مكتبة الباطنية في الري كن أول من يقيّم
ورد الحديث عن مصير مكتبة الباطنية في (الري) في رسالة من نوادر النصوص، بعث بها يمين الدولة (محمود بن سبكتكين) (1) إلى الخليفة العباسي القادر بالله، وأرى أن انقل هنا الرسالة برمتها، وهذه المكتبة هي المراد بقول المقدسي (ت 380هـ) في احسن التقاسيم: (وبها دار الكتب الأحدوثة) ويذكر ياقوت الحموي في (معجم الأدباء) في ترجمة الصاحب ابن عباد ان ابا الحسن البيهقي اطلع على فهرست ما تبقى من هذه المكتبة فكان عشر مجلدات. قال ابن الجوزي في (المنتظم) في حوادث سنة 420هـ: وورد إلى الخليفة كتاب من الأمير يمين الدولة أبي القاسم محمود وكان فيه:
(سلام على سيدنا ومولانا الإمام القادر بالله أمير المؤمنين، فإن كتاب العبد صدر من معسكره بظاهر الري غرة جمادى الآخر سنة عشرين، وقد أزال الله عن هذه البقعة أيدي الظلمة وطهرها من دعوة الباطنية الكفرة والمبتدعة الفجرة، وقد تناهت إلى الحضرة المقدسة حقيقة الحال في ما قصر العبد عليه سعيه واجتهاده من غزو أهل الكفر والضلال، وقمع من نبغ ببلاد خراسان من الفئة الباطنية الفجار، وكانت مدينة الري مخصوصة بالتجائهم إليها وإعلانهم بالدعاء إلى كفرهم فيها يختلطون بالمعتزلة المتبدعة والغالية من الروافض المخالفة لكتاب الله والسنة يتجاهرون بشتم الصحابة ويسرون اعتقاد الكفر ومذهب الإباحة، وكان زعيمهم رستم بن علي الديلمي، فعطف العبد عنانه بالعساكر فطلع بجرجان وتوقف بها إلى انصراف الشتاء، ثم دلف منها إلى دامغان، ووجه علياً لحاجب في مقدمة العسكر إلى الري، فبرز رستم بن علي من وجاره على حكم الاستسلام والاضطرار، فقبض عليه وعلى أعيان الباطنية من قواده. وطلعت الرايات أثر المقدمة بسواد الري غدوة الإثنين السادس عشر من جمادى الأولى، وخرج الديالمة معترفين بذنوبهم شاهدين بالكفر والرفض على نفوسهم، فرجع إلى الفقهاء في تعرف أحوالهم، فاتفقوا على أنهم خارجون عن الطاعة وداخلون في أهل الفساد مستمرون على العناد، فيجب عليهم القتل والقطع والنفي على مراتب جناياتهم، وإن لم يكونوا من أهل الإلحاد فكيف واعتقادهم في مذاهبهم ولا يعدو ثلاثة أوجه تسود بها الوجوه في القيامة التشيع والرفض والباطن، وذكر هؤلاء الفقهاء أن أكثر القوم لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يعرفون شرائط الإسلام، ولا يميزون بين الحلال والحرام، بل يجاهرون بالقذف وشتم الصحابة، ويعتقدون ذلك ديانة، والأمثل منهم يتقلد مذهب الاعتزال، والباطنية منهم لا يؤمنون بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأنهم يعدون جميع الملل مخاريق الحكماء، ويعتقدون مذهب الإباحة في الأموال والفروج والدماء، وحكموا بأن رستم بن علي كان يظهر التستر ويتميز به عن سلفه إلا أن في حبالته زيادة على خمسين امرأة من الحرائر ولدن ثلاثة وثلاثين نفساً من الذكور والإناث، وحين رجع إليه في السؤال عن هذه الحال، وعرف أن من يستجيز مثل هذا الصنيع مجاوز كل حد في الاستحلال ذكر أن هذه العدة من