شاعر المليون والزج السياسي ناقوس خطر فراس عمر حج محمد/فلسطين حرصت على مدى ثلاث سنوات أن أتابع برنامج شاعر المليون بدءاً من جولات البحث عن الشعراء وحتى الحلقة الأخيرة، وقد تأكد لي أنا العربي القابع في بلاد الموت والنار أنه برنامج ثقافي ممتع، وأنه المشروع القابض على جمرة الإبداع الحقيقية في تمسكه بكل ما هو جدي ونافع، وكرس نفسه ليكون برنامجا ساميا في أهدافه، منافسا، ليس للبرامج الثقافية فقط، وإنما منافس لبرامج الشهوة والإثارة الغريزية التي أضحت تغزو عالمنا العربي كالوباء السرطاني القاتل. وقد اجتذب هذا البرنامج ملايين المشاهدين والمتابعين في العالم العربي، ولعله تخطى الحدود العربية إلى فضاءات عالمية بحكم تقنيات الفضاء المفتوح، وقد أثر هذا البرنامج في الحياة الثقافية الخليجية والعربية، وكشف عن مكامن الإبداع عند من شارك فيه أو عند من شاهده، فأصبح أمل الشعراء، ومهوى أفئدة النقاد، لدرجة أن أحد الشعراء المشاركين قد اختصر دور هذا البرنامج في دعم من شارك فيه بالقول: إن ظهور الشاعر لمدة (5) دقائق في هذا البرنامج تغني عن عشرين سنة فيما سواه، ولعله في نظر هؤلاء أهم وسيلة وأفضلها وتغني صاحبها من الركض خلف غبار النشر الورقي، تلك القضية التي تؤرق كل ذي يراع، باختصار لقد عُدّ البرنامج برنامجا جماهيريا بامتياز. لقد حرص الشعراء المشاركون في هذا البرنامج في الموسمين الأول والثاني أن تتحدث نصوصهم المقدمة عن موضوعات لها أبعاد قبلية وذاتية أو شعرية صرفة، لتأكيد شاعرية هؤلاء الشعراء الذين كان قسم كبير منهم مغمورا محروما من النشر والظهور الإعلامي، وقليلا ما خرج الشعراء إلى موضوعات اجتماعية وسياسية، فكان الهم الطاغي عند كل واحد منهم كيف يقدم شعره للجمهور المتابع، وكيف يؤثر "قبليا" في المتلقين، ليضمن كما مهولا وهائلا من التصويت لضمان استمرارية مشاركته حتى مراحل متقدمة، لعله يفوز بلقب "شاعر المليون"، ويحتضن بيرق الشعر، ولم تكن الجائزة المادية "المليون درهم" في الموسمين الأوليين و(5) مليون درهم في الموسم الثالث هي المطمح والغاية. ولكن المثير حقا، والذي يجعل المرء يتساءل كثيرا باستغراب شديد هذا التحول في موضوعات شعراء شاعر المليون، وخاصة في المرحلة الثانية من البرنامج، وهي المرحلة التي تضم (24) شاعرا، والتعليق النقدي الفكري المقحم أحيانا على مواقف وقضايا سياسية غاية في التعقيد وشديدة الحساسية، وذلك كله بلغة صريحة لا مواربة فيها ولا تورية، بل تجنح أحيانا إلى الحديث الفج وغير مدروس التبعات والنتائج، فهل كان ذلك مقصودا لجلب الانتباه وكسب شهرة مجانية وسريعة؟ لقد بدا شيء من ذلك في تصريح الناقد الكويتي بدر الصفوق عندما توقع في أحد أحاديثه الصحفية أن تهاجمه حماس أو يتعرض له حزب الله، ولكن يبدو أنه في واد وهم في واد آخر لا يلتفتون لمثل هذه الترهات!! وأول هذه القضايا التي زج بها البرنامج نفسه قضية المرأة، تلك القضية الاجتماعية ذات الأبعاد السياسية والفكرية، وتعد قضية المرأة قضية شائعة التناول في بلادنا العربية منذ عهد ما عُرف ببدايات النهضة العربية، وتعدد طرحها في سياقات اجتماعية وتاريخية وثقافية ملتبسة وشائكة، واتخذ الحديث عنها الطابع البحثي الأكاديمي، حتى أصبحت هَمّ من لا هَمّ له!! ولطبيعة البرنامج وطبيعة الشعراء المشاركين فيه، وجزء كبير منهم من السعودية، ومعروف ما هي السعودية، وما تلك القوانين التي تخص المرأة فيها. وهي بطبيعة الحال مختلفة كل الاختلاف عن البلدان العربية خليجية وغير خليجية. لكل ذلك فإن الهدف من العبث بهذا الموضوع في هذا البرنامج الجماهيري الكبير بالشكل الذي رأيناه، هو