البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الرواية والقصة

 موضوع النقاش : هل نحن في عصر الرواية ؟    قيّم
التقييم :
( من قبل 3 أعضاء )
 ضياء  
13 - أبريل - 2009
كانت الرواية ، كنوع أدبي ، قد عرفت مجدها في القرن التاسع عشر بعد أن اكتملت عناصرها الفنية واستقلت بذاتها عن النثر الأدبي والشعر والسرد التاريخي والمسرح ، وأصبح لها جمهورها الخاص المتعطش لقراءة هذا النوع من الإنتاج الفني ، وروادها من أعلام الأدب ونجومه اللامعين كفيكتور هيغو وبلزاك وستاندال وفلوبير
 
لعل أبرز ما يميز هذه المرحلة ، التي اتفق المؤرخون على تسميتها ب " عصر الأنوار " ، هو كونها محصلة لمخاض عسير وطويل من الثورات والانقلابات والتغيرات التي حدثت في أوروبا ، وطالت بنية المجتمعات الأوروبية السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وغيرت بالتالي مفاهيمها الأخلاقية وقيمها ونظرتها إلى العالم وموقع الإنسان فيه ، فغيرت بالضرورة طبيعة العلاقات الموجودة بين الأفراد ، داخل المجتمع المدني ، والوحدة الإنتاجية ، وبالعلاقة مع السلطات القائمة ، وحتى في طبيعة العلاقات الحميمة التي تشكل لحمة الخلية العائلية والبيت الواحد .
 
سأحاول في التعليقات القادمة ، إلقاء الضوء على تلك الفترة التي شهدت ازدهار الرواية في محاولة مبدئية للمقارنة بينها وبين عصرنا الراهن .
 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
حظوط الرواية    كن أول من يقيّم
 
يبدو القرن التاسع عشر وكأنه يتيم قد فقد أمه وأباه ، وأضاع إرثه السابق ، ولم يعد يعرف إذا كان جدوده ضحايا أم عظماء أم جلادين . ويبدو أيضاً وكأنه يحمل فوق كتفيه أعباء ماض يريد أن ينساه ليبدأ حياته من جديد . لكنه في كل لحظة كان يحاول فيها اختراع عالمه الجديد هذا ، كانت الذكريات تعاوده ، ودون أن ينجح في طردها تماماً ، أو أن يلائم بينها وبين حاضره ، لذلك كان يعيش منكراً أصوله الحقيقية أو بالأصح ، غير عارف بها .
 
لم يكن من السهل قراءة العالم الذي تمخضت عنه الثورة الفرنسية بكل أهوالها ودمويتها وتجاوزاتها . بصدور القانون المدني الفرنسي كان المجتمع قد أكل خبطة فوق دماغه اسمها " المساواة " بلبلت حاله . لم يعد هناك طبقات ، ولا مقامات ، ولامن يمثلها . لم يعد أحد يعرف تماماً ما الذي تعنيه كلمة " الشرعية التمثيلية " أومن تمثله . سنجد الأولاد يتطاولون على آبائهم ، والنساء يعصين أزواجهن ، والخدم يريدون أن يصبحوا أسياداً . أصبح النبلاء يخالطون أبناء الشعب ، البقالون تحولوا إلى كتّاب عدل والنجارون أصبح بمقدورهم أن يكونوا كونتات . غاب التدين الحقيقي والإيمان فانتشرت الشعوذة والخزعبلات وأصبحت الأهواء بدون رباط وأصبح المال هو الملك بدون منازع .
 
