ألكسندر دوما في بلاد الشيشان كن أول من يقيّم
من أخبار الرحلة ، سوف أقص عليكم هذه الحكاية التي سمعتها شفهياً ذات مرة ، بينما كنت أشاهد برنامجاًعلى شاشة التلفزيون الفرنسي ، قصها أحد الباحثين المولعين بألكسندر دوما ( الإبن ) عن لسان باحث آخر كان قد ذهب في رحلة إلى روسيا بعيد الحرب العالمية الثانية ، متتبعاً أثره هناك لأن ألكسندر دوما الإبن كان قد زارها مابين عامي 1858 و 1859 .
إنما لا بد قبل ذلك من إزالة اللبس حول بطل هذه الرحلة ، ألكسندر دوما الإبن صاحب " غادة الكاميليا " ومسرحيات أخرى المولود في العام 1824 وهو الإبن غير الشرعي ( المولود خارج مؤسسة الزواج ) لألكسندر دوما الأب المولود في العام 1802 وصاحب : " الفرسان الثلاثة " و " الكونت دو مونت كريستو " و " عقد الأميرة " و " الزنبقة السوداء " وغيرها وغيرها ، والذي كان معروفاً بمغامراته النسائية التي لا تنتهي ، وفضائحه الاجتماعية ، وتعدد الأطفال غير الشرعيين الذين اعترف ببعضهم وأنكر بعضهم الآخر .
ومن الضروري الإشارة إلى أن سيرة ألكسندر دوما الإبن كانت عكس سيرة أبيه ، فهو كان قد تربى في مدرسة داخلية ، ولم يعترف أبواه ببنوته إلا بعد أن كان قد بلغ السابعة من العمر ، وكان قد عانى مرارة هذا الوضع الذي خلف لديه آثاراً سلبية تبدت في مجمل مؤلفاته الأدبية . وكان من المعروف عنه أيضاً مناداته بالفضيلة الاجتماعية ورفضه ظاهرة الأبناء غير الشرعيين التي كانت قد تفشت في أوروبا في القرن التاسع عشر .
في العام 1858 ، كان ألكسندر دوما الإبن قد تجاوز الخمسين ببضع سنين وبدأ يشعر بتبدل الحال واقتراب الشيخوخة ، وكان ذلك يخيفه ، ككل البشر ، ويعكر من مزاجه ويدعوه لإلقاء نظرة فاحصة على حياته ، وإعادة النظر بكل ما كان قد كتبه أو قاله أو فعله خلال السنين الفائتة . وذات مرة ،كان قد قرر الخروج من منزله الباريسي للتنزه قليلاً ناحية ساحة الكونكورد وحديقة التويلري . على الطريق ، صادف هناك سيدتين تتنزهان مثله ، ولما رأتاه مقبلاً من بعيد ، سمع إحداهما وهي تقول للأخرى : " أنظري من هناك ! إنه العجوز دوما " ... فكان لوقع هذه الكلمات على مسمعه أثر الصاعقة !
غالباً ما يستخدم الفرنسيون كلمة ( vieux ، عجوز ) للتحبب ، أو للتدليل على أنها رابطة قديمة لأن الكلمة تفيد معنى القدم ، أو لإعطاء صفة القرابة للتقرب من الشخص ، وهي لا تعني بالضرورة أنه قد أصبح عجوزاً . لكن ألكسندر دوما كان قد بدأ يشعر بالضعف يتسلل إليه ، وبأنها بداية النهاية ، ولشدة ما كان ذلك يؤلمه ، أصابت هذه الكلمة منه مقتلاً ، فكان أن عاد إلى بيته ، وأغلق على نفسه الأبواب ، وبقي مدة من الزمن منقطعاً عن الناس وعن أصدقائه خصوصاً ، بل كان يبدو عليه بأنه قد فقد أدنى رغبة له في الحياة .
ثم بعد حوالى الأسبوع ، قرر بأنه قد كره باريس وأجواءها ، وبأنه بحاجة للسفر . كانت روسيا وجهته لأن لديه الكثير من الأصدقاء هناك ، ولأن مؤلفاته الأدبية كانت منتشرة بين الأنتلجنسيا الروسية وشهرته بينها تملأ الآفاق ... وبالفعل ، أكرموه وأحسنوا لقاءه ، وأقاموا على شرفه الندوات والدعوات وحفلات الاستقبال والمآدب الفاخرة والسهرات الأدبية ... لكن كل ذلك أتعبه وحطَّ من عزيمته ، فكان أن اقترح عليه أحد أصدقائه بأن يصطحبه بعيداً عن ضجيج موسكو وضوضاء مثقفيها في رحلة صيد إلى منطقة القوقاز .
كانوا قد حطوا الرحال في إحدى مقاطعات بلاد الشيشان البعيدة ، لكن كبير تلك المنطقة النائية وزعيمها سمع بقدومهم ، وكانت شهرة الأديب الفرنسي الكبير قد وصلت إلى هناك ، فأرسل يدعوهم إليه بغية إكرامهم واستقبالهم بما يليق بمكانتهم .
وبينما كانوا جالسين في ضيافته يتجاذبون أطراف الحديث ، إذا بالباب يفتح ، وتدخل منه صبية لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها ، تحمل بين يديها صينية عليها كؤوس من الفودكا المزينة بشرائح الليمون ، ويتقدمها نهداها البارزان ، يكادان يلتصقان بتلك الكؤوس اللامعة التي صارت تخشخش أثناء تقدمها وترتطم ببعضها البعض ... لم تكن نضارة الليمون ولا بريق تلك الأقداح تضاحي أبداً نضارتها وجمالها . وما إن وقعت عينا ألكسندر دوما عليها حتى طار صوابه وصارت نظراته الحارقة تحتضن مشيتها وكل الدلال الذي كان يشع من حضورها الفتي اليانع . أحست البنت ، بغريزة الأنثى التي تبحث عن الغواية ، بتلك النظرات المشتعلة ، فما زادها ذلك إلا إشعاعاً وبريقاً . وفي اللحظة التي اقتربت منه لتقدم إليه كأس الفودكا ، تعمدت أن تلامس كتفه بنهدها وهي تنحني . كان ذلك كافياً لإشعال النار في العشب اليابس ولكي ينتفض قلبه الذي كانت قد لامسته الشيخوخة ويحيا من جديد . ولم يعد يفقه شيئاً مما كان يدور حوله من حديث ، ولم ينم بليلتها .
لا أحد يدري كيف تدبر الأمر للوصول إلى مخدعها ، لكنه قبل طلوع النهار ، كان قد اختطفها على ظهر حصان ، كما في الحكايات ، وظل متخفياً معها مدة أسبوع كامل تنقلا فيه عدة مرات من بيت لبيت ، ومن قرية لقرية ، حتى تم العثور عليهما في نهاية المطاف بعدة مطاردات متعددة ، وأعيدت البنت إلى أهلها .
الباحث الذي نقل الحكاية ، وهي على ذمته ، يقول بأنه كان قد التقى في موسكو ، بعيد الحرب العالمية الأولى ، بأحد جنرالات الجيش الأحمر ، الذي ما إن عرف بأنه فرنسي حتى عرَّفه بنفسه : " يوسف الكسندر دوما " قال ، وكانت تلك هي المفاجأة ، ومنه عرف الحكاية .
|