صياغة الفكرة الأكاديمية البحثية المتعلقة بالمرأة صياغة جماهيرية لتأخذ مفعولها في الجماهير، وليكون تلقيها بسيطا، ولذا فإن البرنامج يختار لهذه المهمة أصواتا شعرية مناسبة للتعبير عن هذه القضية، فتأتي لجنة التحكيم وتثني على الموضوع، "وأن الناس بحاجة إلى هذه الموضوعات، ويكفينا ما سمعنا من أشعار في المسابقة والشعر والتركيز على القبيلة"، والأدهى من ذلك أن البرنامج قد خطا خطوات أوسع عندما أوصلت لجنة التحكيم بشكل أو بآخر الشاعرة السعودية "عيدة الجهني" إلى الدور النهائي في التصفية على لقب شاعر المليون، لعلها تضيف تاء التأنيث لهذا اللقب، كما جاء على لسانها في إحدى المقابلات. إنهم يقدمون نموذجا عمليا بهذا الاختيار، وهذا واضح من خلال تأهلها من قبل لجنة التحكيم وعدم خضوعها للتصويت، ومهد د. غسان الحسن لهذا التأهيل بقوله في نقده القصيدة: "إن القصيدة تحتاج إلى نصف ساعة من كل عضو من أعضاء اللجنة، إذا أردنا أن نعطي القصيدة حقها"، هذا الحكم المبالغ فيه قد تعرض للنقد من قبل بعض النقاد الذين رأوا في القصيدة نصا عاديا، بل إن تأويلات د. الحسن للقصيدة قد تعرضت للنقد وأنها ليست في محلها. واللافت للنظر كذلك أن شعراء المليون كثيرا ما تناولوا قضايا سياسية شائكة ومعقدة، فقد تناول الشعراء علاقة العرب بإيران، والدور الإيراني في السيطرة على المنطقة، واستغلت حادثة إدعاء إيران تابعية البحرين لها، واعتبارها الولاية الرابعة عشرة للجمهورية الإسلامية، كما تطرق الشعراء إلى احتلال إيران للجزر الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى)، وتحدثوا عن المد الشيعي الإيراني وتدخل إيران في شؤون العرب، وسار مع هذا التيار بعض أعضاء لجنة التحكيم راجعا إلى التاريخ الصفوي والمجوسي، وتعرض الشعراء كذلك إلى الأحداث السياسية التي حدثت مؤخرا، وخاصة أحداث غزة، زاجين النقادُ أنفسهم في أتون الصراعات العربية – العربية، مؤيدين وجهات نظر دولهم، منحازين غير موضوعيين. إن حديث الشعراء عن تلك الموضوعات السياسية كان حديثا عاديا مباشراً، ولم يأتوا بجديد، حتى لم يعرضوا الحدث السياسي كموقف نابع من الذات، بل كانت قصائدهم مرتعا خصبا للجنة التحكيم لوصف تلك الأشعار بالمباشرة والابتعاد عن الشاعرية، وفي أحسن الأحوال "الصدق في الطرح ومراعاة الجمهور". وهذا يشير إلى أن تلك الموضوعات السياسية لم تتفاعل مع نفوس الشعراء ووجدانهم، ولم ينطلق الحديث فيها من تجربة شخصية أو حتى إحساس الناس بتلك القضايا، وكل ما فعلوه هو إعادة ما أنتجته الآلة الإعلامية الموجهة لا أكثر ولا أقل؛ فآراء الشعراء وأعضاء اللجنة في إيران هو نفسه بعباراته وتعبيراته وتراكيبه ما تسمعه في الإعلام السعودي أو الإماراتي أو المصري.... أما الحديث عن مواقف الدول العربية من الحرب على غزة هو نفسه ما تسمعه من الإعلام العربي عن دور مصر الحريص على الأمة ودور السعودية المفضي إلى العدالة والحكمة في التصرف إلى حد اتهام بعض الحركات الإسلامية والتشكيك في دورها، كما جاء في قصيدة فهد الشهراني في انتقاده حركة حماس، وينفي في تلك القصيدة إدعاء حماس النصر في الحرب الأخيرة على غزة، فكيف يكون النصر، وقد خلفت الحرب آلافا من القتلى؟!. والقضية السياسية الأخرى التي توقف عندها شعراء برنامج شاعر المليون قضية ما يعرف بالإرهاب، وكل ما قالوه كذلك لم يخرج عن أن يكون إعادة أفكار جاهزة ومعروفة ومكرورة، ومل الناس سماعها في الإعلام، فيأتي هذا البرنامج الجماهيري ليقدمها بثوب شعري احتفالي لعل وعسى أن يتقبل الناس الفكرة وتنطلي عليهم الحيلة. ويلاحظ أن من تحدث عن هذا الموضوع هم شعراء