مكتوب كن أول من يقيّم
تحيتي للأستاذ زين الدين وأرجو أن يأذن لي بهذه المشاركة احتفاء بموضوعه الطريف : للمكتوب أو " الرسالة " أهمية كبرى في حياتنا ، نحن اللبنانيون ، لأننا سافرناً كثيراً وباكراً ، ولأن المكتوب كان صلة الوصل الوحيدة بمن هاجروا وأصبحوا في ديار بعيدة ، خصوصاً أثناء الحرب أو الحروب الكثيرة التي عانينا منها خلال العقود الماضية حيث تكثفت هذه الهجرة وازدادت أضعافاً حتى لم يبق في لبنان بيت واحد لا يوجد فيه من " تغرَّب " . لم يكن هناك هواتف خليوية بعد ، والهواتف العادية كانت غالباً مقطوعة ، ولم يكن لدينا مكاتب للبريد ، فكان المكتوب الذي يأتينا من الخارج ، من العزيز المسافر ، ينتقل من يد ليد عبر من جاؤوا من البلاد التي يقطنها ، ليصل إلينا بعد لهفة وطول انتظار ، أو لا يصل أبداً . وكنا في مرحلة المراهقة والشباب ، إذا طلب منا أحدهم أن نرسل له خبراً بشيء مستعجل لدى حدوثه ، وألح علينا في الطلب ، ورغبنا في أن نسخر من طلبه قلنا له : " ما عليك ، روح بكرا ببعتلك مكتوب " وهذا يعني بأننا غير مهتمين ، وأننا غير مستعجلين على الإطلاق لإخباره . عندما وصلت إلى باريس ، وكان ذلك في شهر كانون الأول من العام 1984 ، كان موعد التسجيل في الجامعات قد انتهى ، لكنني كنت أحمل موافقة خطية من أحد الأستاذة الذين وافقوا على تسجيلي ، لذلك ، كان علي إجراء المعاملات الإدارية بأسرع ما يمكن . كنت في مكتب المعادلات ، وبعد أن خضعت لامتحان اللغة الفرنسية وأثرت استغراب الموظفات هناك لأنني لم أكن أجيد الكلام بالفرنسية في الوقت الذي اكتشفن فيه بأنني أجيد القراءة والكتابة وأنني قد أجبت على كل أسئلة قواعد الصرف والنحو بنجاح . المهم أن مديرة المكتب طمأنتني بأن كل شيء على ما يرام وبأنها سترسل الملف كاملاً إلى إدارة الجامعة وسيستغرق الأمر بضعة أيام قبل الحصول على الموافقة الرسمية . ثم قالت بأن مهمتي قد انتهت وأنهم سيستدعونني خلال أيام ، حين وصول الإذن بالتسجيل . قلت لها : " كيف ؟ " ، قالت : " سنكتب لك ! " . يا للهول ! وماذا تقصد بهذه الكلمة ؟ لم أصدقها صراحة وشككت بأنها تريد أن تتخلص مني وأن الوقت سوف يضيع وأنا بانتظار " المكتوب " . أعدت عليها السؤال بطريقة أخرى لأتأكد بأنني قد فهمت : " هل تفعلون ذلك دائماً ؟ أي تكتبون لكل الطلاب ؟ " . قالت : " نعم ! " . حيرتني هذه المرأة ولم أصدقها ، بل بقيت مسمرة في مكاني وأنا أرفض بأن أغادر قبل استجلاء ذلك الغموض : ــ كم سيستغرق وصول " المكتوب " ، سألتها بتذاكي . ــ أربع وعشرون ساعة ، قالت ، وقد بدأت تفهم شكوكي واستغرابي . لم أصدق ، وكيف يمكن لي بأن أصدق بأن " المكتوب " ذلك الشيء العزيز النادر ، الذي كنا نقبع بانتظاره شهوراً وأحياناً سنين طويلة ، يصل هنا في أربع وعشرين ساعة ؟ وكيف يمكن لهذا الإنقلاب أن يحدث في ذهني مرة واحدة وفي هذه اللحظة المصيرية ودون أن يثير في نفسي الشك والارتياب ؟ لم أصدق ، وألححت عليها بالسؤال : ــ هل هناك من وسيلة أخرى أستطيع أن أستعلم من خلالها بأن الإذن بالتسجيل قد وصل ؟ ــ نعم ، تستطيعين أن تتصلي بي في التلفون متى شئت وسأخبرك بذلك ، قالت وهي تضحك ، ثم كتبت لي على ورقة رقم التلفون ، ورقم مكتبها الشخصي واسمها : " مدام فيرراني " ! وهذا ما فعلته في كل يوم ، كنت أتصل في كل يوم " بمدام فيرراني " لأسألها إذا ما كان " المكتوب " قد وصل ، وظلت تجيبني طوال تلك المدة ، التي استغرقت خمسة عشر يوماً ، بكل لطف وأدب ووداد يخالطه شيء من الدهشة ورغبة في تقديم المساعدة ، لن أنساها أبداً . |