البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الجغرافية و الرحلات

 موضوع النقاش : البوابة الثامنة    قيّم
التقييم :
( من قبل 2 أعضاء )

رأي الوراق :

 زين الدين 
8 - مارس - 2009
البوابة الثامنة
خيري منصور
(القدس العربي ، 08 مارس 2009)
*******
هذه مقالة رائعة للأستاذ خيري منصور ، وددت أن أتقاسمها مع أحبائنا على الوراق ، على أمل تذييلها ببعض التعليقات ، مع إهداء خاص إلى الأستاذة ضياء خانم ...
*****




لم يعد الرّحالة المعاصر مؤهلاً كأسلافه للكشف عن مناطق مجهولة أو اجتراح طرق في غابات العالم، حتى لو مكث أياما أو أسابيع في المحيط المتجمد الشمالي، وما أعنيه بالبوابة الثامنة هو الإضافة إلى بوابات العالم السبع، أو ما اعتقد الناس أنها كذلك، تناغما مع الرقم سبعة الذي اقترن في الميثولوجيات بقداسة خاصة. إننا جميعا نسافر، ونقطع محيطات وفضاءات خلال بضع ساعات، فنشعر بأننا لا نسافر لأن كل ما نمر به في الطائرة هو السحاب والفراغ وإذا كانت الرحلة عبر البحر فلا شيء غير الماء وكائناته التي تطفو أحيانا لتعلن عن مملكتها الزرقاء!
ومن رحل ذات يوم على حصان أو قارب شراعي عرف ما لم نعرف، لهذا كان متاحا له الوصف ولو أفقيا. حتى الرّحالة الأوروبيون الأوائل، جاؤوا إلى الشرق بحثا عن مجهول أو استجابة لنداء غامض ساهمت فيه قراءات استشراقية، وقد يكون ما كتبه 'هيرمان هيسه' في رحلة إلى الشرق خلاصة للأسباب الأربعة التي جعلت الغرب يتجه شرقا، فثمة من لدغته شهوة المغامرة، ومن أرسله أباطرة وملوك ومن جاء يبحث عن سحر لم يتحقق بعالمه الرتيب وإن كان هناك من رحالة من الغرب أمثال 'غوته' الذي رحل بعقله وخياله أولا و 'جيرار دي نيرفال' و 'إدوارد لين' و 'شاتوبريان' وغيرهم استطاعوا ان يشحنو رؤاهم بهذا الرافد السّحري، رغم أن بعضهم ابتكر من خياله وقائع تلبي قراءاته مثلما فعل الروائي ' فلوبير' عندما زار مصر..
وحين نرى نحن العرب أن الرحّالة الغربيين جاؤوا مدفوعين بهواجس تتخطى الذاتي، نتناسى أن الحضارات كلها عندما تفيض عن حدودها وتتمدّد تفعل الشيء ذاته، وإلا لن يكون هناك من معنى لرحلة 'ابن فضلان' مثلا أو 'السيرافي'. إن السّفر بحد ذاته خروج عن المألوف والرّتيب، ورغم تعدد أهدافه إلا أن المغامرة بحد ذاتها تبقى مثيرة، وإن كان هناك من يسافرون إلى العالم كله شرقا وغربا وهم ماكثون حيث هم، سواء في أجسادهم أو الأمكنة التي غادروها، لأنهم يصطحبون معهم كل ما عرفوا وألفوا من قبل، ويخافون الجديد لأنه يخلخل عاداتهم، ويحرمهم من التطامن الذي أركنو إليه، وهناك وصف للسّفر قد يتفوق على أي وصف كتبه 'ألبير كامو' أثناء رحلة إلى براغ، وقال إن السّفر يعرّي الرّوح، خصوصا إلى مكان يتحدث الناس فيه بلغة لا تفهمها، فتضطر أن تستدعي احتياطيّك البدائي، لتستخدم اليدين ومجمل أعضاء الجسد بديلا للغة، وقد نسمع أو نقرأ عن أناس جابوا القارات كلّها وهم جالسون على أسرتهم في غرف النوم، سواء من خلال القراءة أو الخيال، على طريقة الشاعر 'والت ويتمان' الذي كان يقول بأن العالم يأتي إلى غرفة نومه لمجرّد أن يشير إليه، وبالرغم من جماليات هذا السفر الممنوع من الصرف، إلا أنه يبقى أقرب إلى الوهم، فالإنسان لا يبتكر من خياله واقعا بقدر ما يعيد إنتاج ذاكرته، لكن بعد إضافات الخبرة والاستدراك.
ذات يوم صحوت من نوم متقطع في بكين وكان أول ما خطر ببالي شيئان، أولهما مقطع من قصيدة 'المدينة' لكفافي والآخر سؤال عن جدوى الترحال.. كفافي في تلك القصيدة اللعينة قال إن من خرّب حياته في أي مكان أو زقاق في العالم سيحمل معه الخراب في داخله حيثما ذهب، ورغم قسوة العبارة، إلا أنها من صميم الواقع الذي نحياه كما لو كنا نموته بالتقسيط، فالإنسان عندما يسافر لا يخلع ذاكرته والرّوائح التي طالما ألفها، ولا يتحول إلى صفحة بيضاء ليبدأ من صفر جديد، إنه مثقل بالحمولة ذاتها التي دفعته إلى محاولة التخفف من أعبائها بالرحيل.. أما السؤال عن جدوى الترحال، فقد وجدت الإجابة عنه في ظهيرة ذلك النهار الآسيوي الداكن والمفعمة سماواته بزفير أبدي، حيث لم تغادر الأسطورة المكان، إلا لكي يتضح بها التاريخ مثلما شحنت بها الجغرافيا فلم تعد صمّاء!
في بكين أدركت أن تصنيفنا كعرب وكشرق أوسط بأننا شرقيون هو مجرد خطأ شائع، لأنني ككل من عاشوا التجربة ذاتها في الصين، وجدوا أنفسهم يبحثون عن أية قرائن تمكنهم من الاهتداء إلى ما يألفون ويعرفون، لقد اكتشفت بأننا لسنا شرقيين إلا حسب منطق جغرافي، فالمطاعم والروائح واللغة وكل شيء فينا هو منتج غربي بامتياز، وهناك أيضا عرفت ما الذي يعنيه 'إدوارد سعيد' بقوله إن الشرق بدعة الغرب، كأنه ما من شرق إلا في الكتب والأطالس، وتكرر الأمر في دكّا البنغالية ثم في طشقند وحين فكرت لأول مرة بتدوين ملاحظاتي عن تلك الأمكنة وجدت أن التجربة تفقد كثيرا من طزاجتها ووهجها عندما تتحول إلى كلمات، إذ كيف أصف تلك القشعريرة التي أحسست بها في قدميّ عندما غسلتهما بماء بارد يتدفق من نبع قرب سمرقند، ثم قيل لي أن 'هولاكو' غسل حصانه من هذا الماء..
وكيف أنقل إحساسي بملمس العظم الأسود لهذه العصا التي أتكئ عليها الآن وأنا أكتب وهي التي كانت قبل أكثر من عشرين عاما في قبضة الجنرال 'حسين ارشاد'، الرئيس البنغالي الذي حاول أن يعسكر الشعر أكثر مما حاول أن يشعرن الجنرال.. ولا أدري لماذا كلما حاولت الكتابة عن ذلك المساء الرطب في دكا.. انصرف ذهني إلى حذاء 'تيد هيوز' فقد كان أشبه بقاربين توأمين من الجلد وحين سألته عن إحساسه وهو يقطع هذه الرطوبة اللزجة بين قصر الضيافة وزقاق يعج بالمتسولين، لمعت عيناه الزرقاوان ببريق أنجلوساكسوني واكتفى بالقول انه يعشق المفارقات..
