فيكتور هيغو : رجل العصر كن أول من يقيّم
تميزت رواية القرن التاسع عشر بواقعيتها ، وبصفتها رواية اجتماعية تحكي التجربة الإنسانية بكل أبعادها رغم الطابع الرومانسي الذي لم تتخل عنه نهائياً .
سجلت الرواية بتحولها هذا تأثرها بالنظريات الفلسفية الفلسفية الكبرى التي ظهرت في عصر الأنوار لأنها ، ومنذ ديكارت ، مروراً بماركس وهيغل وكنت وسان سيمون وأوغست كونت ... انتصرت للعقل ، ووضعت الإنسان في قلب العالم بمواجهة مصيره ، وأوكلت إليه مسؤولية صنع التاريخ .
والقرن التاسع عشر هو العصر الذي تم فيه اختراع الكهرباء ، والمحرك البخاري ، والذي عرف سطوة رأس المال ، والتحرر الاجتماعي ، وأوهام الإشتراكية ، وسادت فيه الصحافة ، وكان للعلم فيه منزلة " دينية " مقدسة ... إنه بالاختصار : عصر " الجمهورية " !
وإذا استثنينا شاتوبريان الذي عاش ومات ملكياً ، والذي شكل حالة خاصة في تاريخ الأدب ، فإن رجل العصر الذي مثله بكل أبعاده كان فيكتور هيغو بلا منازع .
عاش فيكتور هيغو ( 1802 - 1885 ) في زمن يتميز بالوفرة والحيوية ، مضطرب ، شديد التبدل والتحول ، فكان على صورته ومثاله . وكانت له صورة البورجوازي المثالي المثقف بأناقته ولحيته المقصوصة بعناية . وقد اعتني هوجو بجميع الفنون فكان روائياً وشاعراً وكتب المسرحية والمقالة ، وهجا وخطب على المنابر ، واعتنى بالتصوير والموسيقى وتقلب في كل الإتجاهات السياسية فكان من أتباع ستيوارت في عصر الثورة ، ثم انتسب لنادي اليعاقبة ( كان في السابعة عشرة ) ثم عاد ملكياً مخلصاً للشرعية ، ثم تحول إلى الجمهورية فكان من اليسار المخملي ، وكان شديد العداء لنابليون الثالث ، وكان صديقاً لكل مشاهير عصره من لامنيية إلى باكونين مروراً ببرليوز ومريميه ، تشارلز دكنز وأنجر ، زولا ديست ولاكروا . وحتى أنه ، وكانت تلك العادة من طقوس ذلك العصر ، تقاسم عشيقة مشتركة له مع فلوبير . كان في مخيلة الفرنسيين ، خير من يمثل فرنسا بكل طموحها وشبقها ، لكن أيضاً باعتزازها بنفسها وإنسانيتها العميقة . هو الجمهورية التي جمعت بين النخبة البورجوازية وعامة الشعب حتى أصبح اسمه على كل شفة ولسان ، ووصلت شهرته حتى أبعد قرية نائية في الريف الفرنسي ، فكان اسمه يكتب على الحيطان ، وتستقى منه الشعارات . رواية البؤساء كانت قد خلدت شخصيات يتماهى معها الفرنسيون بكل أطيافهم كجان فالجان ، لكن أطرفها وأقربها إلى وجدان الفرنسيين هو " غافروش " الفتى المراهق ابن الحارات الشعبية الذي تحول إلى رمز ، وكان قد لاقى حتفه في حرب الشوارع في انتفاضة الجمهوريين عام 1832 بعد أن جعله فيكتور هيغو ينطق بالأهزوجة الشهيرة قبل أن يستشهد ببطولة :
Je suis tombé par terre
C'est la faute à Voltaire
Le nez dans le ruisseau
C'est la faute à Rousseau
وترجمتها : إذا كنت قد سقطت على الأرض ، فكله بسبب فولتير ، وإذا كنت قد غرقت في الساقية ، فكله بسبب روسو . ( والمقصود هنا الفيلسوفان : فولتير وجان جاك روسو كونهما يشكلان مرجعين أساسيين في صياغة أفكار الثورة الفرنسية ) .
لكل هذه الأسباب ، وعند موته ، خرجت لروسو جنازة شعبية حاشدة يقال بأنها كانت الحدث الأبرز في تاريخ القرن التاسع عشر ، ويقال بأنها تقدمت بأهميتها على كومونة باريس وحفلة تنصيب نابليون أو انتصارات الجنرال بولانجيه العسكرية ، وأن كل هذه الأحداث تفتقر إلى الحرارة بالقياس لضخامة الأثر الذي تركته في مخيلة الباريسيين خاصة . وقد جاء في وصف يوم وفاته ، في الأول من حزيران عام 1885 : بينما كان الأب مونييه يلقي مرثيته في وادعه متأسفاً ومتسائلاً " كيف اقتلعنا ذلك الرجل العظيم من كنيسته ؟ " ( لأنه حورب من قبل الكنيسة بعناد ) كانت الجموع تحتشد في كل مكان على جانبي الطريق المكسوة بالعشب من قوس النصر وحتى ساحة البانثيون ، بينما مجموعات أخرى كانت قد افترشت ضفة نهر السين وغطست أرجلها في الماء . الأولاد كانوا قد تسلقوا التماثيل وجلسوا في حجورها . في الحدائق المنتشرة هنا وهناك ، كانت البنات يتفحصن أوراق الشجيرات بينما الصبيان يدفعون المارة . جموع حاشدة وتواشيح ورايات من كل الألوان وحتى من تلك النساء اللواتي كن يعملن في بيوت الدعارة وكن في عطلة في ذلك اليوم وتتبادلن الحديث فيما بينهن على الرصيف ، بينما نساء محترمات تعبرن الشارع لاجتياز حشائش جادة الشانزليزة ...
كان رينان يقول : " ولد هيغو بموجب مرسوم خاص نص عليه الخلود " .
وروني كان يقول عنه : " هذا الأحمق العبقري ...."
ولهيغو ساحة ونصب في باريس وشارع يحمل اسمه منذ كان لا يزال على قيد الحياة حتى أنه سكن في جادة فيكتور هيغو بنفسه ، وكان ربما أول رجل يسكن في جادته هو . ولقد طبع اسمه على ورق البنكنوت وحملت رسمه الطوابع البريدية والميداليات ونجد تماثيل له ومجسمات في كل مكان في فرنسا .
|