الكتاب والأدباء والنخبة المثقفة التي كانت تراقب ذلك المشهد بشيء من الحيرة ، كانت تحاول أن تجهد نفسها لكي تقدم أدباً مناسباً لعصر المساواة كما فعل ستاندال ، وكما فعلت مدام ستايل . إنما كان من الصعب عليهم أن يحددوا طبيعة الجمهور الذي يكتبون له . في الماضي القريب ، كان الأدباء والجمهور ينتمون لطبقة واحدة ، وكان لديهم ذات المرجعية المعرفية وذات السلوك وذات الذائقة الفنية والجمالية . كانوا يتكلمون ذات اللغة . منذ ذلك الحين ، أصبح على الكاتب أن ينال إعجاب الجمهور المتنوع والمتعدد المشارب . الجمهور الضحل الثقافة ، القليل الصبر ، المتقلب ، والذي لا يمتلك الكثير من الوقت لكي يمنحه للأدب والفن فنحن في مجتمع الإنتاج ، والبيع والشراء ، فكيف سنجد الوقت الكافي لكل هذه الهوايات البدائية كالقراءة والأدب والشعر ؟ نعم ، لقد أصبح الجمهور قليل الحساسية إزاء جمالية الأدب ولم تعد مقومات ذلك الأدب من لغة وأسلوب وما يتعلق بهما من معايير فنية وتقنية ، ولا الأفكار والقيم التي تحتويها ، كافية لإقناع ، أو لإشباع نهم هذا الجمهور الجديد ، لذلك ، كان لا بد من أن نخترع له شيئاً جديداً على قياسه .
 
من هنا جاءت حظوظ الرواية .
 
 
 
 
*ضياء
14 - أبريل - 2009
الرواية مرآة العصر    كن أول من يقيّم
 
تختلط في كتابة الرواية مقاطع الوصف مع مقاطع الحوار والنثر الأدبي ، ويمكننا الانتقال في الرواية الواحدة ما بين عدة أزمنة أثناء السرد ، كما يمكننا الانتقال بين عدة أمكنة جغرافية بحسب تغيرات مجريات الحدث وحركة انتقال الشخصيات . فالرواية مطاطة ، متحررة من القيود ، وهي تعبر تماماً عن المرونة المطلوبة في مجتمع لم تعد فيه الأمكنة ثابته ومحددة كما كانت في الماضي .
 
لعل أبرز شخصية طبعت ذلك العصر بطابعها كان نابليون الذي لم يكن ابناً لأحد : فهو لا ينتمي إلى سلالة معروفة ، وهو من صنع اسمه ومجده بنفسه . إنه رمز للطموح الشاب المجدد الذي لم تعد تعيقه فروقات السلم الاجتماعي والذي أصبح بإمكانه تحقيق نتائج مذهلة . أهمية هذا الرمز تكمن في تحرير الخيال من القوالب القديمة التي كانت تعيقه وتحد من تحفزه ، ففي الأمس القريب ، كان الفقر والجهل والعزلة وغياب اللقب الاجتماعي كلها معوقات فعلية محبطة ومجهضة لقوة الدفع الداخلية الخاصة بكل إنسان : خياله . كان الفرنسيون قد فهموا درس نابليون وهو أنه بإمكان كل إنسان أن يكون سيد قدره ، وبأن حياته يجب أن تحقق له رغباته وما يتمناه وما ينتظره منها .
 
هذه الصورة كانت قد أصبحت إذن في مخيلتهم ، ومن خلال هذه الصورة لإنسان العصر الطموح الذي يريد أن يحفر لنفسه مكاناً في المجتمع الجديد ، وأن يطالب بحقوقه بصوت عال وهو يقنع نفسه بأنه لا يوجد ما هو مستحيل ، سوف تنبت شخصيات الرواية الجديدة التي تحمل أفكار العصر وطموحه . وبالاستناد إلى هذه الصورة أصبح بإمكان شخصيات الرواية أن يعيشوا وأن ينجحوا وأن يحبوا بما يتعدى شروط حياتهم الفعلية وبيئتهم الأصلية .
 
والرواية تقود زمنها كما تريد ، وتستطيع ببضع كلمات أن تنقلنا من وقت لوقت ، ومن عصر لآخر . عندما يقول فيكتور هيغو في " البؤساء " : " كبـِرَتْ كوزيت " يكون قد اختصر بجملة واحدة عدة سنين من حياة كوزيت ، وفي الوقت الذي يمكنه فيه أن يتباطأ عدة صفحات لوصف زهرة في حقل كما فعل بلزاك في " زنبقة الوادي " . يمكن للرواية أن تسير بنا إلى الأمام ، أو تعود بنا إلى الوراء ، أن ترصد لحظة من الزمن لتصف كل ما حدث فيها من تغيرات ، أو لتقبض عليها في ذروة الحدث :  لحظة تطور غير متوقع ، انهيار مفاجىء ، انطلاقة جديدة ، بعث ، إفلاس ...
 
