لقد سأل أبو ذر ، رضي الله عنه، سيدنا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أن يوليه إمارة ، فأجابه ، عليه الصلاة والسلام : " ياأبا ذر إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خِزيٌ ونَدامة ، إلا مَن أخذها بحقها ، وأدّى الذي عليها فيها " . وقد رُوي عنه ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " مَن ولِيَ من أمر المسلمين شيئاً فأمَّرَ عليهم أحداً ؛ مُحاباةً ، فعليه لعنة الله " . ورَوى الحسن بن علي ، عليهما السلام ، ورضي الله عنهما ، أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال : " ما ولّتْ أمةٌ رجلاً وفيهم مَن هو أعلمُ منه إلا لم يزَلْ يذهبُ أمرُهم سفالاً حتى يَرجِعوا إلى ماتركوه " . قال تعالى : " إنّ خير مَن استأجرتَ القويُّ الأمين " ، وقال ، سبحانه ، على لسان سيدنا يوسف ، عليه السلام : " اِجعلْني على خزائن الأرض إني حفيظٌ عليم " . الأمانة " لما بيّن تعالى في هذه السورة من الأحكام ما بيّن، أمر بالتزام أوامره. والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور. روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله: حدّثنا إسماعيل بن نصر عن صالح بن عبد الله عن محمد بن يزيد بن جوهر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى لآدم يا آدم إني عرضت الأمانة على السموات والأرض فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها فقال وما فيها يا رب قال إن حملتها أُجِرت وإن ضيّعتها عُذّبت فاحتملها بما فيها فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر حتى أخرجه الشيطان منها " فالأمانة هي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد. وقد اختلف في تفاصيل بعضها على أقوال؛ فقال ابن مسعود: هي في أمانات الأموال كالودائع وغيرها. وروي عنه أنها في كل الفرائض، وأشدّها أمانة المال. وقال أُبَيّ بن كَعْب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، وأن الله تعالى لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها. وفي حديث مرفوع: " الأمانة الصلاة " إن شئت قلت قد صلّيت وإن شئت قلت لم أصلّ. وكذلك الصيام وغسل الجنابة. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أوّل ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه وقال هذه أمانة استودعتكها، فلا تلبسها إلا بحق. فإن حفظتها حفظتك، فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له. وقال السدّي هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده وأهله، وخيانته إياه في قتل أخيه. وذلك أن الله تعالى قال له: «يا آدم، هل تعلم أن لي بيتاً في الأرض» قال: «اللهم لا» قال: «فإن لي بيتاً بمكة فٱئته، فقال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة؟ فأبت، وقال للأرض: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للجبال كذلك فأبت. فقال لقابيل: احفظ ولدي بالأمانة، فقال نعم، تذهب وترجع فتجد ولدك كما يسرك. فرجع فوجده قد قتل أخاه، فذلك قوله تبارك وتعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } الآية. وروى معمر عن الحسن أن الأمانة عُرضت على السموات والأرض والجبال، قالت: وما فيها؟ قيل لها: إن أحسنتِ جوزيتِ وإن أسأتِ عوقبتِ. فقالت لا. قال مجاهد: فلما خلق الله تعالى آدم عرضها عليه، قال: وما هي؟ قال: إن أحسنت أجرتك وإن أسأتَ عذّبتك. قال: فقد تحملتها يا رب. قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها إلى أن أُخرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر. وروى عليّ ابن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ } قال: الأمانة الفرائض، عرضها الله عز وجل على السموات والأرض والجبال، إن أدَّوْها أثابهم، وإن ضيّعوها عذّبهم. فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله عز وجل ألا يقوموا به. ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها. قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقيل: لما حضرت آدم صلى الله عليه وسلم الوفاة أمر أن يعرض الأمانة على الخلق، فعرضها فلم يقبلها إلا بنوه. وقيل: هذه الأمانة هي ما أودعه الله تعالى في السموات والأرض والجبال والخلق، من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها؛ قاله بعض المتكلمين. ومعنى «عَرَضْنَا» أظهرنا، كما تقول: عرضت الجارية على البيع. والمعنى إنا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } أي أن يحملن وزرها، كما قال جل وعز: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت: 13]. { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } قال الحسن: المراد الكافر والمنافق. { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً } لنفسه { جَهُولاً } بربّه. فيكون على هذا الجوابُ مجازاً، مثل: { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82]. وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب، أي أظهر لهن ذلك فلم يحملن وزرها، وأشفقت وقالت: لا أبتغي ثواباً ولا عقاباً، وكلٌّ يقول: هذا أمر لا نطيقه، ونحن لك سامعون ومطيعون فيما أمِرن به وسُخِّرن له، قاله الحسن وغيره. قال العلماء: معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلا بد من تقدير الحياة على القول الأخير. وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام. والعرض