قرأت قبل فترة عن عجوز اسبانية تعيش في قرية لا تبعد سوى ميل واحد عن البحر، لكنها لم تره منذ ولدت على مرمى رذاذه إلى أن ماتت قاب موجتين أو أدنى منه، ولم أصدّق ما قرأت إلى أن فاجأني صديق بأن أباه لم يغادر القرية التي ولد فيها ثمانين عاما هي عمره بالكامل، وثمة نقاد يرون أن ما كتبه 'رامبو' عن الزورق السكران لم يكن نتاج تجربة مرئية أو محسوسة، وقد تتعدد الأمثلة في هذا السياق، كأن نقرأ مثلا أن الفيلسوف 'كانت' لم يغادر البيت والزقاق الذي عاش فيهما طيلة حياته، أو أن الناس في مدينة الشاعر 'رينر ريلكا' كانوا يضبطون ساعاتهم على أوقات خروجه وعودته، وهو يرتدي وشاحا أسود ويضع على صدره وردة بيضاء.. وذات يوم وجد عباس العقاد من يعيّره من أصدقائه الذين عاشو في الغرب بعدم معرفته من يكتب عنهم من خلال مدنهم ومجتمعاتهم، وهو الذي لم يغادر في حياته منزله سوى مرتين، لقد كانت إجابة العقاد كعادته بالغة الحدّة وأشار إلى حذائه وهو يقول لصاحبه.. إذن هذا الحذاء يعرف أكثر من أي شخص محتوى المئة ألف كتاب التي تغطي جدران البيت.. وهناك تجربة طريفة أشرت إليها ذات يوم وأنا أعقد مقارنة بين عدة ترجمات عربية لقصيدة الأرض اليباب للشاعر إليوت، وكان سهلا عليّ أن أدرك بان أحد المترجمين رغم حصافته ومعرفته الواثقة باللغتين لم يسافر مرّة واحدة إلى الغرب، بخلاف مترجم آخر عاش زمنا في لندن والتقط الحساسية التي كتب بها وعنها إليوت قصائده!
أما تجربة أحد المترجمين الفرنسيين لقصيدة الغراب لإدغار ألن بو.. فهي نموذج لاشتراط السّفر كسبيل لاجتراح المعرفة، قال مثلا ان من لم يسمع صوت الثلج وهو يتساقط على البيت المجاور لبيت إدغار لن يستطيع أن يترجمه، وعليك كي تكون وفيا للنص أن تلعن معه أباه الذي لم يكن يحبه، وأن تقتسم معه الحمولة التي ناءت بها كتفاه وهو يعدو تحت سماء ممطرة!
عندما كنا تلاميذ في المدارس الابتدائية، كان أكثر ما يجذبنا هو درس الجغرافيا لسبب واحد متعلق بالسفر، فالسؤال المتكرر هو سافر من .. إلى.. وصِف كل ما تمر به، لم نكن قد سافرنا إلى ما هو أبعد من المدرسة والحقول التي تجاورها، لكننا كنا نتخيل مدنا بعيدة ونصف أمكنة لم تذق أصابع أقدامنا طعم ترابها!
إن الحنين إلى المكان الأبعد أو الشاطئ الآخر هو نظرة بشرية بامتياز، لأن الإنسان يعول أحيانا على ما هو أبعد من متناوله ليرمم نقصا ما في واقعه، لكن هناك من يسافرون ولا يسافرون لأنهم كما وصفهم سارتر ممتلئون بأنفسهم كالبيضة المسلوقة التي تمحي المسافة بين قشرتها وجلدها الأبيض!
ومن طرقوا البوابات السبع وظنوا أن ما سمعوه هو صريرها.. سرعان ما أدركوا أنهم لم يسمعوا سوى صوت زفيرهم، فالعالم لا يعطي مفاتيح أبوابه لمن يتسولها سائحا أو من يرتطم بها عن طريق المصادفة، والأمكنة ليست محايدة على الإطلاق، إنها أزمنة أيضا لأنها ممهورة بأنفاس وإيقاعات وبصمات لمن مروا بها واستوطنوها وتحولوا بمرور الوقت إلى محتواها وجوهرها!
أما البوابة الثامنة، فهي أشدّ البوابات إغلاقا ويكون مفتاحها الوحيـــد قد ضاع في زمن ما أو خبــــأته الصحــــراء في أعماقها أو أذابه البحر.. لكن هذه البــــوابة العصية قد تفتح مصراعيها كـــذراعين على أهبـــة العنــاق لمن امتلكوا كلمة السّر، وهي هنا ليست افتح يا سمسم ولا علاقة لها بعلاء الدين وعوالمه..
هذه البوابة تشم رائحة اليد التي تطرقها وتكشف السبب الحقيقي للسفر، فإن كان مجرد فضول سياحي فإن ذلك شأن آخر، أما إذا كان هاجسا كونيا أصيلا فإن المفتاح قد يلقى على العتبة!
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
عن العلاقة بالجغرافيا ...    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
تحية متجددة ،
كانت حصة الجغرافبا أشدّ الحصص وطأة على نفسي أثناء فترات الدراسة المتوسطة والثانوية ، إذ كنت أشعر خلالها بالضياع بين خطوط الطول ودوائر العرض ، وأتيه بين الجهات الأربع ، وقد ظلّت عقدة التيه هذه معي حتى الآن ، وقد تستمر ، كما كان الحال مع بني إسرائيل ، أربعين سنة أخرى ...
ذلك أنّ مادة الجغرافيا ، كغيرها من المواد ، كانت تقدّم لنا بطريقة " ناشفة " يستعرض من خلالها أستاذنا معلوماته الغزيرة عن الأمكنة والمسافات ، فيما نضيع نحن بين هذه الأصفار المتعددة ، وأذكر أنّه في إحدى اختبارات مادة الجغرافيا ، أجاب أحد زملائي ، ولم يكن أحسن حالا مني ، عن سؤال يتعلّق بالثلج " بأنّه مادة كروية باردة يتراوح سمكها بين كذا .... وكذا " ، إذ كان هاجس الكم والأرقام أشدّ ما يأخذ بلبنا ...
لم أكتشف الجغرافيا سوى فيما بعد ، حين ابتدأ ولعي بأدب السير ، وبما يدعى بالجغرافيا البشرية ، وكانت كتب أنيس منصور ، ولا تزال ، أثيرة إلى نفسي ، حينها تدلّت مادة الجغرافيا من عرشها ، وأصبحت رفيقة درب ، وكتاب سلوى ، ورحلة في الآفاق وفي الأنفس ... في علاقتها بالمكان وبالزمان ...
وأزعم أنّ أشدّ ما أضرّ بمناهجنا الدراسية استبعاد هذا الكم الهائل من أدب الرحلة والرحالة ، ومن المرويات الشفهية والكتابية ، التي ساقها لنا رواد الآفاق ، فأنت تبصر الخريطة ، فتهاب من شساعتها ، وينتابك الدوار مع استدارتها ، لولا أن يأخذ بيدك من جال بها ، وتعرّف على دقائقها ، فحاور الرمال والعمران ، وزامل الناس والكائنات ، وعايش بجسده وروحه هذه الأمكنة ، فسكنها وسكنته ...
****
عن أدب الرحلة اليوم :
صادفت أثناء إقامة قصيرة في مدينة أكسفورد الانجليزية ، باحثة في علم المكتبات ، تتولى مشروعا ضخما يتعلّق بالمخطوطات العربية في مكتبة " البودليان " Boedlian Library الشهيرة ... كانت تريق ماء عينيها بين صفحات المخطوطات وطياتها ... تأسفت حين سألتها عن دور التوثيق والفهرسة في زمن التكنولوجيا والأنترنت ، حيث تبرد حماسة الباحث حين تقلّ علاقته بالوثيقة ، إذ بمجرد الضغط على زر " ابحث " أو " رتب " تحصل على المأمول ، فيما كان يعجز عنه أولوا العصبة من الباحثين والطلبة ...
كذا الحال مع الرحلة اليوم ، فأنت تقول " ماذا سأروي للآخرين عن هذا المكان أو ذاك ، في ضوء ما تجود به وسائل الإعلام والاتصال الحديثة ؟ " وكيف لي أن أتفوّق على محرّك البحث "غوغل إيرث " مثلا ، وهو الذي يطير بك ، كما سجاد علاء الدين ، ويحضر لك الأمكنة على الساخن ...
إنّها التفاصيل الإنسانية ولا شك ، تلك التي تغفل عنها الكاميرا ، أليست الكاميرا عينا ثانية ، يصيبها ما يصيب العين من سهو ونسيان ؟
غير أنّ الكتابة ، تعجز أحيانا عن نقل هذه التفاصيل ، بل الصورة أيضا ، فما تنفك أحيانا سوى أن تقول لمحاورك ، وقد أعياك العجز " لا بدّ أن تذهب بنفسك وترى " ، وليس الشاهد كالغائب ...
لله درك أيها النّفري ..... " إذا اتسعت الرؤيا ، ضاقت العبارة " ...
*زين الدين
8 - مارس - 2009
الرحلة والكتابة ...    كن أول من يقيّم
 
