّة ، قالها ثمّ لفظ أنفاسه ومات ..
    حفظ الولد الوصية ، وأول عمل قام به اشترى "خوازيق[1]" حديدية .. وصار الفتى كلما مات إنْسٌ يذهب إلى قبره وينبش عنه التراب ويسرق الكفن ويضع للميت خازوق ـ وأنتم تعرفون أين يوضع الخازوق ـ ويترك الجثة بالعراء ويمشي ، فيأتي أهل الميت للزيارة فيشاهدوا....... ..!!!!. فيقولون : يرحم الله سارق الأكفان القديم ، إنه أفضل من ابنه اللئيم ... وهذا هو حالنا "يرحم الله أبا نبوت ، أيامه أفضل ..  
    وعجائز القرى وهنّ يخبزن حول الطابون يتندرن بالأمثال ، فواحدة منهنَّ تقول : ( حالنا حالك يا زبيبة[2] .....) ، والثانية ترد عليها :(نحن مثل الحيطة الواطية ينطوا عليها الكلاب[3]) ،وأخرى تقول : (والذي يهرب من الدلف ينزل عليه مزراب[4] ) !!! ، أفضل لنا لو متنا وأسْدَلْنا على ما تبقى منا التراب ، خير من عيشة كلها فقر وكدّ وعقاب !!!. عيشنا في عهد كله قتل وجوع وفقر وتشريد وعري في الأجساد !!!  الله يرحمك يا أبا نبوت  أيامك خير ونعمة ، إذا قسناها بأيامنا ، هذه أيام النقمة !!!...
      أما الشيخ محمد ثبّت حكمه بكامل البعبودية للسلطانية ، وبدعم أكيد من الآغاوية  ، حتى مات ... وورّث الحكم لأبنائه ومعها الوصية ، الذين حفظوها وَسَارُوا عَلَى التَّبَعِيَّةِ ، نهْجُهُمْ نَهْجَ أبِيْهِمْ  الشَّيْخِ محمَّدٍ الموْلُودُ خَارِجَ أصْوَارَ التَّارِيْخِ. ....
أبو هشام


[1] الخازوق : عمود مدبب الرأس . كانوا يجلسون عليه المذنب في الأزمان الغابرة ، فيدخل من دبره ويخرج من أعلاه /المعجم الوسيط ص 232
[2] المثل :" طول عمرك يا زبيبة في قفاكي هالعودة "
[3] مثل عامي يقال في مصر وبلاد الشام
[4] المزراب : الميزاب ، وهو أنبوبة من الحديد ونحوه تركب في جانب البيت من أعلاه لِيَنْصَرِف منها ماء المطر المتجمع ./الوسيط ص391
*ابو هشام
16 - أبريل - 2009
تنويه:    كن أول من يقيّم
 
الشَّيْخِ محمَّدٍ الموْلُودُ خَارِجَ أصْوَارَ التَّارِيْخِ.   فمحمد بدل من كلمة الشيخ  ، المولود يجب أن تكون مجرورة لأنها صفة لمحمد.. أمّا كلمة خارج يجب أن تكون بالرفع بدل النصب ؛ فنقول : المولودِ خارجُ .. لأن اسم المفعول يأخذ نائب فاعل .. أصوار : مفعول به لاسم الفاعل .فنقول : الشَّيْخِ محمَّدٍ الموْلُودِ خَارِجُ أصْوَارَ التَّارِيْخِ....
*ابو هشام
16 - أبريل - 2009