على الإنسان إلزام. وقال القفّال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مَثَل، أي أن السموات والأرض على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب، أي أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كُلِّفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عَقَل. وهذا كقوله: { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ } [الحشر: 21] ـ ثم قال: ـ { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ }. قال القفال: فإذا تقرّر في أنه تعالى يضرب الأمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل، وجب حمله عليه. وقال قوم: إن الآية من المجاز، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت، فعبرّ عن هذا المعنى بقوله: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ } الآية. وهذا كما تقول: عرضت الحِمل على البعير فأباه، وأنت تريد قايست قوته بثقل الحمل، فرأيت أنها تقصر عنه. وقيل: «عَرَضْنَا» بمعنى عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة، ورجحت الأمانة بثقلها عليها. وقيل: إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام. وذلك أن الله تعالى لما استخلفه على ذرّيته، وسلّطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والطير والوحش، وعهِد إليه عهداً أمره فيه ونهاه وحرّم وأحلّ، فقبله ولم يزل عاملاً به. فلما أن حضرته الوفاة سأل الله أن يعلِمه مَن يستخلف بعده، ويقلده من الأمانة ما تقلده، فأمره أن يعرض ذلك على السموات بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى، فأبَيْن أن يقبلنه شَفقاً من عذاب الله. ثم أمره أن يعرض ذلك على الأرض والجبال كلها فأبياه. ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فعرضه عليه فقبله بالشرط، ولم يَهَب منه ما تهيبت السموات والأرض والجبال. «إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً» لنفسه «جَهُولاً» بعاقبة ما تقلّد لربه. قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي: عجبت من هذا القائل من أين أتى بهذه القصة! فإن نظرنا إلى الآثار وجدناها بخلاف ما قال، وإن نظرنا إلى ظاهرها وجدناه بخلاف ما قال، وإن نظرنا إلى باطنه وجدناه بعيداً مما قال! وذلك أنه ردّد ذكر الأمانة ولم يذكر ما الأمانة، إلا أنه يومِىء في مقالته إلى أنه سلّطه على جميع ما في الأرض، وعهِد الله إليه عهداً فيه أمره ونهيه وحِلّه وحرامه، وزعم أنه أمره أن يعرض ذلك على السموات والأرض والجبال؛ فما تصنع السموات والأرض والجبال بالحلال والحرام؟ وما التسليط على الأنعام والطير والوحش! وكيف إذا عرضه على ولده فقبله في أعناق ذرّيته من بعده. وفي مبتدأ الخبر في التنزيل أنه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال حتى ظهر الإباء منهم، ثم ذكر أن الإنسان حملها، أي من قِبَل نفسه لاَ أنه حمِّل ذلك، فسماه «ظَلُوماً» أي لنفسه، «جَهُولاً» بما فيها. وأما الآثار التي هي بخلاف ما ذكر، فحدّثني أبي رحمه الله قال حدثنا الفيض بن الفضل الكوفي حدثنا السّرِيّ بن إسماعيل عن عامر الشّعبيّ عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: لما خلق الله الأمانة مثّلها صخرة، ثم وضعها حيث شاء، ثم دعا لها السموات والأرض والجبال ليحمِلْنها، وقال لهن: إنّ هذه «الأمانة»، ولها ثواب وعليها عقاب؛ قالوا: يا ربّ، لا طاقة لنا بها؛ وأقبل الإنسان من قَبْل أن يدعى فقال للسموات والأرض والجبال: ما وقوفكم؟ قالوا: دعانا ربنا أن نحمل هذه فأشفقن منها ولم نطقها؛ قال: فحركها بيده وقال: والله لو شئت أن أحملها لحملتها؛ فحملها حتى بلغ بها إلى ركبتيه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازْدَدْتُ؛ قالوا: دونك! فحملها حتى بلغ بها حِقْوَيه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازْدَدْتُ؛ قالوا: دونك، فحملها حتى وضعها على عاتقه، فلما أهوى ليضعها، قالوا: مكانك! إن هذه «الأمانة» ولها ثواب وعليها عقاب، وأمرنا ربنا أن نحملها فأشفقن منها، وحملتها أنت من غير أن تدعى لها، فهي في عنقك وفي أعناق ذرّيتك إلى يوم القيامة، إنك كنت ظلوماً جهولاً. وذكر أخباراً عن الصحابة والتابعين تقدم أكثرها. { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } أي التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه. وقال قتادة: للأمانة، جهول بقدر ما دخل فيه. وهذا تأويل ابن عباس وابن جُبير. وقال الحسن: جهول بربه. قال: ومعنى «حملها» خان فيها. وقال الزجاج: والآية في الكافر والمنافق والعصاة على قدرهم على هذا التأويل. وقال ابن عباس وأصحابه والضحاك وغيره: «الإنسان» آدم، تحمَّل الأمانة فما تمّ له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة. وعن ابن عباس أن الله تعالى قال له: أتحمل هذه الأمانة بما فيها. قال وما فيها؟ قال: إن أحسنتَ جُزِيت وإن أسأت عوقبت. قال: أنا أحملها بما فيها بين أذني وعاتقي. فقال الله تعالى له: إني سأعينك، قد جعلت لبصرك حجاباً فأغلقه عما لا يحلّ لك، ولفرجك لباساً فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك. وقال قوم: «الإنسان» النوع كله. وهذا حسن مع عموم الأمانة كما ذكرناه أوّلاً. وقال السدّي: الإنسان قابيل. فالله أعلم". المصدر : تفسير الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ). |