يمكننا أن نتساءل عن العلاقة بين الرحلة والكتابة ... هل تؤدّي الرحلة حتما إلى الكتابة ؟
كنت قد طالعت مجموعة من القصص القصيرة لأحد الكتاب الفرنسيين المبتدئين ، حيث جاء في تقديم الكاتب " أنّه على الرغم من إبداعه ، فإنّه لم يغادر قريته الصغيرة قط " مع علامات تعجب واستفهام ، رسمت حيرة مقدّم الكتاب ...
لا شكّ أنّه في الوقت الذي تطوّرت فيه وسائل الاتصال والمواصلات ، يبدو غريبا أن يقبع الواحد منا في نطاق منطقته بله مدينته ...
بل لقد غدت هذه الرحلة والترحال علامة على الأشخاص وعلى الشعوب ، فجورج بوش الإبن مثل شخص ساذج ، غبي ، جاهل متعجرف ، لم يغادر الولايات المتحدة الأمريكية قط ، سوى بتذاكر مدفوعة الثمن على متن الإير فورس 1 ، عقب انتخابه رئيسا لأمريكا ، بينما بدا منافسه باراك أوباما ، رجلا متفتح الذهن ، ذكيا ، ذا رؤية وأفق واسع ، وكانت علامة ذلك ، ذلك التعدّد والتنوّع الذي يختزله ، فوالده سافر من كينيا ، وهو ولد في هاواي ، وعاش شطرا من طفولته في أندونيسيا ...
وكذا الأمر بالنسبة للشعوب والثقافات ، فكثيرا ما ينظر إلى الأمريكيين على أنّهم شعب جاهل متمركز على ذاته ، وقد أجريت إحدى الاختبارات على الخريطة الإدراكية للأطفال الأمريكيين ، من خلال اختبار رسم لما هو خارج أمريكا ، فلم يظهر على الرسومات سوى الخواء والفراغ ، مع بعص البنايات في الجانب الآخر من المملكة المتحدة ، أماّ باقي العالم فلا شيء Terra Nihilo
وقد يعزو البعض ذلك إلى أنّ الولابات المتحدة بذاتها قارة ، تمتدّ من الشرق إلى الغرب ، فلا حاجة إلى السفر خارجها ، يل السياحة داخلها أيسر وأقل كلفة ... هذا أمر صحيح ، غبر أنّ الدواعي النفسية والثقافية أشدّ أثرا في رأيي ...
والأمر كذلك ، ولكن بصفة عكسية بالنسبة للبنانيين ، فهم ولا شك شعب ذكي ، مبدع ومتنوع ، يميل إلى الترحال والسفرمنذ القدم ... وأزعم أنّ دائرة الجوازات في لبنان هي أكثر الإدارات نشاطا وإنتاجا ....
وبالعودة إلى سؤالنا ، نقول : هل يجب أن ترتبط الرحلة بالكتابة حتما ؟ والجواب نعم ولا ...
فالرحلة والتجوال هي تحوّل في المكان وفي الزمان أحيانا (الزمان الحضاري)، كما أنّ الكتابة تحويل وتكثيف للواقع أيضا ، فالإبداع لا بعكس الواقع مباشرة ، بل هو يراكمه ، ويلتقط تفاصيله ودقائقه ، ليخرجه في شكل جدبد ...
والواقع هنا في رأينا ، ليس الواقع المادي المباشر ، الذي اختزلته النزعة المادية وشيّـأته ، بل هو أوسع من ذلك ، فالجن والعفاريت والشياطين هي ، بالنسبة لشخص أو لثقافة ما من الواقع ، بقدر ما تؤثّر فيهما ، والتاريخ هو من الواقع ، بقدر ما يحرّك الحاضر ويوجّهه (أنظر مثلا موقعة استشهاد الحسين على الشيعة) ... والغيب ، في المنظومة الإسلامية ، من الواقع بقدر ما يعتقد به الفرد والمجتمع ، وبقدر ما يعمل فيه ...