النساء أزواجه، وأن أولادهن أولاده، وأن الرسم الجاري لسلفه في ارتباط الحرائر كان مستوراً على هذه الجملة، وأنه لم يخالف عاداتهم في ارتكاب هذه الخطة، وأن ناحية من سواد الري قد خصت بقوم من المزدكية يدعون الإسلام بإعلان الشهادة، ثم يجاهرون بترك الصلاة والزكاة والصوم والغسل وأكل الميتة، فقضى الانتصار لدين الله تعالى بتميز هؤلاء الباطنية عنهم، فصلبوا على شارع مدينة طالما تملكوها غضباً واقتسموا أموالها نهباً، وقد كانوا بذلوا أموالاً جمة يفتدون بها نفوسهم، فعرفوا أن الغرض نهب نفوسهم دون العرض وحول رستم بن علي وابنه وجماعة من الديالمة إلى خراسان، وضم إليهم أعيان المعتزلة والغلاة من الروافض ليتخلص الناس من فتنتهم، ثم نظر فيما اختزنه رستم بن علي من الأثاث فعثر من الجواهر ما يقارب خمسمائة ألف دينار، ومن النقد على مائتين وستين ألف دينار، ومن الذهيبات والفضيات على ما بلغ قيمة ثلاثين ألف دينار، ومن أصناف الثياب على خمسة آلاف وثلثمائة ثوب، وبلغت قيمة الدسوت من النسيج والخزوانيات عشرين ألف دينار، ووقف أعيان الديلم على مائتي ألف دينار، وحول من الكتب خمسون حملاً ما خلا كتب المعتزلة والفلاسفة والروافض فإنها أحرقت تحت جذوع المصلبين، إذ كانت أصول البدع، فخلت هذه البقعة من دعاة الباطنية وأعيان المعتزلة والروافض، وانتصرت السنة فطالع العبد بحقيقة ما يسره الله تعالى لأنصار الدولة القاهرة).
______________
1- محمود بن سبكتكين أشهر وزراء الإسلام على الإطلاق، وهو المراد بقول ابي العلاء:
محمودنا الله والمسعود iiعابده |
|
فعدِّ عن ذكر محمود ومسعود |
وفي وفيات الأعيان لابن خلكان ترجمة مطولة له، تجدر قراءتها، قال في أثنائها:
ولم يزل يفتح في بلاد الهند حتى انتهى إلى حيث لم تبلغه في الإسلام راية، ولم تتل به قط سورة ولا آية، فرحض عنها أدناس الشرك وبنى بها مساجد وجوامع، وتفصيل حاله يطول شرحه. ولما فتح بلاد الهند كتب إلى الديوان العزيز ببغداد كتاباً يذكر فيه ما فتحه الله تعالى على يديه من بلاد الهند، وأنه كسر الصنم المعروف بسومنات....وقد جمع سيرته أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي الفاضل المعروف في كتاب سماه "اليميني" وهو مشهور، وذكر في أوله أن السلطان المذكور ملك الشرق بجنبيه، والصدر من العالم ويديه، لانتظام الإقليم الرابع بما يليه من الثالث والخامس في حوزة ملكه وحصول ممالكها الفسيحة وولايتها العريضة في قبضة ملكه، ومصير أمرائها وذوي الأ لقاب الملوكية من عظمائها تحت حمايته وجبايته، وادرائهم من آفات الزمان بظل ولايته ورعايته، وإذعان ملوك الأرض لعزته، وارتياعهم بفائض هيبته، واحتراسهم - على تقاذف الديار وتحاجز الأنجاد والأغوار - من فاجئ ركضته، واستخفاء الهند تحت جيوبها عند ذكره، واقشعرارهم لمهب الرياح من أرضه ... ومولده ليلة عاشوراء سنة إحدى وستين وثلثمائة. وتوفي في شهر ربيع الآخر، وقيل حادي عشر صفر، سنة إحدى، وقيل اثنتين وعشرين وأربعمائة بغزنة، رحمه الله تعالى.
|