والرواية ليست معنية بوحدة المكان فهي حرة التنقل وبإمكانها أن تنقلنا بومضة عين من تحت السنديانة إلى قصر فرساي ، وهي قادرة على الدخول إلى كل الأمكنة حتى الأكثر حميمية فهي تقتحم كل الأبواب التي كانت مغلقة أمامها : من أماكن العبادة ، إلى الخمارات وكواليس السياسة ، وحتى غرف النوم وملاءة السرير . إنها تعرف كل ما يدور في الرؤوس وفي الصدور من حسابات ورغبات ، وهي تهتم بأدق التفاصيل في عالم متموج ومتقلب مسكون بالقلق وعدم الأمان : ومن خلال كل هذا سوف تبرز حيوات إناس كانوا مهمشين ، برزوا من القاع ، ولم يكن في السابق من الممكن رؤيتهم أو الحديث عنهم . رواية " البؤساء " لفيكتور هيغو تحوي كل هذا . فيها التقلبات السياسية والدخول في أسرار الأديرة ، ومعركة واترلو ، والانتفاضات الشعبية في باريس . وجان فالجان ، بطل الرواية ، هو ملك هذه التحولات لأنه رمز الإنسان الجديد الذي تمكن من اجتياز كل هذه التحولات على خلفية قصة حب رومانسية مليئة بالعاطفة .
 
الرواية هي المراقب الذي يتلصص على حياة المجتمع ، ويرصد تحركاته وتبدلاته ، ويعبر عن قلقه وعدم استقراره وعن شخصيته وعن طموحه . بلزاك كان يعشق الملاحم ، وستاندال كان يحلم بالثروة التي يمكن أن يكسبها من نجاح مسرحياته ، وهيغو كان يضع مؤلفاته فوق كل اعتبار . وكل منهم كان يعبر عن نفسه بشكل من الأشكال : فالرواية بطلها الإنسان .
 
 فمن هو هذا الإنسان ، وما هي ملامحه ؟
 
*ضياء
15 - أبريل - 2009
الهدف التربوي لتحليل الشخصيات    كن أول من يقيّم
 
كانت الثورة الفرنسية قد تخلت عن دورها وموقعها في رفع شعارات ثورية رنانة لكي تقايض بها دوراً آخر هو : الطموح والشهوة للمال . وفي الوقت الذي أصبح فيه المواطنون متساوين في الحقوق أمام القانون ، كانت المنافسة والحسد والتطاحن من أجل الثروة هي الحقيقة السائدة في المجتمع ، وأضحت النرجسية والغرور هي الدرجة العليا في سلم الترقي الاجتماعي .
 
الإنسان الذي يستحق مركز البطولة والإعجاب أصبح نادراً في مجتمع " المساوة " والديموقراطية ، ولم تعد التبريرات بالظلم الاجتماعي التي تحدث عنها  "روسو " كافية لفسير سلوك ذلك الإنسان ، لذلك ، راحت الرواية تبحث عن التفسير ، واستطاع فلوبير أن يثير ضجة عارمة واستياءاً عاماً من حوله عندما كتب " مدام بوفاري " ، لكن دراسة العوامل النفسية والبحث في داخل التكوين النفسي للفرد كان قد أصبح أحد ملامح ومحددات الكتابة الروائية في القرن التاسع عشر .
 
كنا قد لمحنا لدى شاتوبريان ميلاً شديداً للكلام عن نفسه وعن اختلاجات روحه المشتتة والموزعة بين عصرين ، لكن الحديث عن " الأنا " و " الهو " ، وتطور الحالة النفسية والشعورية لأبطال الرواية  بدأ يظهر بصفته العامل الداخلي والمحرك ، الموازي ، الذي سيرافق عملية سير وتطور الأحداث الخارجية . سوف يشيع أيضاً استخدام ضمير المتكلم ، بصفته الراوي ، وستنتشر روايات السيرة الذاتية .
 