إذا تواكب التحول في المكان (الرحلة) مع القدرة على تحويل الواقع (ما يدعى أحيانا التخييل) ، كانت نتاج الرحلة الكتابة ... إذ أن السفر يشحذ الذهن ، ويدفعه إلى الإبداع ...
غير أنّ النبات الخصب ، لا ينمو في الأرض القاحلة ، لذا فكثيرا ما تعثر على أشخاص مرّوا بما لا يرف له جفن ، وما لا تنبس ، إجلالا له ، شفة ، ولا شيء تحرّك أو تغيّر ... شعارهم في ذلك ، مع الاعتذار ، " سافر حمارا ، فما عاد حصانا  " (والعبارة لأنيس منصور)....
ويبدو أنّ طول الإقامة في بعض الأحيان ، أسوأ ما يمكن أن يحيق بالرحالة ، فالزمن له أثرين متعاكسين ، فمن جهة ، لا بد من المكوث مدّة ما للتعرف على المكان وعلى ساكنيه ، ومن جهة أخرى يؤدّي طول المكث إلى الاعتياد والروتين ... وهذا ما يجعل علاقة الرحالة بمحيطه علاقة باردة ، لا أثر لها في إبداع أو كتابة ...
وللحديث بقيــة
*زين الدين
9 - مارس - 2009
نافذة على البحر    كن أول من يقيّم
 
تأخرت بالحضور إلى مجلس الرحالة هذا لأن بعضي غائب ، ولأن هذا المجلس يستدعي مني الحضور بكليتي ، ولأن إهداءك يا أستاذ زين الدين له أثر كبير في نفسي يستلزم أن أتفرغ له قليلاً لكي أتمكن من رسم معالمه . النص - المقدمة جميل جداً ، كما قلتَ ، وفائق الحساسية ، ويتضمن ملاحظات ذكية تستدعي التوقف عندها لتفصيلها ومناقشتها كهذه مثلاً :
 
" في بكين أدركت أن تصنيفنا كعرب وكشرق أوسط بأننا شرقيون هو مجرد خطأ شائع، لأنني ككل من عاشوا التجربة ذاتها في الصين، وجدوا أنفسهم يبحثون عن أية قرائن تمكنهم من الاهتداء إلى ما يألفون ويعرفون، لقد اكتشفت بأننا لسنا شرقيين إلا حسب منطق جغرافي، فالمطاعم والروائح واللغة وكل شيء فينا هو منتج غربي بامتياز، وهناك أيضا عرفت ما الذي يعنيه 'إدوارد سعيد' بقوله إن الشرق بدعة الغرب، كأنه ما من شرق إلا في الكتب والأطالس، وتكرر الأمر في دكّا البنغالية ثم في طشقند وحين فكرت لأول مرة بتدوين ملاحظاتي عن تلك الأمكنة وجدت أن التجربة تفقد كثيرا من طزاجتها ووهجها عندما تتحول إلى كلمات، إذ كيف أصف تلك القشعريرة التي أحسست بها في قدميّ عندما غسلتهما بماء بارد يتدفق من نبع قرب سمرقند، ثم قيل لي أن 'هولاكو' غسل حصانه من هذا الماء . "
ثم أن كتابتك الخاصة شديدة الدلالة والوضوح ، وهي تعبر عن شخصيتك الصريحة والمنطقية التي تقود دفة الكتابة رغم ولعها بالتفاصيل الجمالية . وأجد بأن ما تكتبه وتطرحه علينا من مواضيع يشبه النوافذ المفتوحة على البحر التي تسمح للرؤية بأن تخطو خارج النافذة في رحلة سريعة ، لكنها ضرورية وعظيمة الفائدة .
 
أشكرك جزيل الشكر وأعدك بالعودة إلى هذا الملف الجميل في أقرب فرصة وبكل سرور .
*ضياء
9 - مارس - 2009
نحن والفيزا    كن أول من يقيّم
 
اللبنانيون محكومون بالسفر ! وليس فقط لأن بلادهم الصغيرة عبارة عن شريط ساحلي ضيق محصور بين الجبال الوعرة والبحر ، وليس فقط لأن أعداد اللبنانيين في الخارج يفوق ثلاث مرات عددهم في الوطن الأم ، وليس فقط بسبب الفقر والحروب الكثيرة التي دفعت وتدفع بأبناء ذلك البلد الصغير إلى إلقاء أنفسهم إلى الماء في كل مرة ، بل وأيضاً لأنهم ينظرون إلى الحياة على أنها رحلة عوليس .
 
