في هذه الصبيحة المباركة شهدت الحارة حيوية ونشاطا لا عهد لها به إذ تجمع الناس جماعات وفرادى هنا وهناك يتكلمون وبثرثرة. منهم المتقاعسون والعاطلون. ففي الجماعة الأولى انضم إليهم صاحبهم والذي خرج متأخرا من بيته واضعا يديه في جيوبه وهو يقول : وبطريقته المعهودة ويتبعها بقهقهات عالية إني رايتهم وهم ينظفون ويكنسون.قاطعه احدهم قائلا :ماذا رأيت ? أجاب المتهور : كنت اطل من النافذة ليلا ورأيت العمال أصحاب النظافة يدفعون عربات وهم الذين نظفوا الحارة. تلقفه آخر : اسكت يا متهور ما عهدنا عليك صدقا.لأني لم انم مبكرا ولم اسمع حركة ولا ضجيجا بالحي.ودار بينهم نقاش وجدل حاد.و جماعة أخرى تقف في زاوية الزقاق يتكلمون وتسمع ضجيجهم من بعيد.قال قائل منهم وهو يصرخ في وجههم : ألا تؤدون أجرة عملي وتعبي وأجرة الرجال الذين استاجرتهم لتنظيف الحارة .وقال من كان معه : وهل استشرت معنا ? من خول لك ذلك إن الحي نظيف الآن ولم يكن متسخا كما تزعم أنت أليس كذلك. كان بالقرب منهم شيخ مسن يجلس على كرسي خشبي قصير ومتكئ على حائط هش ويداه المرتعشتين تمسك بعصا كعكازة يرتكز عليها في مشيته. يظهر على تقاسيم وجهه الشاحب المتجعد حكايات الماضي القديم .قام الشيخ الهرم من مكانه بصعوبة ومشقه منحني الظهر يمشي بخطوات ثقيلة فيها تعثر ووهن اتجاه الجماعة وتوقف عن المشي وكاد ان يسقط. أطال النظر في وجههم وأمعن جيدا بعينين وقد مسحت منهما بريق الطفولة والشباب والكهولة.وتكلم بصوت ضعيف متقطع :ألا تستحيون ? أليست فيكم مروءة ? ألا يوجد فيكم ولو رجل واحد ينصحكم وينهاكم ? تبا لكم من أطفال. غضب الشيخ غضبا شديدا والكل لزم الصمت مطأطئي الرؤوس بخجل وحياء من الشيخ الوقور الذي يحترمه الجميع والذي لم يبق لهم من تراث الماضي والتاريخ إلا هو. ازداد حجم الجماعة وانضم إليها كل أهل الحارة جميعا ملتفين حول الشيخ الوقور وهو يلوح بعصاه إلى أعلى ولا يكاد يرفعها قائلا :لم تسالون وتلحون في سؤالكم عمن قام بتنظيف الحارة ? ألا تفهمون بأنها رسالة موجهة إليكم. الهدف والغاية هو ماذا ستفعلون انتم غدا أو بعده ?هل ستنتظرون من يقوم لكم بعملكم ويقدم لكم المساعدات ?الم يان الوقت لتتحدوا وتعتمدوا على أنفسك انظروا إلى أنفسكم والى ما آل إليه حالكم لقد قضيت معكم عمرا يا أبنائي ومع آبائكم وأجدادكم وما رأيت قط قوما أمثالكم .هيا تصافحوا تسامحوا تعاشروا تراحموا تجاوروا .اعملوا صالحا. اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.تأثر الجميع وبكوا وسالت الدموع وانسكبت على وجناتهم وارتموا في أحضان بعضهم البعض متسامحين. واصفح الصفح الجميل وادفع بالتي هي أحسن . تشاوروا في أموركم . إن الجد في الجد والحرمان في الكسل. كانت كلمات الشيخ الكبير دروسا وإرشادات ونصائح هزت أركان مشاعرهم اجتذبها من أعماقهم غيرت كل مكوناتهم إلى ما هو أفضل وأحسن. وعاش أصحاب القرية في وئام وسلام متآخين متضامنين متعاونين والفرحة تغمر قلوبهم. ودارت الأيام هز القرية خبر مفجع مؤلم رحيل الشيخ عبد السلام المعلم الوقور المحبوب إلى الرفيق الأعلى. كانت الصدمة كبيرة والفاجعة اكبر يتلقاها أهل القرية. أعلنوا الحداد وبكوا كثيرا وهيئوا لفقيدهم اكبر موكب جنائزي عرفته |