كانت مدام دو ستيايل Madame De Staël قد كتبت في روايتها بعنوان " دلفين " Delphine : " إن مراقبة قلب الإنسان تعني أننا سوف نلمح عند كل خطوة  تأثير الأخلاق على المصير الإنساني : هناك سر في الحياة  متعلق بالخير والشر الذي نعمله . يختبىء هذا السر تحت ألف شكل وشكل مخاتل : فأنتم تتألمون دون أن تستحقوا هذا الألم ، أو تتمتعون بالرفاهية التي حصلتم عليها بطريقة مشبوهة ، لكن فجأة ، سوف ينكشف مصيركم ، وسوف تنكشف كلمة السر ، وهذه الكلمة كان الضمير قد قالها قبل أن تكشفها الأقدار بوقت طويل . يجب أن نقدم لحياة البشر في الرواية على هذه الصورة ، بهذا ، ستنكشف بالخيال ، وبواسطة مشاعرنا ، أسرار مصائرنا ، وما فينا من خير وشر " .
 
وكان بنجامين كونستان Benjamin Constant قد نشر في العام 1816 رواية عرفت شهرة واسعة بعنوان أدولف Adolphe قريبة من أفكار مدام دو ستايل وتحكي قصة غرام شاب لامرأة أكبر منه سناً والتي ستنتهي بالانفصال ثم بالندم ، وفي العام 1824 كان قد أضاف إليها المقدمة التالية :" أردت أن أرسم العذاب والألم الذي تسببه القلوب القاسية ... عندما نرى صورة العذاب والألم الذي نفرضه على الآخرين فإنه يبدو لنا غامضاً ومتموجاً كمن يقوم باختراق غيمة . ومما يشجعنا على ذلك هو تشجيع المجتمع المزيف الذي استعاض عن المبادىء بالأعراف ، وعن العواطف باللياقات ، والذي يكره الفضائح لأنها مزعجة وليس لكونها لا أخلاقية ، ولأنه يتقبل الفساد والمعصية حين تبقى مستترة . نظن بأن هذه العلاقات التي لم تخضع للتفكير سوف تنكسر بسهولة .... إننا نشعر بأنه يوجد شيء مقدس في القلب المتألم وذلك لأنه يحب " .
 
جهد الروائيون في الكشف عن الدوافع المضمرة للسلوك الإنساني حتى تعدى دورهم موقع الكتابة الأدبية إلى موقع الفكر والبحث . كان ستاندال قد نشر  في العام 1822 مؤلفاً بعنوان " عن الحب " يتحدث فيه عن مشاعر الغيرة والعاطفة الجارفة ، وكنا قد لمحنا في رواياته شخصيات تجسد هذه النظرة كما برزت لدى الكونت موسكا في La Charteuse De Parme ، أو كما عبرت عنها شخصية مدام دو رينال في " الأسود والأحمر " Le Rouge Et Le Noir .
 
إن اللجوء إلى الخطاب الباطني وتطوير أسلوب الخطاب الداخلي المرسل والذي يعني : الكلام عن الموضوع من وجهة نظر داخلية حميمة وشمولية هي وجهة نظر الراوي أو الكاتب ، كل هذا دفع رواية القرن التاسع عشر لكي تتخذ صفة التحليل النفسي ، أو الوصف النفسي للشخصيات .
 
*ضياء
15 - أبريل - 2009
الرواية والتحليل الاجتماعي    كن أول من يقيّم
 
حاولت رواية القرن التاسع عشر رسم شخصية الفرد الواقع تحت تأثير بيئته الاجتماعية وذلك من خلال تقديم نماذج ذات ملامح محددة تتطابق مع رموز الشخصيات التي تشكل مختلف الفئات الاجتماعية . قدم فلوبير في روايته " التربية العاطفية " Education Sentimentale  فريدريك مورو ، بطل الرواية ، على أنه شخصية تتطابق في سلوكها الاجتماعي مع الحقبة التي عاشتها فرنسا خلال السنوات العشر الواقعة ما بين 1840 ـ 1850 وهي الفترة التي كانت لا تزال فيها موزعة الأهواء بين العصر الملكي والعصر الجمهوري . هذه الشخصية تشبهه تماماً لأنها تنتمي إلى البرجوازية المثقفة التي فقدت امتيازاتها المادية والاجتماعية لكنها عادت وتبنت أفكار العهد الجديد . كان موباسان وآميل زولا ، اللذان حفرا عميقا في بنية العلاقات الاجتماعية ، يعتبران هذه الرواية مرجعاً لأن بنيتها متكاملة من الناحية الفنية ، ويعتبران فلوبير الأب الروحي للقصة الاجتماعية .
 