واللبنانيون في هذا يشبهون الغجر الذين يلقون بالطفل الوليد إلى الماء ، فإذا عام وطفا استعادوه وأصبح منهم ، وإذا غرق غرق وحده . ومن لم يسافر منا أو يهاجر بعد فهو ، حتماً ، بانتظار " الفيزا " .
 
كان لوالدي ، رحمه الله ، في الفترة الأخيرة من حياته ، مجموعة من الأصدقاء الذين أثقلت كواهلهم المصاعب والكوارث فأخذوا يغادرون الحياة ويتساقطون كأوراق الشجر ، الواحد تلو الآخر . وكان لديهم " كلمة سر " فيما بينهم يعبرون بها عن يأسهم من شفاء أو تحسن الحالة الصحية لمن مرض منهم ، فلو سأل واحدهم صديقه عن أخبار صديق آخر يعرف بأنه مريض لأجابه بحسرة : " فلان أخذ فيزا " ، مما يعني بأن موعد ذهابه قد أزف وبأنه مغادر لا محالة .
*ضياء
11 - مارس - 2009
عن الرحلة والكتابة من جديد ...     كن أول من يقيّم
 
الأستاذة العزيزة ضياء ،
شكرا على مرورك الكريم بهذا الملف وعلى توقيعك المميز ، كالعادة ، فيه ...
استكمالا لما شرعت الحديث عنه ، أود أن أتساءل عن ارتباط الرحلة بالكتابة . ماالذي يدفع المسافر ، أو الرحالة ، إلى الكتابة ؟
يقول المثل الفرنسي : " يكذب كما يريد من يأتي من بعيد " دلالة على إمكان أن يحكي المسافر ما يشاء ، حقيقة أو اختراعا ، باعتبار أن ليس هناك من سيكذّبه ...
كان ذلك سنة 1694 ، سنة ذكر هذا المثل في معجم الأكاديمية الفرنسية ، غير أنّ الامور تغيّرت مع تحوّل العالم إلى قرية صغيرة ...
أمّا المقابل الألماني لهذا المثل فيقول :
wenn einer eine Reise tut, dann kann er was erzählen
ويعني أنّ من يسافر يمكنه أن يحكي أشياء (ليست كاذبة بالضرورة) ...

يبدو
أنّ ضرورة الحكي تأتي من الحاجة إلى " تخليد " لحظة الرحلة الفانية ، وإلى استعادة نشوة الدهشة الأولى المنقضية ... ألا تلحظ سعادة الحاج بحكاية رحلة الحج ، واستعادتها مرّة ومرّات ، كأنّه حين الحكي يستعيد طقوس
الحج ساعة بساعة بل قل لحظة بلحظة ...

أمّا القضية الثانية فهي إحساس الرحالة بأنّ على عاتقه تقع "مسؤولية " الحكي ... فكثيرا ما يستقبله الآخرون بأعين مندهشة ، وبعقول (وأفواه) مفتوحة مطالبينه بسطر ما رآه ، أو بروايته على أقل تقدير ...

ثالثا : كثيرا ما يكون الحكي لمقابلة واقعة بأخرى ، وهذه آلية فكرية ونفسية بشرية معتادة ، فالذهن يستحضر مقابله ونظيره بصورة أسرع وأيسر ... فكثيرا ما تقرأ لدى الرحالة أو تسمع قولهم " كان الأمر كذا في بلدة كذا ، أمّا لدينا فالحال غير الحال .... "

وهذا ما يقودنا إلى التساؤل عمّا يلتقطه الرحالة في سفره ...
كثيرا ما تقرأ لأحدهم عن رحلة أجراها في بلاد غريبة ، فلا تعثر سوى على صور معادة وكليشيهات جاهزة ، فكأنّك تقرؤه هو لا رحلته ...
يشبه ذلك من يعود بصور ملتقطة من هنا وهناك ، لا تجد فيها سوى وجهه ورأسه وهيأته تغطّي كل الصورة ، تكاد تصرخ في وجهه : " يا لكع ، هذا الوجه عرفناه ، وهذه الشوارب ألفناها ، وتلك الأكمة (صلعة رأسه) مللناها ... إنّما بغيتنا ما وراء الأكمة " ...
إنّ كتاب الرحلة المفيد هو المؤلّف بذهن مفتوح وبخاطر متّقد ، يلتقط الإشارات والعلامات ، ويحوّلها إلى أسطر وجمل ، تكتشف من خلالها الأرض ، كما أن لم تكن رأيتها من قبل ، ذلك أنّنا لا نعبر الوادي مرّة واحدة ... 
*زين الدين
12 - مارس - 2009
تركيا من الجو    كن أول من يقيّم
 
مساء الخير أستاذ زين الدين :
 
 المقابل لهذه الأمثال التي ذكرتها هو المثل العامي الذي يقول : " ما فيه أكذب من الشبّ اللي تغرّب إلا الختيار اللي ماتت اجياله " وترجمته " بالعربي " :  لا يوجد أشد كذباً من الشاب الذي عاش في الغربة إلا العجوز الذي مات أقرانه " ، بسبب أنه لا يمكننا تكذيبهما لعدم وجود من يشهد بصدق الحديث أو عدمه .
 
