لا أجيد التحدث عن الأصدقاء.. وبشكل خاص عما يثير لدي تلك الذكريات الحارة، الجارحة والدالة على خراب العالم. لستُ انطوائياً أبداً.. أبداً لكنني أعذر من سيصعب عليه فهم ذلك، على الأقل لأنه لا يعرف حسن مطلك!.. هل حقا لا تعرفون حسن مطلك!!!.. حسناً.. فقد كان في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي أن أعلنت وزارة الثقافه في بغداد عن مسابقة قصص الحرب، آنذاك قال لنا حسن مطلك، نحن مجموعة من أصدقائه: "سوف أشارك.. وسأفوز بالجائزة". طبعاً، بُهتنا حينها لأننا نعرف بأنه يستحق ولكننا نعرف أيضاً بأنهم لا يعرفونه في الوسط الثقافي، حتى أننا ربما قلنا له وقتها بأن: لا أحد يعرفك خلف حدود الجبل. ونقصد (جبل مكحول) الذي كان مظلة لأحلامنا ويصد عنا غبار الصحراء أحياناً ... أُعلنت النتائج فكان الفائز بالجائزة الأولى حسن مطلك عن قصته (عرانيس) التي لفتت الأنظار إليه بقوة وأثارت وقتها جدلاً بين قراء وبعض أوساط المثقفين. من يومها بدأت الدوريات والصحف والمجلات تنشر نصوصاً لحسن مطلك مدهشة ومختلفة عن السائد. فمن هو هذا الذي جاء من أقصى البلاد، من القرى البعيده ليثير انتباه الأوساط ويخطف الجائزة من بين عشرات الكتاب. إن ما يكتبه حسن مطلك يختلف عن كل ما يكتبه الآخرون.. ربما لأنه ينحو بالأدب باتجاه جديد، ربما حتى عالمياً. إنه يسلك بالقصه مسالك لم تشهدها من قبل.. كأنما يريد تشييد ركائز جديدة لمدرسة أدبية جديدة، وهذا ما بدا يتوضح عندما قام بتقديم روايته الأولى (دابادا) إلى لجنة الخبراء في وزارة الثقافة وتأخرت اللجنه وقتها لأكثر من عام في البت بقرارها حول الموافقه على نشر الرواية، وكتب بعضهم رأيه حول غرابة النص وحداثته. كتب أحدهم بأنه قد ضرب أطفاله بعد الانتهاء من قراءة الرواية. وبعد مداولات عديدة وافقت اللجنة (الرقابة) على إجازة نشر الرواية إلا أن دور النشر لم تر العرض مغرياً فابتعدت عن التعامل معه بحجج أن النص غريب، جديد ومجهول، أو أنه ربما كتب لأجيال لم تولد بعد و و و.. مما يذكرنا ببعض الروايات العالمية التي قيل بأنها لم تر النور إلا بعد موت كتابها وربما أشار إلى ذلك أحد النقاد في حديث عن (دابادا) بقوله: إن مثل هذه الرواية يجب أن تكتب بعد عشرات الأعوام لغير هذا الجيل. وراح حسن مطلك يطرق أبواب دور النشر إلى أن قادته الصدفه نحو مكتب الدار العربيه للموسوعات في بغداد والتي مقرها في بيروت، وتم الإتفاق على طبع الرواية عبر دفع الكاتب للتكاليف. ومنذ طبعتها الأولى عام 1988 ولحد هذا اليوم، وبعد طبعتها الثانية في القاهرة والثالثة في بيروت، ما زال القراء بكافة مستوياتهم يشكون من صعوبة الفهم. "إلى حسين محمد العنكود. لعلك تنسى خدعة الراحة". هكذا كتب لي موقعاً على النسخهةالتي أهداني إياها.. ولم نكن ندري بأنها ستتلف من كثرة قراءتها.. نعم لقد قرأتها أكثر من ثمانين مرة حتى صرت أحفظ أغلب صفحاتها عن ظهر قلب، وفي الأيام الأولى كنت أجيء إليه راكضاً يحملني الزهو مدعياً بأني قد فهمت كذا وكذا من الرواية، فيفرح آنذاك، ويحتضنني آنذاك ويقول لي: نعم هو كذلك وربما قليلاً من ذلك وتقريباً.. ونضحك وبعض الدموع تسقط من عيني لأنني متأكد من أنني قد عرفت شيئاً كبيراً قد يعسر فهمه على كثير ولأني أعرف بأن حسن مطلك لن يقول شيئاً عادياً بل يخترح القول، وربما أن العديد من العبارات المبتكرة بإبداع وتركيبات في اللغه لم يسبقه