لكن روايات بلزاك أيضاً كان طابعها اجتماعياً بامتياز لأنها تعج بالرموز الاجتماعية وخصوصاً في مجموعته التي تحمل اسم " الكوميديا الإنسانية " Comédie Humaine التي تحتوي على 91 مؤلفاً وفيها 2000 شخصية مختلفة . والهدف منها كان " المنافسة مع سجلات الأحوال الشخصية " ، يقول بلزاك مازحاً ، ثم يضيف : " الصدفة هي أكبر منتج للقصص في العالم ، ولكي تبدع ، ما عليك إلا أن تدرس . المجتمع الفرنسي هو المؤرخ وانا لست سوى سكرتيره ، وذلك عندما أضع لائحة بأصناف الفضائل والرذائل ، أو عندما أحاول رسم الخطوط العامة للعاطفة ، أو عندما أؤلف شخصية أحاول أن أجمع فيها مواصفات عديدة ومختلفة متناسبة فيما بينها . ربما أستطيع بهذه الطريقة كتابة التاريخ الذي نسي كل المؤرخين أن يكتبوه ويكون سجلاً  للسلوك والعادات الاجتماعية . بالكثير من الصبر ، سيكون باستطاعتي أن اكتب عن فرنسا في القرن التاسع عشر ما أسفنا كون ، روما وأثينا وصور وممفيس وفارس والهند ، لم تكتبه عن حضاراتها . "
 
ومن الضروري الإشارة إلى أن رواية القرن التاسع عشر حرصت على أن لا يقتصر دورها على رصد أسلوب حياة الطبقات الثرية ، بل لأن يشمل كل طبقات المجتمع . تحدث بلزاك عن باريس بقدر ما تحدث عن الريف ، كذلك روى عن حياة النبلاء وعامة الشعب ، الأغنياء والفقراء ، العرائس والعوانس ، الشباب والعجائز ... وظل ينافس سجلات الأحوال الشخصية ويستلهمها حتى النهاية .
 
*ضياء
17 - أبريل - 2009
مواكبة الرواية للتطور العلمي    كن أول من يقيّم
 
كان العلم في قمة ازدهاره في القرن التاسع عشر وكان له تأثيره المباشر على الرواية .
 
عندما كان بلزاك يحاول رسم ملامح شخصياته ، كان يرتكز إلى معطيات نظريتين علميتين راجتا في ذلك الوقت وقادتاه في رحلة تصميمه وتركيبه للشخصيات التي اخترعها : النظرية الأولى كان قد طورها العالم الألماني Gall ( 1757 - 1828 ) وتسمى Phrénologie أي الفراسة ، وهي تطمح للبرهنة على إن شكل الجمجمة يحدد ملامح الشخصية من الناحية النفسية ومستوى الذكاء . والثانية ترتكز إلى السيماء وملامح الوجه في قراءة الشخصية واستنباط سلوكها وتدعى : La Physionomie وكان قد قال بها Gaspard Lavater ( 1741 - 1801 )
 