و" تصديقاً لكلامك " سأحكي لك طرفة عن إحدى الجدات التي التقيتها في لبنان منذ بضع سنين ، وكانت عائدة من رحلة إلى كندا زارت خلالها بعض أحفادها هناك . ولما سألتها كيف كانت رحلتها ( لياقة ، وبكل حسن نية ، وكانت غلطة ندمت عليها لأن الحديث استغرق معها ما يقارب الساعة وكان من الصعوبة بمكان التملص منه فيما بعد ) قالت :
 
 بأنها كانت خائفة في رحلة الذهاب أثناء عبور الطائرة فوق " بحر الأطلنطي " ( يعني المحيط الأطلسي) لأن الموج كان عالياً ، كل موجة منها كانت أعلى من الجبل ، وكان الموج يتقلب في البحر مثل الدولاب ( كانت تقول ذلك وهي تقلِّب يديها أمامها بحركة دائرية ، وتتقصد بأن ترفع اليد العليا إلى أعلى ما يمكنها قبل أن تهبط بها إلى تحت للتدليل على قوة ارتفاع الموجة ) ... وأما في الإياب ، فلقد كان عليهم الهبوط في مطار دمشق ، غير أنهم لم يسمحوا للطائرة بالهبوط بوقتها ( لا أحد يدري لماذا حتى اليوم ) فكان أن عاد بهم الطيار إلى تركيا وأخذ يحوِّم بهم هناك ( كطير الحمام ) واستطاعوا أن يزوروا تركيا كلها دون النزول من الطائرة لأنهم شاهدوها بيتاً بيتاً ، وشارعاً شارعاً ، ورؤوا الأولاد وهم يلعبون هناك بالطابة في الشارع بين البيوت ، وظلَّ يحوِّم هكذا وهم يتفرجون على تركيا حتى أتاه الأمر بالعودة إلى دمشق ... وهكذا !
 
*ضياء
12 - مارس - 2009
لا نعبر النهر مرتين ...    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
مساء الخير أستاذة ضياء ،
الأصح القول " لا نعبر النهر مرتين "
(هيراقليطس) ، لا كما ذكرتُه " لا نعبر الوادي مرة " ، مع أنّ عبور الوادي أسهل !!!
شكرا على هذه الملحة ، وتحية لقلمك الممتاز ...
*زين الدين
13 - مارس - 2009
ألكسندر دوما في بلاد الشيشان    كن أول من يقيّم
 
من أخبار الرحلة ، سوف أقص عليكم هذه الحكاية التي سمعتها شفهياً ذات مرة ، بينما كنت أشاهد برنامجاًعلى شاشة التلفزيون الفرنسي ، قصها أحد الباحثين المولعين بألكسندر دوما ( الإبن ) عن لسان باحث آخر كان قد ذهب في رحلة إلى روسيا بعيد الحرب العالمية الثانية ، متتبعاً أثره هناك لأن ألكسندر دوما الإبن كان قد زارها مابين عامي 1858 و 1859 .
 
إنما لا بد قبل ذلك من إزالة اللبس حول بطل هذه الرحلة ، ألكسندر دوما الإبن صاحب " غادة الكاميليا " ومسرحيات أخرى المولود في العام 1824 وهو الإبن غير الشرعي ( المولود خارج مؤسسة الزواج ) لألكسندر دوما الأب المولود في العام 1802 وصاحب : " الفرسان الثلاثة " و " الكونت دو مونت كريستو " و " عقد الأميرة " و " الزنبقة السوداء " وغيرها وغيرها ، والذي كان معروفاً بمغامراته النسائية التي لا تنتهي ، وفضائحه الاجتماعية ، وتعدد الأطفال غير الشرعيين الذين اعترف ببعضهم وأنكر بعضهم الآخر .
 
ومن الضروري الإشارة إلى أن سيرة ألكسندر دوما الإبن كانت عكس سيرة أبيه ، فهو كان قد تربى في مدرسة داخلية ، ولم يعترف أبواه ببنوته إلا بعد أن كان قد بلغ السابعة من العمر ، وكان قد عانى مرارة هذا الوضع الذي خلف لديه آثاراً سلبية تبدت في مجمل مؤلفاته الأدبية . وكان من المعروف عنه أيضاً مناداته بالفضيلة الاجتماعية ورفضه ظاهرة الأبناء غير الشرعيين التي كانت قد تفشت في أوروبا في القرن التاسع عشر .
 
