لكنّها اليوم أشرقتْ.
أمشي مبتسمة. يأخذني الدفء إلى مكان بعيد. أصبح في قلب المخيّم. أسير بمحاذاة عيادة «الأنروا» في تلك الطريق الطويلة الضيقة الموحلة، صيفاً شتاءً. ترتفع ضجة الشارع تدريجياً. عمّا قريب سألمح مجموعة من تلامذة المدارس بزيّهم الرمادي، وسأدخل غرفة صفّ باردة الجدران، لأعطيهم درساً في الرسم، قبل أن يخرجوا راكضين وراء عربة بائع الترمس. ستتصلين بي لاحقا لتتذمّري: «ليش مسكرة تلفونك؟». وكالعادة، سأبرر بسوء حال الشبكة في المكان.
الشمس مشرقة هذا اليوم يا أمي، والمسير في المخيّم ينتهي عند ضفاف نهر التايمز. كلما رأيته أتذكرك. لو انك كنت هنا، كنت ستسألينني عن طوله وعن عدد المدن التي يمر بها. لطالما أمتعني شغفك الدائم بأسئلة كتلك، كما لو كانت حياتك كلها حصة جغرافيا لطالبات الصف الثامن. كيف كان عيد المعلّم هذا العام؟ هل حصلت على «حديقة من الأزهار» كالعادة؟
لو ترين كيف تجتاح أزهار النرجس الصفراء المدينة. تظهر فجأة بكثرة في هذا الوقت من السنة. تنفجر من قلب العدم وترمق المارة بغرور غريب، موازنة بشدة اصفرارها شحوب الشمس. أظنهم يكثرون من محالّ بيع الأزهار في لندن ليلوّنوا مدينتهم العجوز.
يوشك النهار أن ينتهي. سأصف لك قبل أن ينحسر الضوء ما أراه وأنا أكتب لك هذه الكلمات. أمام غرفتي يا أمي مشهد مألوف جداً. غسيل منشور على طول الشرفة تجاوره أوعية تحوي نباتا جميلاً وحشي النمو. حمام يحطّ فجأة أمام نافذتي ويطيل التأمّل. كومة تراب في باحة مبنى في طور البناء يقصدها الأطفال ليلعبوا. لم أرهم منذ أن ذابت ثلوج كانون الثاني. (أفكّر أن أطفالنا يصادقون التراب). الأمر الوحيد غير المألوف في المشهد هو هدير القطار. لكل مدينة أصواتها. أتعلمين؟ هذا الصباح خيّل لي يا أمي أنني سمعت صوت المؤذّن.
حسناً، دعيني أخبرك قصة صغيرة: في إحدى الشرفات حبل غسيل يحمل أسبوعياً خمسة أزواج من الجوارب السوداء، كل جورب منها معلّق على حدة. كنت أظن أن عازباً ما يقطن تلك الشقة، إلى أن رأيتها ذات اليوم. امرأة ستينيّة ممتلئة ثقيلة الخطو، خرجت مرّة لتعلّق مجموعتها الكئيبة على الحبل. لكنها، وكأنما قرأت أفكاري، أضافت زوجا زهري اللون إلى المجموعة وعلّقته معزولا عن رفاقه.
غداً تخرج تلك العجوز إلى شرفتها لترفع مجموعة جواربها القصيرة عن حبل الغسيل. ستضع زوجاً منها، الزهري على الأرجح، وتخرج لنزهة ربيعية. أعلم أن آلام ظهرك تحرمك متعة التنزّه. لا بد أنّك اشتقت لرحلة «البقله» والتنقّل بين الخبّيزة والزعتر الأخضر، لكن لي عندك رجاء بأن لا تحرمي نفسك شمس آذار ولو كانت بمقدار زيارة الشرفة لرشف فنجان قهوة.
أمي، اعذريني على غيابي هذا العام. ثمة باقة ورد في الطريق إليك. ولعلها وصلتك قبل رسالتي هذه.
أحبك.
(لندن)