وكانت نظرية داروين Darwin ( 1809 - 1882 ) حول تطور النوع والانتخاب الطبيعي للعناصر رائجة جداً ، وكذلك نظرية ماندل Mendel ، وهو عالم نبات نمساوي بحث في علم الوراثة واستطاع أن يوضح العلاقة الموجودة بين الجينات الوراثية واضعاً لها قانوناً عرف باسمه . بهذا تمكن آميل زولا خلال رصده لتطور مسيرة وسلوك الشخصيات في مجموعته القصصية التي تحمل عنوان Rougon - Macquart من تتبع أثر العامل الوراثي في سيرة تلك العائلة لكي يجعل منها  القصة الطبيعية والاجتماعية لعائلة في فترة الأمبراطورية الثانية  : " أردت أن أشرح كيف يكون سلوك عائلة ، أي مجموعة صغيرة من الأفراد ، داخل المجتمع ، والتي سوف تتمدد لتصبح عشرة ، إلى عشرين شخصاً ، وكي يظهر التحليل كيف أنهم يبقون ملتحمين بقوة واحدهم للآخر . الوراثة وقوانينها تشكل هذا القانون الجاذب . عائلة روجون ماكار ، أي مجموعة الأشخاص الذين أقترح دراستهم هنا ، لديهم مواصفات مشتركة هي : شهيتهم القوية ، وهذا الفوران الهائل الذي نراه والجموح نحو اللذة . على المستوى الفيزيزلوجي ، نجد أنهم يمثلون  مجموعة من الصدف التي أدت لاجتماع الخلايا الدموية والعصبية التي تتشكل عادة في العرق الواحد ، ثم نتيجة انشطار عضوي ، سوف يتحدد لدى كل من هؤلاء الأفراد في هذا العرق ، كل بحسب بيئته ، مستوى العواطف والرغبات والحب الجارف وكل المظاهر الطبيعية الغريزية التي هي منتجات سوف تتخذ  أسماء ما هو متعارف عليه بأنه : الفضيلة والرذيلة . "
Emile zola , Préface :  La Fortune Des Rougon 1870
 
وفي محاولة أشمل ، سوف يحاول ، رئيس المدرسة الطبيعية ، أن يقارن منهجه بمنهج الطبيب كلود برنار الذي كان قد نشر في العام 1865مقدمة للطب التجريبي ، فما كان من آميل زولا إلا أن كتب الرواية التجريبية في العام 1880 متبنياً هذا الموقف الذي يقول بضرورة المراقبة والتجربة تماماً كما عبرت عنها النظرية العلمية الفيزيزلوجية .
 
*ضياء
17 - أبريل - 2009
فيكتور هيغو : رجل العصر    كن أول من يقيّم
 
تميزت رواية القرن التاسع عشر بواقعيتها ، وبصفتها رواية اجتماعية تحكي التجربة الإنسانية بكل أبعادها رغم الطابع الرومانسي الذي لم تتخل عنه نهائياً .
 
سجلت الرواية بتحولها هذا تأثرها بالنظريات الفلسفية الفلسفية الكبرى التي ظهرت في عصر الأنوار لأنها ، ومنذ ديكارت ، مروراً بماركس وهيغل وكنت وسان سيمون وأوغست كونت ... انتصرت للعقل ، ووضعت الإنسان في قلب العالم بمواجهة مصيره ، وأوكلت إليه مسؤولية صنع التاريخ .
 
والقرن التاسع عشر هو العصر الذي تم فيه اختراع الكهرباء ، والمحرك البخاري ، والذي عرف سطوة رأس المال ، والتحرر الاجتماعي ، وأوهام الإشتراكية ، وسادت فيه الصحافة ، وكان للعلم فيه منزلة " دينية " مقدسة ... إنه بالاختصار : عصر " الجمهورية " !
 
وإذا استثنينا شاتوبريان الذي عاش ومات ملكياً ، والذي شكل حالة خاصة في تاريخ الأدب ، فإن رجل العصر الذي مثله بكل أبعاده كان فيكتور هيغو بلا منازع .
 