في العام 1858 ، كان ألكسندر دوما الإبن قد تجاوز الخمسين ببضع سنين وبدأ يشعر بتبدل الحال واقتراب الشيخوخة ، وكان ذلك يخيفه ، ككل البشر ، ويعكر من مزاجه ويدعوه لإلقاء نظرة فاحصة على حياته ، وإعادة النظر بكل ما كان قد كتبه أو قاله أو فعله خلال السنين الفائتة . وذات مرة ،كان قد قرر الخروج من منزله الباريسي للتنزه قليلاً ناحية ساحة الكونكورد وحديقة التويلري . على الطريق ، صادف هناك سيدتين تتنزهان مثله ، ولما رأتاه مقبلاً من بعيد ، سمع إحداهما وهي تقول للأخرى : " أنظري من هناك ! إنه العجوز دوما " ... فكان لوقع هذه الكلمات على مسمعه أثر الصاعقة !
 
غالباً ما يستخدم الفرنسيون كلمة ( vieux ، عجوز ) للتحبب ، أو للتدليل على أنها رابطة قديمة لأن الكلمة تفيد معنى القدم ، أو لإعطاء صفة القرابة للتقرب من الشخص ، وهي لا تعني بالضرورة أنه قد أصبح عجوزاً . لكن ألكسندر دوما كان قد بدأ يشعر بالضعف يتسلل إليه ، وبأنها بداية النهاية ، ولشدة ما كان ذلك يؤلمه ، أصابت هذه الكلمة منه مقتلاً ، فكان أن عاد إلى بيته ، وأغلق على نفسه الأبواب ، وبقي مدة من الزمن منقطعاً عن الناس وعن أصدقائه خصوصاً ، بل كان يبدو عليه بأنه قد فقد أدنى رغبة له في الحياة .
 
ثم بعد حوالى الأسبوع ، قرر بأنه قد كره باريس وأجواءها ، وبأنه بحاجة للسفر . كانت روسيا وجهته لأن لديه الكثير من الأصدقاء هناك ، ولأن مؤلفاته الأدبية كانت منتشرة بين الأنتلجنسيا الروسية وشهرته بينها تملأ الآفاق ... وبالفعل ، أكرموه وأحسنوا لقاءه ، وأقاموا على شرفه الندوات والدعوات وحفلات الاستقبال والمآدب الفاخرة والسهرات الأدبية ... لكن كل ذلك أتعبه وحطَّ من عزيمته ، فكان أن اقترح عليه أحد أصدقائه بأن يصطحبه بعيداً عن ضجيج موسكو وضوضاء مثقفيها في رحلة صيد إلى منطقة القوقاز .
 
كانوا قد حطوا الرحال في إحدى مقاطعات بلاد الشيشان البعيدة ، لكن كبير تلك المنطقة النائية وزعيمها سمع بقدومهم ، وكانت شهرة الأديب الفرنسي الكبير قد وصلت إلى هناك ، فأرسل يدعوهم إليه بغية إكرامهم واستقبالهم بما يليق بمكانتهم .
 
وبينما كانوا جالسين في ضيافته يتجاذبون أطراف الحديث ، إذا بالباب يفتح ، وتدخل منه صبية لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها ، تحمل بين يديها صينية عليها كؤوس من الفودكا المزينة بشرائح الليمون ، ويتقدمها نهداها البارزان ، يكادان يلتصقان بتلك الكؤوس اللامعة التي صارت تخشخش أثناء تقدمها وترتطم ببعضها البعض ... لم تكن نضارة الليمون ولا بريق تلك الأقداح تضاحي أبداً نضارتها وجمالها . وما إن وقعت عينا ألكسندر دوما عليها حتى طار صوابه وصارت نظراته الحارقة تحتضن مشيتها وكل الدلال الذي كان يشع من حضورها الفتي اليانع . أحست البنت ، بغريزة الأنثى التي تبحث عن الغواية ، بتلك النظرات المشتعلة ، فما زادها ذلك إلا إشعاعاً وبريقاً . وفي اللحظة التي اقتربت منه لتقدم إليه كأس الفودكا ، تعمدت أن تلامس كتفه بنهدها وهي تنحني . كان ذلك كافياً لإشعال النار في العشب اليابس ولكي ينتفض قلبه الذي كانت قد لامسته الشيخوخة ويحيا من جديد . ولم يعد يفقه شيئاً مما كان يدور حوله من حديث ، ولم ينم بليلتها .
 
لا أحد يدري كيف تدبر الأمر للوصول إلى مخدعها ، لكنه قبل طلوع النهار ، كان قد اختطفها على ظهر حصان ، كما في الحكايات ، وظل متخفياً معها مدة أسبوع كامل تنقلا فيه عدة مرات من بيت لبيت ، ومن قرية لقرية ، حتى تم العثور عليهما في نهاية المطاف بعدة مطاردات متعددة ، وأعيدت البنت إلى أهلها .
 
الباحث الذي نقل الحكاية ، وهي على ذمته ، يقول بأنه كان قد التقى في موسكو ، بعيد الحرب العالمية الأولى ، بأحد جنرالات الجيش الأحمر ، الذي ما إن عرف بأنه فرنسي حتى عرَّفه بنفسه : " يوسف الكسندر دوما " قال ، وكانت تلك هي المفاجأة ، ومنه عرف الحكاية .
 
 
 
 
*ضياء
16 - مارس - 2009