السعودية، وكأن هؤلاء الشعراء يدافعون عن مواقف النظام السعودي في دعم جهود أمريكا في حربها ضد ما يسميهم الإعلام الإرهابيين في العراق وأفغانستان، وهم بذلك يقدمون شهادات حسن سلوك للنظام السعودي في التبرؤ من القاعدة ذات الأصول السعودية، في حين غاب الانتصار للقضايا السياسية الكبرى للأمة، وتلهى الشعراء بذم الإرهابيين والدفاع الممجوج الساذج عن الدين وإجلاء صورته الناصعة النقية التي أرادوا تسويقها بأنها صورة دين إنساني، يتحلى بقيم التسامح والبناء والعطاء، وليس دين قتل وتدمير، وقد تطاول الشعراء بغير حق على تلك التيارات، وجردوها من كل قيمة دينية وخلقية ونزعوا عن قادتها عباءة الطهر، وامتنع الشعراء عن جرح مشاعر الإرهاب اليهودي أو الأمريكي، وكأن البرنامج معني بتغيير القناعات وقلب الصورة!! ومن حقي هنا أن أتساءل- وأنا أحد المشاهدين المنتمين إلى هذه الأمة- لماذا كل هذا التردي الثقافي المحزن، والتسييس الشعري الساذج؟ وقد عاب الشعراء على من يسيس الدين(وهي تهمة خطيرة)، ولم يعيبوا على أنفسهم أنهم يساهمون من حيث لا يعون بصناعة رأي عام مدمر له خطر كبير على المنطقة؛ فالناس المعبئة ضد إيران أو ضد حماس أو ضد التيارات المسماة إرهابية، لا يسهم هذا بإيجاد علاقات طبيعية بين أبناء الأمة الإسلامية، سواء أكانوا سنة وهابيين سعوديين، أم شيعة زيديين أو جعفريين إيرانيين، فكلنا أبناء منطقة واحدة، يجمعنا مصير واحد وتراث واحد ودين واحد، ولنا عدو واحد مشترك. فليس من اللائق أن يساهم البرنامج في زعزعة الاطمئنان الاجتماعي لدى أفراد هذه الشعوب، فبدلا من زيادة الوعي على الوحدة وتكريسها بمفاهيم فكرية عند الجماهير، أعاد الشعراء ولجنة التحكيم سياسات عربية فاشلة تكرس الاحتلال والتجزئة، وتزيد من الهوة النفسية بين جماهير الأمة، لاسيما في منطقة الخليج العربي. والشيء نفسه يقال عن قضية الإرهاب المطروحة في أشعار الشعراء، وتحامل بعض أعضاء اللجنة على بعض الحركات الإسلامية في المنطقة، ليدلُّ أن للبرنامج أهدافا غير معلنة، أو أن البرنامج أخذ يبعد عن أهدافه الثقافية إلى أهداف سياسية مرسومة له، وهو ينفذ سيناريو عقيم الإعداد وسيء الإخراج. والمحزن حقا أن قضية الإرهاب تطرح قضية فكرية وسياسية واجتماعية من منظور غربي، والأدهى من ذلك أن منطقة الخليج العربي وخاصة دولة الإمارات ليس لها علاقة مباشرة وغير مباشرة مع الإرهاب، فليس هناك تفجير أو قتل أو زعزعة في النظام، وليس هناك ما يهدد أمن المجتمعات الخليجية بشكل عام، كما يدعي الشعراء، إلا إذا كانوا يقصدون مناطق أخرى، وهم بالطبع كذلك، فلماذا تطرح هذه الفكرة في مجتمعات لا تعاني أصلا من الإرهاب؟ أم أن المقصود من الطرح هو نيل شعراء السعودية-وهم أكثر من تحدث عن القضية- جواز مرور للظهور في الإعلام!! لقد أحسن الشعراء صنعا، ولجنة التحكيم قيادة أنهم لم يستمروا في الانحدار نحو الطامة الكبرى، فانقطع الحديث السياسي في البرنامج في الحلقتين الأخيرة وما قبل الأخيرة ليعيد البرنامج سيرته الأولى ليظل الأول في عقول الجماهير ووجدانها، فلو استمر الأمر على تلك الصورة القاتمة المريرة، لأنذرت بشر عظيم، عندها ستكون أسرة شاعر المليون مسؤولة عن إحداث الطوفان، باستعداء الآخرين، فليس هناك شيء أسهل من صناعة الأعداء، فبدلا من ذلك كله كان الأجدى الحرص على صداقة الأصدقاء، وكسب ود الناس المحايدين، ومد جسور من التفاهم مع هؤلاء الأعداء- إن كانوا هم أعداء فعلا- إنها أوهام النظام السياسي العربي الفاشل، والكل يعيد تصوراته ومخططاته التدميرية. فحذار من الزج في عالم سياسي شائك عواقبه غير محمودة، يدق ناقوس الخطر. |