انضَرَبَ أبو النبّوت بالْمِذْرَاة والشّلّوت ما زال يتباهى بقوته البدنية وجسمه المِجْشَب وطول قامته وخنجره المثبت على حزام يشدّ به خاصرته ، ونبوته الطويل ، لسنين عدّة ، وذاع صيته في القرى المجاورة خاصة بعد أن بالغوا في الحديث عن شجاعته وقوّته وصارت سيرته تروى على كل لسان ، حيث إنه تصارع مع الضَبْع المُرْعب الذي يصول ويجول عند الحقول وبين البيوت دون رادع فصرعه ، جثم على صدره دون أن يستعمل أيّ سلاح من أسلحته وبقبضتيه القويتين ظلّ ممسكا بخُنّاقه حتى فارق الحياة ، ضرب الحصان ضربة واحدة بقبضة يده فأرداه قتيلا ، كان يضع حبّات القمح الجافة بين كفيه فتصبح دقيقا ، انخلع الخوف من قلبه حيث دقّ وتدا في المقبرة في منتصف ليل غير مقمر .. لذلك لم يعد أحد يجرؤ من القرية أو القرى المجاورة على الوقوف أمامه أو اعتراضه ، وصار أهل القرية يتقربون منه محبّة في شجاعته وخوفا من رهبته ، لكن القوة والشهرة أعمت عيْنَيّ أبي نبوت عن رؤية محبيه من ذويه ومن الناس ، جمّع حواليه عصابة من الشباب الذين يحاولون تقمّص شخصيته ، فألبسهم لباسه وحمّل كل واحد منهم خنجرا ونبوتا وصار يتزعمهم في الشرّ والإجرام ، وبهم زادت شوكته فصار السيّد المطاع المرهوب الجانب يبطش ويقتل .. وأول ما عضّ بأنيابه الزرقاء إلاّ أهل قريته، ذويه وجيرانه ، صار يأخذ من حصيلة زروعهم ما يشاء (خاوة ) عنوة ، وكل من يتضجر يلاقي أسوأ مصير من ضرب أو تكسير ،وكانت عبارته المشهورة:( يا شباب ... عليه بالنبوت ، كسّروه حطموه .. أوصلوه للموت ) يقولها بصوته الخشن ، فصاريصول ويجول في القرية كيفما يشاء والكل ساكت خانع تفاديا لشره ، وابتعادا عن عنفه وأذاه.. ومثلهم القائل : ( البعد عن الشرّ غنيمة ) .. أغدق أبو نبوت على جماعته فأخلصوا له ..وتفانوا في خدمته.. أبو نبوت لم يكتف بقريته ، أراد أن يلحق صيته أينما حلّ ، حيث فشا الصيت وانتشر في القرى المجاورة وليشبع نهمه الذي لا يشبع ، بعث رجاله إلى القرية المجاورة ليأخذوا من محاصيلهم كل عام ( خاوة) كما فعل في قريته ، رجاله البواسل يدورون على كل بيت ، فيدفع الفلاّحون لهم من أقواتهم رهبة من سطوتهم وخوفا من أبي نبوت على عيالهم ... كان في هذه القرية رجل غني عنده أموال وأراض وعقارات يدعى (الشيخ محمد ) عُرِفَ عنه الكرم والشهامة والنخوة وعلوّ الهمّة ، فكان يلتفّ حوله بعضا من أهل القرية خدمة له أو أجيرا في أرضه .. رفض الشيخ محمد أن يدفع أي شيء لأبي نبوت.. نقل جماعة أبي نبوت الخبر ، فغضب زعيمهم غضبا لا يساويه غضب، ثار ورأغى وأزبد ، وصار يشتم ويلعن الشيخ الذي كَسَر هيبته ورفض أمره ، وهدد بهدم منزله ، فزاد من رجاله وصار يهدد ويتوعد .. وصل الخبر إلى (الشيخ محمد) فدخل بيته وهو في ضيق شديد ، رأته ابنته وهو على تلك الحالة .. فقالت له : هوّن عليك يا أبتي إن الأمر هيّن لايستحق هذا الغضب ( تريد أن تخفف عن والدها ، لأنها تعرف مقدار الأسى والحزن الذي لحق أبيها من هوان وذلّ وخوف من جرّاء الشتم والتحقير والتهديد).. فقال لها : إن أبا نبوت شتمني وحقّرني وهدد وتوعد وهو ينفذ بما تعهّد!!.. كانت البنت صاحبة رأي ومشورة ، والدها يستشيرها في كثيرمن أمره .. وحتى أهل القرية يعرفون عنها رجاحة عقلها ووقارها وعفّتها وعطر سيرتها.. قالت :ادعو القرية جميعا إلى وليمة يا أبت .. ولا تسألني عن السبب !!. بعث الشيخ محمد خدمه إلى أهل القرية وصاروا يدورون في شوارعها وأزقتها وينادون بأعلى أصواتهم : يأهل القرية أنتم اليوم مدعوون إلى وليمة الشيخ محمد ... وأهل القرية يحبون دعوته لكرمه وحسن ضيافته .. فذبح الذبائح وجهز القدور وأعدّ الخدم الحطب وأشعلوا النيران.. أخذت وفود القرية تتوالى إلى باحة البيت الواسع المفروشة والمعدة لاستقبالهم ، اكتمل الناس وأخذ كلّ واحد مكانه ينتظرون قدوم الأكل .. وإلاّ بابنة الشيخ صاحب الكرم تدخل عليهم واضعة على رأسها خُِوانا كبيرا مكتنزا باللحم والثريد ، ممسكة به بيديها الاثنتين .. وعندما توسطت الجمع أنزلت يدها اليمنى وأمسكت بطرف ثوبها وكشفت عن ساقها .. فصاح الحضور : ( اسدلي الثوب يابنة الشيخ ..هذا عيب وعار) ؟!! .. أجابت البنت : (البنت لاتخجل من البنات.. ولو كان في هذه القرية رجال.. لما شُتِم شيخكم ابن قريتكم ، وصار حالكم هذا الحال !!!.. والشيخ الذي حوله رجال شجعان لايُذَلّ ولا يُهان)!!!.. دبّت الحمية في نفوس الرجال... وقالوا : (إننا رجال أبناء رجال ، وشرف الشيخ شرفنا يابنة شيخ قريتنا !!..) وحق أبيك في رقابنا قالها (سلمان) وهو معروف بشهامته ورجولته .... أسدلت البنت ثوبها ووضعت الخُِوان أمام سلمان.. ثم أمرت الخدم بتقديم الزاد لكلّ الضيوف .. في تلك اللحظة كان مقدم أبو نبوت و زمرته والشرر يتطاير من عينيه متوجها صوب بيت الشيخ محمد ، وقال بصوته الأجش : ( يا شباب .. على الشيخ بالنبوت .. كسّروه حطموه .. أوصلوه لدرجة ما بعد الموت واهدموا على رأسه وأسرته البيت)، فتقدموا كالأسود يزأرون ، فتلقاهم أهل القرية عن بكرة أبيهم وهجموا على عليهم هجمة رجل واحد ، وكلّ واحد منهم ممسكا بفأس أو نبوت أو مذراة أو خنجر . وأبو نبوت يتقدم بخطى ثابتة نحو الشيخ محمد كالجمل الهائج ، يرغي ويزبّد ، وينفث الشرّ من كل جانب ، يريد الإجهاز عليه ، والشرر يتطاير من عينيه، وإلاّ بسلمان ــ لا يعرف كيف جاءته هذه القوة ؟!! ــ اعترض طريقه وفي لمح البصر انتزع منه النبوت ورماه بعيدا ، ولم يشعر الرّجل إلاّ وهو يسقط على الأرض ، وقد طارت غترته (حطّته) وعقاله وجثم الشاب على صدره يضربه بقوة على وجهه ورأسه ويقول : حقّ الشيخ في رقبتي .. والرجل يصيح به مهددا إياه بالقتل لكنّه لم يتمكن من إفلات نفسه رغم قوته البدنية وضخامة جسمه ، لما رأت العِصابة ما حلّ بسيّدهم وزعيمهم ولوا الأدبار ولاذوا بالفرار ، تاركين أبا نبوت وحيدا يلاقي مصيره تحت وطئ الأقدام ، والرّكل بالأرجل والضّرب بالمذراة والنّبوت ، وأهل القرية استفردوا به ، فأخذوا يدورون حوله وهو يتقلّب ويتوجّع ، فقسم منهم يغني ويقول : (انضرب أبو النّبوت .... بـالمذْراة و (الشّلوت)) ، والآخرون يردّون : (سجّل .. سجّل .. يا زمن )... ثم ربطوه وأركبوه حمارا ليوصله إلى قريته ، والذي زاد الطَين بلّة خروج الناس من البيوت عندما استطار خبر أبي نبوت بينهم ليروا بعيونهم كيف تحاقر وتمرّغ أنفه بالتراب!!!.. فاستقبلته النسوة بالزغاريد ، والبِشر يعلو الوجوه ، وأهل قريته يقولون : وانضَرَبَ أبو النبّوت بالْمِذْرَاة والشّلّوت .. سارت معه الزفّة حتى أوصله الحمار إلى بيته وهو مطأطئ الرأس خائب ، فاستقبلته زوجته الوفيّة بحزن شديد ، لأنها كانت تصول وتجول بسيف زوجها في القرية ،، ومن بعدها لم تقم لأبي نبوت وزوجته أيّ قائمة .. أما الشيخ محمد فقد التفّ حوله الشباب فأكرمهم وجنّدهم للحفاظ على قريته ، وصار يعتمد عليهم في تصريف أعماله ، وجعل سلمان قائدا لهم وآمرهم .. وبسط الأمن والأمان ، وحافظ على مصالحهم وممتلكاتهم .. فازداد نفوذه إلى قرية أبي نبوت وما بعدها .. حتى أصبح يحكم منطقة الجبل بأكمله .. أبو هشام |