إليها أحد، تدهشني تعبيرات مثل: (وشيش السكون)، (برميل الابتسام)، (أنبوب الضحك)، (الأرض المثقبة بالمراحيض)، (الأعمده التي تسند غيم الحرائق).. وغير ذلك الكثير . كتب روايته الأولى (دابادا) في مناخ قاس وأجواء صعبة اخترعها هو بنفسه لنفسه، حيث كان يسد منافذ الشبابيك والأبواب في غرفته (لئلا يَسمع دويّ العالم) وقد أتلف مئات القصاصات وعشرات المسودات لأجل أن يصل إلى النص الأخير، وكم من النقاد أراد وقتها أن يكتب له مقدمة أو تقديم ولكنه كان يرفض أن تكون لأحد بصمة أو أثر على جهده الخاص، وقد قال لي أنه:" ليس لأحد أي فضل في كتابة دابادا غيري أنا، ولولا مسالة التعريف لرفعت اسم أبي عن الغلاف". كنت أحمل عدة نسخ من الرواية في حقيبتي دائماً وفي إحدى الأمسيات الموسيقية لنصير شمة في مركز الفنون في بغداد صافحت الأديب الكبير جبرا إبراهيم جبرا وكان بصحبته الفنان التشكيلي نوري الراوي ثم فتحت حقيبتي وناولت المرحوم جبرا نسخة من دابادا..ففاجأني بالقول: "نعم لقد قرأتها وهي في مكتبتي.. إنه شيء جديد حقاً، تعلموا منه أرجوكم واكتبوا مثله". كنا نلتقي أنا وحسن مطلك يومياً تقريباً، وكنت أشكو إليه عسر فهم بعض العبارت فيقول اقرأها مرة رابعة وعاشرة حتى تفهمها. كان يعلمني قواعد القراءة وقواعد الكتابة وقواعد الفهم وقواعد الإنصات ويقول: أن في كل شيء هناك مجال للإبداع فيمكنك أن تكون مبدعاً في الإصغاء. وكان يزيد جنوني عندما يأخذني إلى حافة النهر ويقرأ لي من رولان بارت وآخرين، فيضحك بقوة حتى تهتز ضحكته بحافة الجبل فيعود صداها مجلجلاً.. ويالضحكته النادرة، فنفترق قليلاً ويقول لي: لا تأتي إلا ومعك شيء، أكتب، مثلاً، عن سفرتنا القصيرة هذه. فأكتب ويمزق (هذه التفاهات) ويبكيني ويقسو عليّ، ثم بعد أيام أجد مامزقه محفوظاً لديه. فيقول لي: هكذا أدفعك نحو الإبداع، ويقول أنت أحسن من كثيرين في الكتابة. وكثيراً ما كان يؤكد لي بأن لا أنسى أحد أمرين: أولاً، أن لا أُقلد أحداً أبداً، وأن أكتب وكأنني الكاتب الوحديد في الأرض. وقد كتب لي مرة بعد أن قرأ لي نصوصاً أفضل: "بعض تلك الأيام، قرأت لك بعض الآهات كأنفاس من يقضي بعد ساعة، ربما، قلق بسعة العالم، وقد تتوثبك روح أحد الشياطين. ربما في ظهيرة عراقية كنت تهتز فوق ندف الغيوم، فلم تكن إلا غيمة جارحة (غيمة في بنطلون) كمايصف مايكوفسكي.. لأنك لا تكتب، بل تنقاد إلى رفة الذبح، لأنك تقول فلا يعود يفصل بين الأشياء سوى الدخان. إنك أفضل من (أكثر الكتاب).. وأعني بذلك صدق الحدس.. أعني سخونة الوجع الإنساني.. أعني أنك منصهر، والكتابة مفر إلى بعض الهدوء.. والكتابة صخرة.. والكتابة حافة سكين فلا تجرح نفسك. أعتقد أنك تستطيع، فكن أنت نفسك. وتستطيع.. فافعل. أعتقد أنني أقدر البدايات الملتهبة. بداية البرق. ليست الكتابة لغة فقط؛ ولا فكرة فقط. الكتابة قطعة من الجنون (( وأن تكتب معناه أن تتعلم كيف تسلخ جلدك بهدوء)) كما يقول يسينين. خطوات مباركة.. سأرى منك المزيد"*. حسن مطلك 6/3/1987 ما زالت تلك الشهادة، والتي تتسع لكل قواعد الكتابة وشروطها نهجاً لي منذ رحيل المبدع العراقي الكبير حسن مطلك مشنوقاً من قبل نظام الحكم لمحاولته قلب (نظام الكون) كما يقول أحدهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *رسالة حول الكتابة من المبدع العراقي الراحل حسن مطلك إلى صديقه وتلميذه حسين محمد العنكود تنشر لأول مرة. |