الرافعي وابن المقفع كن أول من يقيّم
ذكر مصطفى صادق الرافعي في " إعجاز القرءان والبلاغة النبوية " ما يلي : وابن المقفع الكاتب البليغ المشهور زعموا أنّه اشتغل بمعارضة القرآن مدة ثمّ مزّق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره(1) . وهذا عندنا إنمّا هو تصحيح من بعض العلماء لما تزعمه الملحدة من أنّ كتاب الدرة اليتيمة (2) لابن المقفع هو في معارضة القرآن فكأنّ الكذب لا يدفع إلاّ بالكذب . وإذا قال هؤلاء إنّ الرجل قد عارض وأظهر كلامه ثقة منه بقوّته وفصاحته ، وإنّه في ذلك من القرآن وطبقته وابن المقفع هو من هو في هذا الأمر، قال أولئك : بل عارض ومزّق واستحيا لنفسه.... أما نحن فنقول إنّ الروايتين مكذوبتان جميعاً وإنّ ابن المقفع من أبصر الناس باستحالة المعارضة لا لشيء من الأشياء إلاّ لأنّه من أبلغ الناس . وإذا قيل لك إن فلاناً يزعم إمكان المعارضة ويحتجّ لذلك وينازع فيه فاعلم أنّ فلاناً هذا في الصناعة أحد رجلين اثنين : إما جاهل يصدق في نفسه وإما عالم يكذب على الناس ولن يكون فلان ثالث ثلاثة . وإنمّا نسبت المعارضة لابن المقفع دون غيره من بلغاء الناس لأنّ فتنة الفرق الملحدة إنمّا كانت بعده وكان البلغاء كافّة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه ، ثمّ كان ابن المقفع متّهماً عند الناس في دينه فدفع بعضُ ذلك إلى بعض ، وتهيأت النسبة من الجملة . ولو كانت الزندقة فاشية أيام عبد الحميد الكاتب وكان متّهماً بها لما أخلته إحدى الروايات من زعم المعارضة لا لأنّه زنديق ، ولكن لأنّه بليغ يصلح دليلاً للزنادقة (3)... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش من نص الرافعي : (1) يتناقل المصنفون في كتب البلاغة من المتأخرين بعد القرن الخامس عبارة غفل عنها من قبلهم.. وهي أن ابن المقفع لما عارض القرآن ووصل على قوله تعالى " وقيل يا ارض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقُضي المر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين " قال هذا ما لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله وترك المعارضة ومزق ما كان اختلقه . وهذه الآية في سورة نوح فكأن ابن المقفع عارض السور الطوال حتى انتهى إليها وهو شيء لم يزعمه الملحدة أنفسهم إذ قالوا إن المعارضة كانت بالدرة اليتيمة وهي أوراق قليلة . ولهذا رأينا أهل التدقيق إذا ساقوا الخبر في كتبهم قالوا إن ابن المقفع سمع صبيا يقرأ الآية فترك المعارضة. وذهب عن هؤلاء المدققين أن مثل ذلك البليغ لا يأخذ في معارضة القرآن إلا وقد قرأه وتأمله ومر بهذه الآية فيه ووقف عندها متحيرا فليس يحتاج على صبي يسمعها منه ليترك ما اخذ فيه إن كان إبطال المعارضة موقوفا على سماع هذه الآية . (2) طبع هذا الكتاب مرارا وهو من الرسائل الممتعة يعد طبقة من طبقات البلاغة العربية ولكنه في المعارضة ليس هناك لا قصدا ولا مقاربة ونحن لا نرى فيه شيئا لا يمكن ان يؤتى بأحسن منه وما كل ممتع ممتنع . وقال الباقلاني إنه منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة . (3) من أعجب ما رأيناه أن بعضهم اتهم ابن سينا بمعارضة القرآن لأنه زنديق وان ابن سينا وضع رسالة في دفع هذا الافتراء . وأين ابن سينا من طور سيناء؟! هذا رجل وهذا جبل... |