عاش فيكتور هيغو ( 1802 - 1885 ) في زمن يتميز بالوفرة والحيوية ، مضطرب ، شديد التبدل والتحول ، فكان على صورته ومثاله . وكانت له صورة البورجوازي المثالي المثقف بأناقته ولحيته المقصوصة بعناية . وقد اعتني هوجو بجميع الفنون فكان روائياً وشاعراً وكتب المسرحية والمقالة ، وهجا وخطب على المنابر ، واعتنى بالتصوير والموسيقى وتقلب في كل الإتجاهات السياسية فكان من أتباع ستيوارت في عصر الثورة ، ثم انتسب لنادي اليعاقبة ( كان في السابعة عشرة ) ثم عاد ملكياً مخلصاً للشرعية ، ثم تحول إلى الجمهورية فكان من اليسار المخملي ، وكان شديد العداء لنابليون الثالث ، وكان صديقاً لكل مشاهير عصره من لامنيية إلى باكونين مروراً ببرليوز ومريميه ، تشارلز دكنز وأنجر ، زولا ديست ولاكروا . وحتى أنه ، وكانت تلك العادة من طقوس ذلك العصر ،  تقاسم عشيقة مشتركة له مع فلوبير . كان في مخيلة الفرنسيين ، خير من يمثل فرنسا بكل طموحها وشبقها ، لكن أيضاً باعتزازها بنفسها وإنسانيتها العميقة . هو الجمهورية التي جمعت بين النخبة البورجوازية وعامة الشعب حتى أصبح اسمه على كل شفة ولسان ، ووصلت شهرته حتى أبعد قرية نائية في الريف الفرنسي ، فكان اسمه يكتب على الحيطان ، وتستقى منه الشعارات . رواية البؤساء كانت قد خلدت شخصيات يتماهى معها الفرنسيون بكل أطيافهم كجان فالجان ، لكن أطرفها وأقربها إلى وجدان الفرنسيين هو " غافروش " الفتى المراهق ابن الحارات الشعبية الذي تحول إلى رمز ، وكان قد لاقى حتفه في حرب الشوارع في انتفاضة الجمهوريين عام 1832 بعد أن جعله فيكتور هيغو ينطق بالأهزوجة الشهيرة قبل أن يستشهد ببطولة :
 
Je suis tombé par terre
C'est la faute à Voltaire
Le nez dans le ruisseau
C'est la faute à Rousseau
 
وترجمتها : إذا كنت قد سقطت على الأرض ، فكله بسبب فولتير ، وإذا كنت قد غرقت في الساقية ، فكله بسبب روسو . ( والمقصود هنا الفيلسوفان : فولتير وجان جاك روسو كونهما يشكلان مرجعين أساسيين في صياغة أفكار الثورة الفرنسية ) .
 
لكل هذه الأسباب ، وعند موته ، خرجت لروسو جنازة شعبية حاشدة يقال بأنها كانت الحدث الأبرز في تاريخ القرن التاسع عشر ، ويقال بأنها تقدمت بأهميتها على كومونة باريس وحفلة تنصيب نابليون أو انتصارات الجنرال بولانجيه العسكرية ، وأن كل هذه الأحداث تفتقر إلى الحرارة بالقياس لضخامة الأثر الذي تركته في مخيلة الباريسيين خاصة . وقد جاء في وصف يوم وفاته ، في الأول من حزيران عام 1885 : بينما كان الأب مونييه يلقي مرثيته في وادعه متأسفاً ومتسائلاً " كيف اقتلعنا ذلك الرجل العظيم من كنيسته ؟ " ( لأنه حورب من قبل الكنيسة بعناد ) كانت الجموع تحتشد في كل مكان على جانبي الطريق المكسوة بالعشب من قوس النصر وحتى ساحة البانثيون ، بينما مجموعات أخرى كانت قد افترشت ضفة نهر السين وغطست أرجلها في الماء . الأولاد كانوا قد تسلقوا التماثيل وجلسوا في حجورها . في الحدائق المنتشرة هنا وهناك ، كانت البنات يتفحصن أوراق الشجيرات بينما الصبيان يدفعون المارة . جموع حاشدة وتواشيح ورايات من كل الألوان وحتى من تلك النساء اللواتي كن يعملن في بيوت الدعارة وكن في عطلة في ذلك اليوم وتتبادلن الحديث فيما بينهن على الرصيف ، بينما نساء محترمات تعبرن الشارع لاجتياز حشائش جادة الشانزليزة ...
 
كان رينان يقول : ولد هيغو بموجب مرسوم خاص نص عليه الخلود " .
وروني كان يقول عنه : " هذا الأحمق العبقري ...."
 
ولهيغو ساحة ونصب في باريس وشارع يحمل اسمه منذ كان لا يزال على قيد الحياة حتى أنه سكن في جادة فيكتور هيغو بنفسه ، وكان ربما أول رجل يسكن في جادته هو . ولقد طبع اسمه على ورق البنكنوت وحملت رسمه الطوابع البريدية والميداليات ونجد تماثيل له ومجسمات في كل مكان في فرنسا .

 
*ضياء
21 - أبريل - 2009